(في ما يلي ننشر نص محاضرة الزعيم الثانية في قاعة الندوة الثقافية في الـحزب السوري القومي الاجتماعي، كما دوّنه الأميـن جورج عبدالـمسيح.
لم يتمكن الأميـن عبدالـمسيح من تدوين هذه الـمحاضرة تدويناً كاملاً. فحدث تقطع في سلسلة الأفكار والشروح التي أدلى بها الزعيم وحصلت فجوات كانت أحياناً واسعة. ولذلك تظهر هذه الـمحاضرة دون الانسجام والـمتانة اللذين ظهرا في ارتـجالها.
مـوضـوع هذه الـمحاضرة شـرح خطـاب الـزعيـم التوجيهي الأول الذي ألقاه الزعيم في اجتماع الـحزب الـمركزي العام الأول، في أول يونيو/ حزيران سنة 1935، وإيضاح أهميته التعليمية. ونص الـخطاب مثبت في صلب الـمحاضرة. وهو يستحق شرح الزعيم له وللقضايا الـخطيرة التي تناولها، فقد كان هذا الـخطاب أول شرح تعليمي مدوّن لـمبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي وأهدافه العليا، وهو الوثيقة الأولى التي اعتمدها الـمفكرون والكتّاب لبحث عقيدة الـحزب.
وإننا نرى، في هذه الـمناسبة، أنه يحسن إبراز نقاط مهمّة في خطاب 1935 في هذه الـمقدمة أبرزها:
1 ـ حالة التزعم والولع باستعمال معانٍ مطلقة، مبهمة، كالـحرية والـمبادىء، بلا وضوح لـحرية ولا تـحديد لـمبادىء، للتغرير بالشعب واستغلاله.
2 ـ الـحالـة الاجتماعيـة ـ السياسيـة في سـوريـة، بجميع دويلاتها، التي تـجعل النظام السياسـي القائـم في البلاد ـ إن صحّ تسمية ذلك نظاماً سياسياً ـ نظاماً أساسه البيوتـات والعائـلات الكبيرة ذوات النفوذ. وقد عاد الزعيم إلى إيضاح هذه الـحالة في كتابه الأخير الصراع الفكري في الأدب السوري فقال فيها إنها «حالة القرون الوسطى». فالعائلات الكبيرة والعشائر هي القوى السياسية التي لا تزال مسيطرة في البـلاد السورية وهي التي تساعد على التجزئة القومية وهي العامل الأساسي في تقرير مصير الأمة السورية.
3 ـ إعــلان الإرادة القـوميـة الـعـامـة التي يـعبـّر عنـهـا الـحـزب السـوري القـومي الاجتماعي، وقد أصبحت تقرر شؤون الأمة والوطن وتبدّل مصيرهما السّيء.
4 ـ إظهار أضرار الأنظمة الـمذهبية والـحزبيات الدينية الـمشتملة عليها وكونها ذات فاعلية شديدة في مقاومة وحدة الشعب القومية.
5 ـ التصريح بأن نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقوم على التقليد، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا، على قوة الـخلق التي كانت كامنة في نفس الأمة السورية إلى أن ظهرت الـحركة السورية القومية الاجتماعية وأعلنت في مبـادئها أنّ النهضـة القـوميـة الاجتماعيـة تستمد روحها من مـواهب الأمـة وتاريخها الثقافي السياسي القومي.
إنّ خطـاب أول يونيو/ حزيـران 1935 هو من الوثـائق والتعاليم الأساسية في الـحركة السورية القومية الاجتماعية فهو يستحق محاضرة الزعيم التي أوضحت قيمته والقضايا الـخطرة التي عالـجها والتخطيط الإنشائي الذي اعلنه).
* * *
أيها الرفقاء،
في اجتماعنا الأول الـماضي، الاجتماع الذي كان تـمهيدياً مفتتحاً أعمال الندوة الثقافيـة للحزب السوري القـومي الاجتماعي، أعلنت بعض القـواعـد التي ترتـكز فيها نهضتنـا القوميـة، ومـما أعلنت في الاجتمـاع الـماضي أنّ مسـألـة الـحزب القومي الاجتماعي ليست مسألة حزب سياسي بالـمعنى الاعتيادي، أي حزب تتكتل فيه أشخاص أو مصالح معينة محدودة تـجتمع وتنتظم وتعمل لبلوغ غاياتها وأغراضها الـجزئية أو الـمحدودة، بل إنّ هذا الـحزب يشكّل قضية خطيرة جداً ومهمة هي قضية الآفاق للمجتمع الإنساني الذي نحن منه والذي نكوّن مجموعه.
وقضية من هذا النوع تـحتاج، لفهمها فهماً كاملاَ كلياً، إلى درس طويل عميق. لأن لكل قضية كلية، على الإطلاق، أضلاعاً رئيسية مهمّة، كل ضلع منها يحتاج إلى درس وإلى تـحليل وتعليل وإلى تفهّم تام شامل.
بديهي إذاً أن لا نتمكن من فهم قضية الـحزب السوري القومي الاجتماعي كلها بكامل أجزائها وفروعها وما تنكشف عنه من مناقب وأهداف سامية وما تتعرض له في سيرهـا من مثالب في الـحياة، إلا بالدرس والتأمل الطويل. إنّ قضية من هذا النوع تتكشف عن كل هذه الأهداف الـخطيرة تـحتاج إلى دراسة منظمة متسلسلة لا تـجمعها محاضرة واحدة أو يضمها كتاب واحد بل هي تستمر، ويستمر الفكر يتغذى منها ويتفتح على شـؤون العـالـم مطلقاً، ويظل مجتمعنا يجد في هذا التفتح وهذا الاستمرار مراقي إلى ذروة الـحياة الـجيدة التي تليق بالإنسان الراقي ويليق الإنسان الراقي بها.
لا أظن أنّ ما سأقرأه الآن يكون البداءة الأولى لقضية الـحزب السوري القومي الاجتماعي ولا التفكير الأول لها. ولكنه تفسير أوّلي، بعد أن تأسس الـحزب، وتعييـن الـمنهاج ورسم أهداف قريبة وبعيدة ضمن الاتـجاه القومي، يحسن أن نرى ما هي أهميتها. إنّ ما أقرأه الآن هو خطاب أول يونيو/ حزيران 1935، وإني أرى أنّ هذا الـخطاب يجب قراءته بكليته.
نص الـخطاب
«منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتنا القومية الاجتماعية تـجمع بين الأفكار والعواطف وتلمّ شمل قوات الشباب الـمعرضة للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية الـمنتشرة في طول بيئتنا وعرضها، وتكوّن من هذا الـجمع وهذا اللم نظاماً جديداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الـجديدة هو نظام الـحزب السوري القـومـي الاجتماعي ـ منذ تلك الساعة انبثق الفجر من الليل وخرجت الـحركة من الـجمود، وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعاناً بشرية، وغدونا دولة تقوم على أربع دعائم: الـحرية، الواجب، النظام، القوة، ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الاجتماعية الـممثلة في علم الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
«منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الـحرية والواجب والنظام والقوة، تاريخ الـحزب السوري القومي الاجتماعي، تاريخ الأمة السورية الـحقيقي.
