الرفيق الـحي إبراهيم حبيب طنوس،
نعتّك بالـحي، لأني لـمست نبض الـحياة في مقالاتك وفي حركتك الـحارة الـمشعة. وإني عندما أفكر بك أتـمثلك قوة من قوى الـحياة القومية الـمبعوثة في مجموع الأمة. من أجل ذلك ومن أجل أنّ الـحياة بـمناقبها ومثلها العليا ليست شيئاً عاماً مطلقاً في مجموعنا الهالك، أرى أنه يجب أن يـميّز بيـن الأحياء والأموات، وأن أعدّك واحداً من أبناء الـجيل السوري القومي الذي يفرّقه عن غيره من الأجيال فارق جوهري - الـحياة.
إني أراقب كتابتك وأسرّ بفاعليتك الـمبشرة بنتائج كبيرة. وأريد أن تكون فاعليتك غير منصرفة إلى الوجهة الواسعة من بث الروح فيكون للوجهة العميقة نصيب منها. فالفكرة يجب ألا تكون واسعة فقط، بل راسخة عميقة أيضاً لتستطيع البقاء. ولذلك أريد منك ألا تبذل كل جهدك وتصرف كل اهتمامك إلى توجيه البعيدين عن الـحركة السورية القومية نحو مبادئها ومثلها العليا فقط، وأن تخصص الوجهة الداخلية من هذه النهضة بعناية دراسية فتتعمق في درس الأشكال والتعابير التي يظهر بها العمل القومي، وتنظر هل هذه الأشكال والتعابير منطبقة على روح النهضة العميقة الفاعلة. ولكي أجعل تناول هذه الـمسألة هيناً عليك ألفت نظرك إلى مقالة رئيسية نشرت في العدد الرابع عشر من سورية الـجديدة بعنوان «نهضة سورية الأدبية». فإذا راجعت هذه الـمقالة وجدت عند آخرها هذا الاستنتاج أو التقرير النهائي - «بيد أنه كما حصل في أوروبة أخذ يحصل الآن في سورية، الخ.» فترى من قراءة هذه الفقرة والفقرتيـن التاليتيـن الأخيرتيـن أنّ النهضة السورية القومية ليست سوى نتيجة منطقية للتطور الأدبي أو «للنهضة الأدبية» في سورية أو هي وليدة «اتـجاه النهضة الأدبية اتـجاهاً قومياً». فهل هو صحيح هذا الاستنتاج أو هذا التقرير؟ وأين هي هذه النهضة الأدبية وأين هو اتـجاهها القومي الذي «ولد النهضة السورية القومية»؟ وهل هو صحيح أننا إذا جمعنا هذه الأخلاط الأدبية، الـمتنافرة، الغريبة، التي يسميها الكاتب «نهضة»، وجدنا فيها «الاتـجاه القومي» الذي «ولد» النهضة القومية؟ وهل صحيح أنّ النهضة السورية القومية ليست سوى «نتيجة منطقية» خالية من كل فن وكل إبداع، وأنها نبتت بالعوامل الطبيعية كالأعشاب أو الأشجار، فهي لا قيمة روحية لها وكل ما يقال عن زعيمها ومنشئها ليس سوى هوس خيالي فارغ أو مجرّد اصطلاح، وكل ما يسمع عن عظمة رجالها وشقهم طرقاً جديدة ليس سوى وهم شباب؟ وما هي الروحية الـجبارة التي ننتظرها من التسليم بهذا الاستنتاج والاقتناع بأنّ النهضة السورية القومية ليست سوى نتيجة مستقرة في طبيعة التطور الأدبي؟ وهل إذا أنعمنا النظر نـجد هذا الاستنتاج صحيحاً أم نـجده واهياً فاسداً، وأنّ العكس هو الصحيح، أي إنّ التطور الأدبي الـجديد، لا بل إنّ نشوء أدب جديد هو الأدب القومي الصحيح هو نتيجة للنهضة السورية القومية؟ وهل يصح أن يعتبر الاستنتاج الـمتقدم تعليماً قومياً؟