«منذ الساعة التي عقدنا فيها القلوب والقبضات على الوقوف معاً والسقوط معاً في سبيـل تـحقيق الـمطـلـب الأعلـى الـمعلـن في مـبـادىء الـحـزب السـوري القومي الاجتماعي وفي غايته، وضعنا أيدينا على الـمحراث ووجّهنا نظرنا إلى الأمام، إلى الـمثال الأعلى، وصرنا جماعة واحدة، وأمة حية تريد الـحياة الـحرة الـجميلة ـ أمة تـحب الـحياة لأنها تـحب الـحرية، وتـحب الـموت متى كان الـموت طريقاً إلى الـحياة.
«لم يـكن للشعـب السـوري قبل تـكـوين الـحـزب السـوري القـومي الاجتماعي قضية قومية بالـمعنى الصحيح. كل ما كان هنالك تـململ من حالات غير طبيعية لا يـمكن الشعب السوري أن يأنس إليها أو يجد فيها سداً لـحاجاته الـحيوية.
«وقـد تـزعّم جماعـة تـململ الشعـب وجعلوا همّهم استثمار هذا التململ لينالوا مكانة يطمعون فيها، واستندوا في تزعمهم إلى بقية نفوذ عائلي مستمد من مبادىء زمن عتيق، تـجعل الشعب قطائع موقوفة على عائلات معينة تبذل مصالح الشعب في سبيل نفوذهـا. ورأى هؤلاء الـمتزعمون أنّ العائلة والبيت لا يكفيان في هذا العصر لدعم التزعم فلجأوا إلى كلمات محبوبة لدى الشعب، كلمات الـحرية والاستقلال والـمبادىء وتلاعبوا بهذه الألفاظ، الـمقدسة متى كانت تدل على مثال أعلى لأمة حية، الفاسدة متى كانت وسيلة من وسائل التزعم وستاراً تلعب وراءه الأهواء والأغراض، خصوصاً الـمبادىء، ففيها يجب أن تتجلى حيوية الأمة وحاجاتها الأساسية. أما الـمتزعمون فقد اتخذوا من الشعب وسيلة للتعبير عن بعض الـمبادىء، فعكسوا الآية بطريقة لبقة، وقد يكون ذلك عن جهل مطبق، وكوّنوا قضية مضحكة مبكية هي قضية جعل الشعب وقفاً على مبادئهم وتضحيته في سبيل تلك الـمبادىء. وقد كادوا ينجحون في تضحيته. وبديهي أن لا تكون هذه القضية قضية قومية إلا للذين ضلوا ضلالاً بعيداً.
«ففي هـذا الزمن الذي هو زمن تنازع الأمـم البقاء، وفي هذا الوقت الـحرج وشعبنـا تعمل فيه عوامل الفساد والتجزئة والـملاشاة القومية انبثق الـحزب السوري القومي الاجتماعي كما ينبثـق الفجر من أشد ساعات الليل حلكا ليعلن مبدأً جديداً هو مبـدأ الإرادة ـ إرادة شعب حي يـريـد سيـادتـه على نفسـه ووطنـه ليحقق مثلـه العليـا ـ إرادة الـحياة لأمة حية ـ مبدأ أنّ الـمبادىء توجد للشعوب لا الشعوب للمبادىء ـ مبدأ أنّ كـل مبدأ لا يخدم سيادة الشعب نفسه ووطنه هو مبدأ فاسد ـ مبدأ أنّ كل مبدأ صحيح يجب أن يكون لـخدمة حياة الأمة.
«ليس الـحزب السوري القومي الاجتماعي، إذاً، جمعية أو حلقة، كما قد يكون لا يزال عالقاً بأذهان بعض الأعضاء، الذين لـمّا يسمح لهم الوقت بالوقوف على الـمبدأ الـحيوي الذي ينطوي عليه الـحزب القومي الاجتماعي وعلى حاجة الأمة السورية في هذا العصر. إنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي لأكثر كثيراً من جمعية تضم عدداً من الأعضاء، أو حلقة وجدت لفئة من الناس أو من الشباب. إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها، إنه تـجدد أمة توهّم الـمتوهمون أنها قضت إلى الأبد، لأن العوامل العديدة التي عملت على قتل روحيتها القومية كانت أعظم كثيراً من أن تتحمل أمة عادية نتائجها ويبقى لها كيان أو أمل بكيان، إنه نهضة أمة غير عادية ـ أمة مـمتازة بـمواهبها، متفوقة بـمقدرتها، غنية بخصائصها ـ أمة لا ترضى القبر مكاناً لها تـحت الشمس.
«هذا هو الـحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا إيـمانهم وعقائدهم فيه، هذا هو الـحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا قوّتهم فيه، هذا هو الـحزب السوري القومي الاجتماعي للأمة السورية.
«إنّ الغرض الذي أنشىء له هذا الـحزب غرض أسمى، هو جعل الأمة السورية هي صـاحبـة السيـادة على نفسهـا ووطنهـا. فقبـل وجود الـحزب السوري القومي الاجتماعي كان مصير هذه الأمة معلقاً على إرادات خارجية وكانت أنظارنا دائماً تتجه إلى الإرادات الـخارجية بعد أن نكيّف أنفسنا وفاقاً لها. أما الآن فقد غيّر وجود الـحزب السوري القومي الاجتماعي الـموقف. إنّ إرادتنا نحن هي التي تقرر كل شيء فنحن نقف على أرجلنا وندافع عن حقنا في الـحياة بقوّتنا. ومن الآن فصاعداً تدير إرادتنا نحن دفة الأمور. كل عضو في الـحزب السوري القومي الاجتماعي يشعر أنه آخذ في التحرر من السيادة الأجنبية والعوامل الـخارجية الـمخضعة، لأنه يشعر أنّ الـحزب هو بـمثابة دولته الـمستقلة التي لا تستمد قوّتها من انتداب ولا تستند إلى نفوذ خارجي.
«الـحقيقة، أيها الرفقاء، أننا قد ترابطنا في هذا الـحزب لأجل عمل خطير جداً هو إنشاء دولتنا وليكون كل واحد منا عضو دولته الـمستقلة، والعمل ولا شك شاق فهل نعجز عنه؟
«إنّ الـجواب على هذا السؤال يختلج في نفوسنا ويتردد ضمن صدورنا، وقد يخرج من حلوقنا ولكن إثباته على صفحات التاريخ يتوقف على جهادنا. فالتاريخ لا يسجل الأماني ولا النيات بل الأفعال والوقائع. وما أشك، وهذه الوجوه الـمتجلية فيها دلائـل القوة والعـزم مـاثـلـة أمامي، في أنّ أفعالنا ووقـائعنا ستثبت حكم إرادتنا التي لا تعرف عجزاً.
«إننا قد حـررنـا أنفسنا ضمن الـحـزب من السيـادة الأجنبية والعوامل الـخارجية ولكن بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرر وطننا بكامله. وفي هذا العمل الـخطير نواجه صعوبات داخلية وخارجية يجب أن نتغلب عليها، مبتدئين بالأولى منها لأنه لا يـمكننـا أن نتغلب على الصعوبات الـخارجية تغلباً تاماً إلا بعد أن نكون تغلبنا على الصعوبات الداخلية. وأول ما يعترضنا من الصعوبات الداخلية هو خلو مجموعنا من تقـاليـد قـومية راسخة نتربى عليها ونتمسك بها. فنفسياتنا الشخصية هي دائماً في تضـارب مع نفسيتنا العامة في كل ما له علاقة بقضايانا العامة وكيفية التصرف فيها. أضف إلى ذلك التقاليد الـمتنافرة الـمستمدة من أنظمتنا الـمذهبية وتأثيرها في مقاومة وحدة الشعب القومية. ولا بد لي هنا من التصريح بـأن الـحزب السوري القومي الاجتماعـي قد أوجـد طريقة التغلب على هذه الصعوبات بنظامه الذي يصهر التقاليد الـمنافيـة لوحـدة الأمـة والنفسيات الشخصية الـمنافية لنفسية الأمة. والنجاح الأخير يتوقف فعلاً على إدراكنا قيمة هذه الـحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الـحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل هي: الـحرية والواجب والنظام والقوة. وإنّ إدراكنا لـحقيقة التغير الذي شرع الـحزب السوري القومي الاجتماعي يحدثه في حياتنا القومية يجعلنا لا نغفل عن طبيعة التغير وما يصحبه من حوادث. والـحقيقة التي تثلج صدرنا هي: أنّ السـورييـن القومييـن الاجتماعيين عموماً يؤمنون بضرورة هذا التغير إيـماناً تاماً، ويظهـرون استعدادهم التام وعزمهم الأكيد على أن يحققوا انتصار مبادىء الـحزب السـوري القـومـي الاجتمـاعـي مبتدئيـن كل واحد بنفسه. وفي هذا الصراع بين عـوامـل الرجعة وعـوامل التجدد نـؤمن بـانتصار القوى الـجديـدة، القـوى الـمجـددة، القـوى التي تريد أن تتغلب على كل ما يقف في طريقها للخروج من حالة عفنة لا نظام فيها ولا قوة، إلى حالة صحيحة عنوانها النظام وشعارها القوة، القوة الـممثلة في الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
«كذلك أريد في هذه الـمناسبة أن أصرح أنّ نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي ليس نظاماً هتلرياً ولا نظاماً فاشستياً، بل هو نظام قومي اجتماعي بحت لا يقوم على التقليد الذي لا يفيد شيئاً، بل على الابتكار الأصلي الذي هو من مزايا شعبنا.
«إنه النظام الذي لا بد منه لتكييف حياتنا القومية الـجديدة ولصون هذه النهضة العجيبة، التي ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى، وتـُحرر من تدخّل العوامل الرجعية التي لا يؤمن جانبها والتي قد تكون خطراً عظيماً يهدد كل حركة تـجديدية بالفساد، في ظل النظام البرلـماني التقليدي الذي لا سلطة له في التكييف. أضيف أيضاً أنّ نظامنا لم يوضع على قواعد تراكمية تـمكّن من جمع عدد من الرجال يقال إنهم ذوو مكانة يقفون فوق أكوام من الرجال تـمثّل التضخم والتراكم بأجلى مظاهرهما، بل على قواعد حيوية تأخذ الأفراد إلى النظام وتفسح أمامهم في مجال التطور والنمو على حسب مواهبهم ومؤهلاتهم. لقد بلغني وطرق أذني مراراً أنّ اعضاء دخلوا الـحزب متوقعين أن يروا اصحاب الـمكانة الـمتضخمة على رأسه ولكن عجبهم لم يلبث أن تـحوّل إلى إعجاب حين وجدوا أنّ سياسة الـحزب الداخلية تتجه إلى الاعتماد على القوة الـحقيقية، قوة السـواعـد والقلوب والأدمغة وليس على قوة الـمكانة. إنّ مكانة كثيرين من رجال الزمن الذي نريد أن يزول مستمدة بالأكثر من مبادىء لا تتفق في جوهرها ولا في شكلها مع الـمبادىء التي سنجدد بها حيوية أمتنا.
«إنّ مبـادئنـا القوميـة الاجتماعيـة قد كفلت توحيد اتـجاهنا، ونظامنا قد كفل توحيد عملنا في هذا الاتـجاه، ونحن نشعر أنّ التغيير يفعل الآن فعله الطبيعي.
«إنّ مبـدأ «سـوريـة للسورييـن والسوريون أمة تامـة» آخذ في تـحرير نفسيتنا من قيود الـخوف وفقدان الثقة بالنفس والتسليم للإرادات الـخارجية.
«ليست القوميـة إلا ثقة القوم بـأنفسهم واعتمـاد الأمة على نفسها. ومن هذه الـجهة نرى أنّ مبدأنا هذا يكسبنا الـحيوية الـمطلوبة لـجعل شخصيتنا القومية ذات مثال أعلى خاص وإرادة مستقلة هي اساس كل استقلال. ومبدأ «أنّ الأمة السورية مجتمع واحد» هو مبدأ يجب أن يتغلغل في أعماق نفوسنا لأنه الـمبدأ الذي يضع شخصية أمتنا فوق جميع الأهواء والنزعات الـموروثة من تربية لا تزال البعثات والـمدارس الدينية تزيد ضرامها ـ حـالـة سيكـون من أهم أعمالنا وضـع حد لها وابتـداء قومية صحيحة تـحل محلها وتكفل توحيد عواطفنا. ومبدأ «إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج» مبدأ تقرر ليقوم عليه بناء نـجاحنا الاقتصادي الذي لا بدّ منه لتوفير القوة الـمادية والـحياة الصحيحة لـمجموع الأمة.