إني أرى هذا الاستنتاج وغيره الـمشاكل له من بقايا التفكير السابق للنهضة السورية القومية وفاقداً روح النهضة السورية القومية الـحقيقية. فالسوريون القوميون يرفضون كل تعليم يقول بالاعتماد على افتراض تعاقب أحداث مرتبة ترتيباً منطقياً، أي يقول بالاتكال على الطبيعة و «التطورات الأدبية» ويلغي فكرة الإبداع والابتكار اللذين تتصف بهما النهضة السورية القومية وعقليتها الـمتحررة من «التطورات الأدبية»، التي كثيراً ما تكون عاملاً ضد النهضة القومية كما هي الـحال في ما يسميه الكاتب «النهضة الأدبية». فإنك إذا جمعت كل ما أنشىء وكُتِبَ في سورية وفي العالم العربي كله وجدت أنه أخلاط متنافرة الروحية، متضاربة الاتـجاهات، متباينة النزعات توجد بلبلة يحار فيها الفكر ولا يخرج منها بشيء جلي. إنّ النهضة القومية قد حدثت على الرغم من هذه الأخلاط الأدبية التي يسميها الكاتب «نهضة أدبية» لا بفضلها. فالترجمة التي يعطيها الكاتب لنشوء الـحركة السورية هي غلط صرف.
إنّ النهضة السورية القومية طبيعية في أنها خارقة العادة والـمألوف، وأنها منبثقة من النفس السورية التي تبعث مع الأجيال، نوابغ يأتون الـخوارق والـمعجزات، لا في أنها وليدة ترتيب طبيعي يفعل من تلقاء ذاته. والفقرة الأخيرة من الـمقالة الـمشار إليها أقرب إلى روح النهضة من الترجمة التي سبقتها.
هذه الناحية من العمل القومي، ناحية التعمق في فهم طبيعة النهضة السورية القومية وإظهار فاعلية قواها العظيمة، هي ما يجب أن يعنى به القوميون النابهون، وما يجب أن يجري حوله نقاش يجلو مبهمات التعابير في ثقافتنا القومية الـجديدة. فإذا لم تـحصل العناية به فالعقيدة السورية القومية وقواها الروحية تتعرض للبلبلة والـميعان وتفقد فاعليتها ووحدة روحيتها.
مثل هذه الترجمة الأدبية للنهضة السورية القومية وكيفية نشوئها الترجمة التي وردت في «افتتاحية» العدد الـحادي عشر للديـموقراطية وعنوان الـمقالة «على حساب سورية فلتحيى الديـموقراطية». فقد ورد في هذه الـمقالة أنّ الإمبراطوريتيـن الرومانية والبريطانية كانتا في أوائل عهديهما «عنوان الـحرية والعدل والديـموقراطية تعيش الشعوب تـحت ظلهما متمتعة بشرائعها وأديانها وعاداتها القومية التقليدية، محتفظة باستقلالها الداخلي، الخ.» وهذه الترجمة غلط فاحش ولا يجوز مطلقاً أن يصدر في صحيفة سورية قومية ذاقت أمتها من الرومان والبريطانييـن القتل والتخريب والتجريد من الـحرية والكرامة القومية. ومثل هذا التعليم يجعل السورييـن يترحمون على عهديْ هاتيـن الإمبراطوريتيـن الزاهرتيـن بـ «الديـموقراطية» ويتمنون عودهما. فهل هذا ما تقصده النهضة السورية القومية؟
وآخر مقالة صدرت في العدد الأخير الـمزدوج الصادر في 15 الـجاري للكاتب الأديب نفسه بعنوان «التشريع والبيئة» ورد فيها أنّ البيئة التي نشأ فيها الـمسيح هي «بيئة مدترانية رومانية» فجرّد البيئة السورية من خصائصها السورية ونعتها بالرومانية. وهاجم حقيقة الـمسيح الـمقدسة عند الـمسيحييـن والـمسلميـن على السواء بقوله «أما الـمسيح أو بالأحرى واضعو أحكام الديانة الـمسيحية.»