«تـحت عـوامل مبادىء الـحزب السوري القومي الاجتماعي تسير عملية تـحرير أفكارنـا من عقـائـد مهترئـة وأوهـام قعدت بنـا عن طلـب ما هو جـدير بنا كالوهم الذي يدعو إليه فريق من ذوي النفوس السقيمة والعقول العقيمة، وهو أننا قوم ضعفاء لا قدرة لنا على شـيء ولا أمـل لنا بتحقيق مطـلـب أو إرادة، وأنّ أفضل ما نفعله هو أن نسلّم بعجـزنا ونتـرك شخصيتنـا القوميـة تضمحـل من بيـن الأمـم، ونقنع بكل حالة نسير إليها. إنّ السـورييـن القـومييـن الاجتمـاعييـن قد حـرروا أنفسهـم من مثـل هـذا الـوهـم الباطل وأخـذوا على أنفسهم تـحريـر بقية الأمة منه. هذه مسؤوليـة ملقاة على عاتق كل عضو من أعضـاء الـحـزب الســوري القـومي الاجتـمـاعـي وهي مسـؤوليـة تصغـر أمـامهـا كل الـمسؤوليات الأخر، وتعظم مع عظمها حيوية كل فرد من أفراد مجموعنا. وسورية النـاهضـة، القائمـة على القـوى الـجـديـدة الـممثلـة في الـحزب السوري القومي الاجتماعي ستكون غير سورية القديـمة الرازحة تـحت التقليد، الـمسترسلة إلى أوهام فاقدي الروح القومية وعديـمي الثقة بالنفس. إنّ سورية الـحزب السوري القومي الاجتماعي هي سورية الوحدة القومية الـمنظمة بطريقة تـجعل الـمواهب الـمخزونة فيها قوة عامة قـادرة على تـحقيق ما تريد. إنّا نؤمن إيـماناً تاماً بأن الروح الـمتولدة من مبادئنا ستنتصر انتصاراً نهائياً وتتغلب على جميع الصعوبات الداخلية، وإذا كان ذلك يحتاج إلى وقت فذلك لأن الوقت شرط أساسي لكل عمل خطير.
«أما الصعوبات الـخارجية فتهون متى تغلبنا على الصعوبات الداخلية وتـمركزت إرادة أمتنا في نظـامنا الذي يضمن وحدتها ويـمنع عوامـل القسمـة الـمتفشية خارج الـحـزب من التسـرب إلى وحدتنا الـمتينة التي نضحي في سبيلها بكل ما تطلبه منا التضحية. وفي هذه الـمناسبة لا أريد أن أتناول وجهة قضيتنا الـخارجية بتمامها فلهذه فرصة عسى أن تكون قريبة. فاقتصر على ذكر مبدأ عام سائد في التاريخ هو أنّ مصير سورية يقرر بالـمساومات الـخارجية من دون أن يكون للأمة السورية شأن فعلي فيه. وعلى هذا الـمبدأ تعتمد الدول الكبرى في مزاحمتها لبسط نفوذها علينا. وأنا أريد الآن أن أصرح أنّ إنشاء الـحزب السوري القومي الاجتماعي ونـموه الـمستمر سيتكفلان بطرد مثل هذه الوساوس من رؤوس السياسييـن الطامعيـن.
«إننا نشعـر الآن بـوجـود دعـاوة إيطـاليـة قـويـة في هذه البلاد خصوصاً، وفي الشرق الأدنى عموماً. وكذلك نشعر نحن بـمثل هذه الدعاوة من جهة ألـمانية وبـمثل ذلك من دول أخر. فـزعـامـة الـحـزب السـوري القومي الاجتماعي تـحـذر جميـع الأعضـاء من الوقوع فريسة للدعاوات الأجنبية. إننا نعترف بأن هنالك مصالح تدعو إلى إنشاء علاقات ودية بيـن سـوريـة والدول الأجنبيـة وخصوصاً الأوروبية. ولكننا لا نعترف بـمبدأ الدعاوة الأجنبية. يجب أن يبقى الفكر السوري حراً مستقلاً، أما الـمصالح الـمشتركة فنحن مستعدون لـمصافحة الأيدي التي تـمتد إلينا بنيّة حسنة صريحة في موقف التفاهم والاتفاق.
«يجـب على الدول الأجنبيـة التي تـرغب في إيجاد علاقات ودية ثابتة معنا أن تعترف، في الدرجة الأولى، بحقنا في الـحياة، وأن تكون مستعدة لاحترام هذا الـحق، وإلا فالإرادة السورية الـجديدة لا تسكت عن الـمناورات السياسية التي يقصد منها استدراج أمتنا إلى تكرار الأغلاط السياسية التي ارتكبت والتي كانت وبالاً عليها.
«إنّ مهمـة صـون نهضتنـا القـوميـة الاجتماعية هي من أهـم واجبات الـحزب السوري القومي الاجتماعي، ولن نعجز عن القيام بها على أفضل وجه مـمكن، فيمكن الدعـاوات الأجنبيـة أن تتفشى في فوضى الأحزاب ولكنها متى بلغت إلى السورييـن القـومييـن الاجتـمـاعييـن وجـدت سـداً منيعاً لا تنفذ فيه، لأن السورييـن القومييـن الاجتماعييـن حزب غير فوضـوي، ولأنهم لا يتمشون إلا على السياسة التي يقرّها حزبهم. ليسوا هم جماعة مبعثرة بل قوة نظامية.
«أعود فأقول إنّ هذه القوة النظامية ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى. ولقد شاهد أجدادنا الفاتـحين السابقين ومشوا على بقاياهم، أما نحن فسنضع حداً للفتوحات!
«تـحت طبقـة الثـرثـرة والصياح الـمنتشرة فوق هذه الأمة، يقوم السوريون القوميون الاجتماعيون بعملهم بهدوء واطمئنان، وتـمتد روح الـحزب السوري القومي الاجتماعي في جسم الأمة وتنظم جماعـاتها. ولكن سيأتي يوم، وهو قريب، يشهد فيه العالم منظراً جديداً وحادثاً خطيـراً ـ رجالاً متمنطقيـن بـمناطق سـوداء، على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة، يـمشون وراء رايات الزوبعة الـحمراء، يحملها جبابرة من الـجيش فتزحف غابات الأسنّة صفوفاً بديعة النظام. فتكون إرادة للأمة السورية لا ترد، لأن هذا هو القضاء والقدر!».
(وقد ابتـدأ الزعيم تعليقه على الـخطـاب الذي جعلـه محـور محاضرتـه فتنـاول الفقـرة الأولى منه التي تشير إلى أنّ العقيدة السورية القومية الاجتماعية تنشىء نظاماً جديداً قال):
إنّ هـذا الكـلام يتفـق مع ما شرحته في الاجتمـاع الـماضي إذ قلت: إنّ معنى النهضـة هو الـخـروج من التناقض والتضارب. إنها تعني وضوحـاً وجـلاء وصراحـة ـ نظرة واضحة، فاهمة، واعية. وهذه الفكرة الواضحة في معنى النهضة كانت ملازمة للحركة القومية الاجتماعية منذ بدئها كما جاء في الـخطاب الذي تلوته الآن والذي هو أول منهاج للحزب. «منذ تلك الساعة نقضنا بالفعل حكم التاريخ» يعني أننا بارتباطنا في وحدة العقيدة قد عكسنا قول التاريخ عنا إننا جماعة لا تـجمعها رابطة، لا تكوّن شخصية، لا تكوّن مجتمعا موحد الـحياة، بل جماعة أو جماعات من البشر متنافرة متباينة متعايشة ليس لها إرادة، لا تعمل ما تريد، بل ما يفرض عليها من الـمجتمعات الـخارجية الفاهمة التي تستخدم مجموعنا وسيلة لبلوغ أغراضها وغاياتها هي.