إنّ النهضة السورية القومية قد اكتفت بالفصل بين الدين والدولة، فقد بيّنت في شرح مبادىء الـحزب السوري القومي الـحد الذي تقف عنده النهضة القومية من الدين، فلا يجوز تـجاوز هذا الـحد إلى بحث حقائق أو أوهام أديان معيّنة ومهاجمتها بهذا الشكل.
إنّ هذه السلسلة من الـمقالات الـمخالفة لروح النهضة السورية القومية حملتني على إرسال كتاب إلى الـمحرر أقول له فيه إنه لا يـمكنّي أن أتبنى مثلها، وإنّ عليه أن يعرض مقالاته الـمقبلة من هذا النوع على لـجنة بحث قبل النشر [ويـمكن] أن ينشرها في مكان غير تـحت «رأي سورية الـجديدة» وباسمه أو باسم مستعار إذا شاء. وإنه يجب عليه التفريق بيـن رأي سورية الـجديدة ورأيه هو الـخاص.
وهنالك مسألة حملتي في سبيل تـجريد سورية من العقلية الشرقية وإعادة عقليتها الأصلية إليها. فهذه النظرية الفلسفية الـجديدة التي قصدت بها إحداث انقلاب عظيم في نفسية الأمة، وتغيير مجرى الفكر والـمعتقدات بصورة عملية ذكرتها في خطابي في أول مارس/آذار 1938 ثم في تصريحي الـمنشور في العدد الأول من سورية الـجديدة رداً على تصريح الـمفوض الفرنسي الـجديد. وبدلاً من أن يتناول الـمحرر هذه النظرة الفلسفية الـجديدة التي يجيء بها سعاده ويبيّـن أهميتها، وكيف أنها تنقذ النفسية السورية من التخبط في أوهام الفكر الشرقي، ينشىء مقالة يترجم فيها العقليتيـن السورية والشرقية على هواه فلا يتقيد بـما عناه سعاده، ولا يشير إلى أنّ الفكرة فكرة سعاده، وأنه تأثر بها ويحاول أن يفهمها. وقد نشر مقالته[1] في العدد الرابع حيـن كنت وناموساي قيد التوقيف على الرغم من تعليمات الناموس الأول إليه بوجوب إعطاء الفكرة مقامها وتعييـن مصدرها. وإنّ هذا الـخطأ الـمقصود من الـمحرر يحمل على التساؤل عند مبلغ فهمه النفسية السورية والتصرف وفاقاً لها. إنّ هذه الفكرة الـجديدة التي صرّحت بها يجب ألا تخمد في رطانة أدبية وتضيع قيمتها وفاعليتها بابتذالها على هذا الشكل، فيجب العودة إلى هذا الـموضوع وأعتقد أنه يـمكنك أنت أن تتناول هذا الـموضوع فتكتب بعض مقالات مثلاً، بعنوان «سعاده ينقذنا من بلبلة النفسية الشرقية ويعيد إلينا نفسيتنا الأصلية»، ويـمكنك أن تتبادل الفكر حول هذا الـموضوع مع الرفيق أسد الأشقر الذي تعيّـن «الوكيل العام لـمكتب عبر الـحدود» وسافر منذ أيام إلى حيث يتولى شؤون مكتبه الـجديد. وأعطيك عنوانه.
أهنئك بعملك وأهنىء الرفيق وليم بحليس باجتهاده.
وسلامي للرفقاء والأصدقاء. ولتحيى سورية.
A.P. Aschkar
Superi 2948
Buenos Aires
Rep. Argentina