هذا الـخطاب يُعدّ الـخطاب الـمنهاجي الأول الذي لفظ في الـحزب السوري القـومـي الاجتمـاعـي وهو يكون، في الصحيح، أول شرح لـمبادىء الـحزب وكيفية فهمها وتطبيقها في حياتنا. وبديهي أنّ قصدنا نحن بالـمبادىء ليس صوراً جميلة على الورق فقط، بل قوة فاعلة في الـحياة ـ حياة تعمل وتنشىء وترتقي وتـحقق وتخلق. وإذا تتبعنا هذا الـخطـاب من أول فقراتـه اتضحت لنا نقاط أسـاسيـة مهمّة جداً خليق بنا أن نحيط بها وأن نفهمها فهماً لا التباس فيه.
إنّ أول نـقـطـة هي ما عـلقـتـه على نـظـرتي إلى أنّ الـحزب السـوري القومي الاجتماعي يشكل خروجاً من الفوضى إلى الاتـجاه، إلى النظام، إلى وحدة الاتـجاه. ووحدة الاتـجاه تعني حتماً وحدة النظر إلى الـحياة، لأنه لا يـمكن أن نوحد اتـجاهنا إذا لم تكن لنا نظرة واحدة إلى الـحياة والكون والفن.
القصد الأساسي في الـحزب السوري القومي الاجتماعي هو توحيد اتـجاه الأمة الـموجودة مصـغـرة في الـحزب. وإذا قـلـنـا إنّ الأمة هي الـحزب السوري القومي الاجتماعي، وإنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة، لم نقل إلا الـحقيقة الـحرفية الـمجرّدة، لأن الأمـة هي هيئـة تـحقـق فيها الوعي وحصلت النظرة الفاهمة الواضحة الصريحة إلى الـحياة والكون والفن، فحيث لا توجد هذه الأسس تظل الأمة مـوجـودة في حـالـة إمكانيـة فقط ولا تصير حقيقة إلا بعد أن يحصل الـوعي للحقائق الأساسية التي تكوّن وحدة الاتـجاه وخطط الاتـجاه التاريخي. وإننا لا نـجد هذه الأسس في سورية الطبيعية كلها إلا في الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
ولـمـا كـانـت الأمـة قد نشـأت نشـوءاً جـديـداً في الـحزب السوري القـومـي الاجتماعي كان لنا الـحق الطبيعي في أن نقول إننا «منذ الساعة التي أخذت فيها عقيدتنا القومية الاجتماعية تـجمع بين الأفكار والعواطف وتلّم شمل قوات الشباب الـمعرضة للتفرقة بين عوامل الفوضى القومية والسياسية الـمنتشرة في طول بيئتنا وعرضها وتكوّن من هذا الـجمع وهذا اللّم نظاماً جـديـداً ذا أساليب جديدة يستمد حياته من القومية الـجديدة وتعاليمها الاجتماعية، هو نظام الـحزب السوري القومي الاجتماعي. منذ تلك الساعـة انبثق الفجـر من الليل وخرجت الـحركـة من الـجمود وانطلقت من وراء الفوضى قوة النظام، وأصبحنا أمة بعد أن كنا قطعاناً بشرية، وغدونا دولة تقوم على أربـع دعـائـم: الـحرية، الواجب، النظام، القوة، ترمز إليها أربعة أطراف الزوبعة القومية الاجتماعية الـممثلة في علم الـحزب السوري القومي الاجتماعي.
«منذ تلك الساعـة نقضنـا، بالفعـل، حكم التاريخ وابتدأنا تاريخنا الصحيح، تاريخ الـحرية والواجب والنظام والقوة ـ تاريخ الـحزب السوري القومي الاجتماعي، تاريخ الأمة السورية الـحقيقي».
عندما ننتقل إلى نقطة جديدة من هذا الـخطاب، هي الـموجودة في الفقرة حيث أقول «مبدأ أنّ الـمبادىء توجد للشعوب، لا الشعوب للمبادىء ـ مبدأ أنّ كل مبدأ لا يخـدم سيادة الشعب نفسه ووطنه هو مبدأ فاسد ـ مبدأ أنّ كل مبدأ صحيح يجب أن يكون لـخدمة حياة الأمة»، نـجد نظرة واضحة في أساس الـحياة والوجود الذي تقوم عليه نهضتنا.
وهنا قـد يبدو أنّ هنالك تضاربـاً بين ما نعنيه من استعدادنـا للسقـوط في سبيل مبادئنا الوارد في فقرة سابقة وبين «أنّ الـمبادىء وجدت للحياة» لا لإفناء الـحياة. فقد يخطر للبعض هذا السؤال: كيف نبذل أنفسنا في سبيل الـمبادىء إذا كانت الـمبادىء وجدت لتبذل نفسها في سبيلنا؟
نحن نبـذل أنفسنـا في سبيـل الـمبـادىء يعني: أننا نبذل أنفسنا أفراداً في سبيل تـحقيق الـمبادىء التي في تـحقيقها تـحقيق لـحياة الأمة، وليس أنّ الـمبادىء مستقلة عن الأمة، خارجة عنها لا علاقة ولا صلة لها بها، وأننا من أجل الـمبادىء بذاتها، وليس لأنها تعني حياة الأمة، نحن مستعدون للتضحية.
نحن مستعدون لكل تضحية من أجل انتصار الـمبادىء وانتصار الأمة بوساطة انتصار هذه الـمبادىء، فإذا وجدت مبادىء لا يـمكن أن تعني حياة الأمة، فمهما كانت جميلة في حد ذاتها ومهما كانت رائعة، ساحرة، فهي لا تستحق أن نبذل النفس في سبيلها ولا أن نضحي.
حينما تعني الـمبادىء حياة الأمة الـجيدة، الـمرتقية، في هذا العراك، نحن مستعدون كلنا للتضحية لكن الذين يسقطون يظلون جزءاً من الكل يسقط في سبيل الكل، حتى إذا تـحقق خير الكل وجد الكل في هذا التحقيق ما يرضي القيم الإنسانية العليـا التي يفيض خيرها على مجموع الشعب تـحقيقـاً لـمـا يتمنى الـمرء في نفسه لأمته أولاً ولنفسه ثانياً، وليس لنفسه أولاً ولأمته ثانياً.
من هذا الشرح يظهر جيداً أن لا تناقض بين أنّ الـمبادىء توجد لـخدمة حياة الـمجتمع وأننا مستعدون لبذل النفس في سبيل الـمبادىء. كل واحد منا مستعد أن يسقط في سبيل الـمبادىء من أجل أن تـحيا الـمبادىء وأن تـحيا الأمة بهذه الـمبادىء.
فهنا توجد قـاعدة مبدئية إنسـانيـة في الـحـزب السـوري القومي الاجتماعي وهي: إنّ الـمبـادىء للانسـان الـحـي وليس الإنسـان للمبادىء. قال الدكتـور خليل سعـاده: «ليسـت الـحيـاة وسيلـة لتشريـف الديـن، بـل الديـن وسيلـة لتشـريـف الـحيـاة»، فقيمة الـمبادىء للأمة هي بـمقدار ما تعني وتعمل لـحياة الإنسان الـجيدة وليس بقدر ما هي خيالات جيدة في أدمغة بعض الـمفكرين.
من هذا الشرح يتضح أيضاً لـماذا نقول إنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي ليس جمعية أو حلقة تـحـاول أن تقوم ببعض أعمال بسيطة أو تتفاعل في جزئيات تهم هذا العدد القليل أو الكثيـر في أنفسهـم ولأنفسهم فقط،كما قد يكون عالقاً بـأذهـان بعض الناس أو بعض الأعضـاء في الـحزب الذين لم يتفهموا حقيقة الـحزب وحقيقة مهمته العظمى كما عاد فعلق بذهن البعض، بعد مرور سنين كثيرة على نشوء الـحزب القـومي الاجتماعي، الظن الـخاطىء أنه لم يكن للحزب السوري القومي الاجتماعي نظرة إلى الـحياة والكون والفن، لـمجرّد أنهم هم لم يقبلوا على تفهّم هذه النظرة التي بها تقوم رسالة الـحزب القومي الاجتماعي. ليس الـحزب السوري القومي الاجتماعي. عدداً من الناس مجتمعين للمناداة بوحدة سورية فحسب، أو للعمل للنيابة كما يعمل الـمشتغلون في السياسة متآزرين ومتكتلين لـمصلحة شخصية، خصوصية.
إنّ أرقى درجة يبلغ إليها التمثيل السياسي في الـحكومات عندنا هي عندما يقوم النائب بالعمل للمنطقة التي هو منها، أو لنفع أشخاص من منطقته أو لـمن له بهم صلات شخصية بحتة. (وأعطى الزعيم أمثلة عن عمل نواب الـمناطق الـمختلفة) هذا معظم ما يبلغ إليه الفكـر السياسي «الـمناقبـي» في الدول الـحاضرة. وهذه الدرجة العالية هي حقيـرة بالنسبـة إلى ما نرمـي إلى تـحقيقه نحن. عندما يفـوز نائب من الـحزب في أية حكومة من حكـومـاتنـا سـوف لا يكـون همـّه أن يحقـق بعض الأمـور الشخـصيـة أو الـمناطقية (نسبة إلى الـمنطقة) بل تكون مهمته القيام بـمجهود كبير قومي من أجل الـمصالح القومية عامة، كل الـمصالح الأساسية التي تتوقف عليها سلامة الأمة ومصيرها وارتقاء حياتها. فالأمور التي نُعنى بها نحن ليست جزئيات بل كليات تتعلق بحياة الأمة في أساسها، بجوهر الـحياة وتـجاه الـحياة الأسمى والأكمل والأفضل ولذلك قلت في خطـابـي: «هذا هو الـحـزب السـوري القومـي الاجتماعـي للذين وحدوا إيـمانهم وعقائدهم فيه، هذا هو الـحزب السوري القومي الاجتماعي للذين وحّدوا قوّتهم فيه، هذا هو الـحزب القومي الاجتماعي للأمة السورية».
ولـما كان الـحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة مصغرة، كان عليه أن يحسب نفسه، في حقيقته واتـجاهه وأهدافه، دولة الشعب السوري الـمستقلة. ولذلك أعلنت أنّ القومييـن الاجتماعييـن يشعرون أنّ الـحزب هو بـمثابة دولتهم الـمستقلة.
وهذا يعني أنّ الـحكومات السورية الـمستمدة من الانتداب الأجنبي، الـخاضعة للانتداب الأجنبي، لا تـمثل بالفعل إلا تلك الإرادات الأجنبية. فالـحزب السوري القومي الاجتماعي بـمجرّد نشأته الـمستمدة من إرادة الأمة هو بالفعل الدولة الصحيحة الـمستقلة فعلاً.
هذه هي النظرة الـحقيقية إلى وجود الـحزب السوري القومي الاجتماعي ولذلك عبّرنا عنه أنه دولة الأمة السورية الـمستقلة. ونحن لا نعلن هذا اليقيـن من أجل الافتخار، بل من أجـل ما نعنيه فعـلاً وهو حقيقـة جـوهرية أكيدة. ولذلك قلت: «إننا قد حررنا أنفسنا ضمن الـحزب من السيادة الأجنبية والعوامل الـخارجية، ولكن بقي علينا أن ننقذ أمتنا بأسرها وأن نحرر وطننا بكامله. وفي هذا العمل الـخطير نواجه صعوبات داخلية وخارجية يجب أن نتغلب عليها مبتدئيـن بالأولى منها».
إنّ هذه النقطة لا تزال تعني للحزب السوري القومي الاجتماعي خطة أساسية جوهرية لها الأولوية ولا بد من تـحقيقها،فالتغلب على الصعوبات الداخلية هو هدف من الأهـداف الـرئيسية التي يجب أن نبلغها أولاً ثم نتقدم إلى التغلب على الصعوبات الـخارجية إذ «لا يـمكننا أن نتغلب على الصعوبات الـخارجية تغلباً تاماً إلا بعد أن نكون قد تغلنا على الصعوبات الداخلية».
كيف يـمكننا أن نقف أمام الإرادات الأجنبية مبعثرين متنافرين متقاتليـن؟ لا يـمكننا أن نواجه القضايا الـخارجية بنجاح لـمقاصدنا في الـحياة إلا بعد أن نتغلب على الصعوبات الداخلية ونـجعل الأمة وحدة حياة ووحدة مقاصد ووحدة إرادة ووحدة مصير.
هنالك فقرة خاصة في الـخطـاب تشيـر إلى قضيـة خطـيرة من القضـايـا التي يجب علينا حلها في الـحزب السوري القومي الاجتماعي. إنّ نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد الـمنافية لوحدة الأمة. والتقاليد كما أوضحت في نشوء الأمـم ليست شكلية، سطحية، بل لها مساس بالاقتناعات العميقة في نفس الإنسان، وهي تختلف عن العادات، فالعادات هي التي يـمكن أن تتغير بسهولة لأنها تتعلق بسطحيات الـحياة أما التقاليد فلها علاقة بالاقتناعات النفسية العميقة.
فالتقـاليد التي تـمثل إما مبـادىء أو استمـرار مبـادئ ليسـت لأجـل حياة الأمة وارتقائها يجب أن تصهر لأجل الـحياة وليس لأجل أن تكون الـحياة لها. إنّ التقاليد هي، في عرفنا، كالـمبادىء، للحياة وليست الـحياة للتقاليد.
والقضية التالية هي قضية الشخصية الفردية الـمنافية لنفسية الأمة وشخصيتها وارتقائها:
من الأول رأينا أنّ النزعة الفردية والرأي النفعي الفردي الشخصي هما مرض من أعظم الأمـراض، وصعوبة من أعظم الصعوبات الداخلية التي يجب أن نتغلب عليها لنواجه العالم الـخارجي وحدة متينة وإرادة واحدة. فواضح، إذاً، كم هو صحيح هذا القول: «والنجاح الأخير يتوقف، فعلاً، على إدراكنا قيمة هذه الـحقيقة وعلى تطبيقنا رموز الـحزب الأربعة التي تربطنا ربطاً لا يحل وهي: الـحرية والواجب والنظام والقوة».
وكذلك يبدو ملحاً جداً أن نلاحظ هذا القول الـمهم: «وإنّ إدراكنا حقيقة التغيّر الذي شرع الـحزب السوري القومي الاجتماعي يحدثه في حياتنا القومية يجعلنا لا نغفل عن طبيعة التغيّر وما يصحبه من حوادث» أي أننا كنا ننتظر، وكنا ننتظر منذ البدء، أنّ هنالك حـوادث ستحـدث ضمن عملية التغيّر. إنّ أفراداً وجماعات ـ إنّ كتلاً كثيرة،كبيرة أحياناً ـ تقول: «جيد، أعطونا الـحرية لنؤيد هذا الـحزب العامل على إعطائنا الـحرية». ولكنهم لا يفطنون إلى أنّ للحرية في هذا الـحزب مقياساً يختلف عن مقاييسهم.
إنهم يريـدون أن يـأتـوا إلى الـحرية بكل السلاسل والقيود التي يرسفون فيها. يريدون أن يأتوا إلى ساحة الـحرية مكبلين، ولا يريدون أن يقطعوا هذه السلاسل التي اعتادوا رنينها حتى إنهم لا يتمكنون من النوم إلا على رنينها! إنّ الـحرية عندنا، تعني تقطيع السلاسل وكسر القيود، وأن نأبى الـحزن على تقطيعها وتكسيرها والتخلص منها!
كنا ننتظر من البدء أنّ عملية التغيير ستلاقـي حوادث من داخل الـحزب السوري القومي الاجتماعي ومن خارجه. مع ذلك ومع انتظارنا هذه الـحوادث كنت مؤمناً بأن القـوميـة الاجتمـاعيـة ستنتـصـر في الأخيـر. ولذلك قلت: «إنّ السورييـن القومييـن الاجتماعييـن، عموماً، يؤمنون بضـرورة هذا التغيـّر إيـماناً تـامّاً، ويظهـرون استعـدادهم التـام وعـزمهم الأكيـد على أن يحققـوا انتصار مبـادىء الـحـزب السـوري القـومي الاجتمـاعي، مبتدئين كل واحد بنفسه»، أي أن يبتدىء كل واحد بالـخير في نفسه فلا يعوقه عن السير في الـحياة الـجديدة نحو مطالب الـحياة الـجديدة شيء، ومعنى هذا إن قد ولدت القوة الـمجددة الصحيحة «وهي تريد أن تتغلب على كل ما يقف في طريقها، للخروج من حالة عفنة لا نظام فيها ولا قوة إلى حالة صحيحة عنوانها النظام وشعارها القوة».
والنـظـام، في عرفنـا، هو ما قلت وكررت أنه لا يعني الترتيبات الشكلية الـخارجية، بل هو نظام الفكر والنهج، ثم نظام الأشكال التي تـحقق الفكر والنهج.
النظام في عرفنا ليس مجرّد تنظيم دوائر وصفوف. النظام شيء عميق جداً في الـحياة. ولذلك قلت إنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي هو قوة ستغيّر وجه التاريخ.
ينتقل الـخطـاب من هذه الـمسائـل الأسـاسية إلى النواحي التطبيقية. ففي سير الفكـر والتسـلسل نصل إلى هذه النقطة «إنّ نظام الـحزب هو النظام الذي لا بدّ منه لتكييف حياتنا القومية الـجديدة ولصون هذه النهضة العجيبة، التي ستغيّر وجه التاريخ في الشرق الأدنى وتـحرره، من تدخّل العوامل الرجعية التي لا يؤمن جانبها والتي قد تكون خطراً عظيماً يهدد كل حركة تـجديدية بالفساد، في ظل النظام البرلـماني التقليدي الذي لا سلطة له في التكييف». وهنا نصل إلى أمور تتعلق بكيفية تطبيق منهـاج هذه النهضة. فما قلتـه يعني أننا نعتقـد أنّ النظام الانتخابـي الـحاضر لا يـمكن أن يـكـون الوساطـة الصالـحة لتحقيق الـمبادىء الـجديدة ولتحقيق التغيّر. أي لنقل الأمة من حياة وحالة حياة إلى حيـاة وحالة حياة أخرى، لأنه في هذا النظام الاستمرار والتراكم هما اللذان لهما اليد العليا في الـخلق وفي الفاعلية.
لذلك عندما كان يسألني بعض الأشخاص كيف يكون نهج الـحزب السوري القومي الاجتماعي عند استلامه الـحكم كنت أقول: «إنكم لا تفهمون الـحزب السوري القومي الاجتماعي» وكان ذلك صحيحاً لأنهم لم يكونوا دارسيـن اتـجاهات الـحزب.
كنت أيضاً أزيد أن نظامنا لم يوضع على قواعد تراكيمة؟ إننا لا نـجمع أعضاء كيفما اتفق. إنّ قواعد التراكم هي من قواعد الـجماد وليس من قواعد الـحياة. إنّ الـحياة تنمو وتنتعش وتـمتد وتتسع، أما الـجماد فباقٍ كما هو من الـخارج يتراكم... نحن قوة حيوية. نحن نفعل من داخل الـحياة ولا نقبل بالتراكم من الـخارج. نحن قوة تنمو كما ترون بقوة من داخلنا نحو الشباب والرجولة، ولا نتراكم كطبقات الـجماد. نحن قوة تنمو وتتحرك وتنفعل وتنشىء ولسنا تراكم جماد لا حياة ولا قوة له.
ولـذلك عنـدمـا أوضحـت بالـمقـاييس الـمحصورة هذه القـوة قلت إنها قوة السواعد الـحرة،قوة القلوب،قوة الشعور،قوة الإحساس الـمرهف،قوة الأدمغة، قوة التفكير والتوليد والإبداع والتصور، وليس قوة الـمكانة الـمتراكمة.
الـمكانة الاجتماعية تـمثل قوة تراكمية مع الزمن اكتسبت نفوذاً وصار هذا النفوذ يستمر ويتراكم ويقوى بـمساعدة العادة ومرور الزمن.
أما نحن فلسنا على هذه القوة بـمعتمدين: أي فرد من أفراد الأمة فيه مبدأ الـحياة هو الذي يهمّنا، أكان ذا مكانة تراكمية أم لم يكن، لأن فيه فاعلية الـحياة والنمو التي لا توجد في الأشياء التراكيمة.
من خلال هذه القواعد الارتكازية الـمختصرة التي تضمنها الـخطاب وعبر هذا الاستعراض الـموجز يـمكننا أن نعدّ أنه مبرر كل التبرير هذا القول: «إننا نؤمن إيـماناً تاماً بأن الروح الـمتولدة من مبادئنا ستنتصر انتصاراً نهائياً وتتغلب على جميع الصعوبات الداخلية، وإذا كان ذلك يحتاج إلى وقت فذلك لأن الوقت شرط أساسي لكل عمل خطير».
وبديهي أن لا ينتظـر أحـد أنّ هذا التغيير الـخطـير جـداً سيتم بين ليلة وضحاها. ولكن متى ابتدأت مبادىء الـحياة توقظ وتنشىء وتوجه، أصبحت الـمسألة مسألـة وقت، ومتى صـارت مجرّد مسـألـة وقت لم يعد هنالك من شك في النتيجـة النهائيـة. «أمـا الصعـوبات الـخارجية، فتهون متـى تغلبنا على الصعـوبات الـداخلية وتـمركـزت إرادة أمتنـا في نظامنـا الذي يضمن وحـدتها ويـمنع عوامـل القسمة الـمتفشيـة خـارج الـحزب من التسرب إلى وحدتنا الـمتينة التي نضحي في سبيلها بكل ما تطلبه منا التضحية». إذ إنّ نظامنا هو الوحيد الذي يؤمل أن يكفل لهذه الأمة مستقبلاً غير الـحالة الزرية التي تتعثر فيها.
من الأمور الأساسية في هذا الـخطاب أننا أعلنّا، منذ البدء، محاربتنا للدعاوات الأجنبية ونبهنا إلى خطر الـمطامع الألـمانية والإيطالية، ومنذ البدء أوضحنا أنه إذا كان يـمكن أن يكون هنالك أية علاقة في الشكليات مع ألـمانية أو مع إيطالية فهذا الاتفاق في الشكليات لا يعني ولا بصورة من الصور أنّ الـحزب قد استمد من تلك الـمصادر أية فكرة من الفكـر التي قام عليها. وفي الـخطاب تصريح واضح أن نبقي الفكر السوري حراً مستقلاً، لأنه متى خضع الفكر القومي لفكر أجنبي فماذا يبقى من الاستقلال؟ وإذا خضع النظر في قيم الـحياة إلى نظر أجنبي فماذا يبقى من الاستقلال»
إنّ الأمـم تتشـابـه في تشكيـلاتهـا. إنّ الأنظمة تتشابه في الدول البرلـمانية، والأساليب العسكرية تتشابه في جميع الدول. لكن التشابه بين جيش وجيش لا يعني أنّ هذا التشابه يضع إحدى هذه الأمـم تـحت إيعاز أو خضوع لأمّةٍ أخرى. كذلك إذا تشابهت بعض الشكليات بين الـحزب السوري القومي الاجتماعي ودول أخرى، فما ذلك إلا لأن بعض الأوضاع، في ذاتها، تطلب بعض الأشكال في ذاتها.
لذلك ومنذ ذلك الوقت وحيـن كان الـحزب لا يزال سرِّياً غير معروف لا من السلطـات ومن الأوسـاط الشعبية، أعـلنت للقومييـن الاجتماعييـن في اجتمـاع سـري «إننا نشعـر الآن بوجـود دعاوة من جهة إيطالية قوية في هذه البلاد، خصوصاً، وفي الشرق الأدنى عموماً. وكذلك نشعر نحن بـمثل هذه الدعاوة من جهة ألـمانية وبـمثل ذلك من دول أخـر. فزعـامـة الـحـزب السـوري القـومـي الاجتمـاعي تـحـذّر جميـع الأعضاء من الوقوع فريسة للدعاوات الأجنبية». هذا ما أعلن قبل اكتشاف الـحزب بستة أشهر وإزاحة الستار عنه للرأي العام سنة 1935.
إننا ارتبطنا لنسير على سياسة واحدة في نظام له منا كل ولائنا في الـحزب القائم على يقين كلي وإيـمان مطلق لا سبيل، معه، إلى الشكوك. فالشكوك تكوّن الـجبـن والـخوف والتردد والفوضى وعدم الوضوح. فلا سبيل لهذه الـمخاوف إلى يقيننا.
إنّ الذين لا يثقون بحقيقة قضيتهم لا يثقون بحزبهم ونظامهم ولا بشيء على الإطلاق، ومتى حلت الثقة محل الشكوك، متى حل الإيـمان محل الشك، قضى على التردد والفوضى والبلبلة. فإذا كنا نعود من الإيـمان إلى الشك كان لائقاً أن نقول بحق إننا لا نتقدم بل نتراجع.
يـمكننا أن نتقدم من الشك إلى الإيـمان، ولا يـمكننا أن نتقدم من الإيـمان إلى الشك، بل يـمكننا أن نرجع القهقرى.
بـمثل هذا اليقين بهذه الـحقيقة الصريحة الواضحة تصورت أنّ الـحزب السوري القومي الاجتماعي ينمو، يوماً بعد يوم، ليصير تلك الصفوف من الرجال «الـمتمنطقيـن بـمناطق سود على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة يـمشون وراء رايات الزوبعة الـحمراء يحملها جبابرة من الـجيش، فتزحف غابات الأسنة صفوفاً بديعة النظام، فتكون إرادة للأمة السورية لا ترد، لأن هذا هو القضاء والقدر».
بيقيـن مثل هذا فقط يـمكن الانتصار. بهذا الإيـمان بـمبادئنا،بأمجادنا،بحقيقتنا، بأننا قضية،بأننا الـخير والـحق والـجمال كله،نحقق كل ما هو سامٍ وجميل وخيّر للمجتمع.
هذا بالاختصار ما عناه خطاب أول يونيو/ حزيران 1935.