لـمحة واحدة على برقيات أي يوم تظهر لنا أنّ زيادة التسلح وتعاظم أرقام الاعتمادات هما الظاهرة الـمسيطرة في سياسة كل دولة تعتقد أنّ لها مصالح ستحتاج للدفاع عنها بالقوة في العراك العنيف الـمقبل. حتى أنّ عدداً من الدول لم تكن فيما مضى تفكر بالتسلح، أو تهتم للحرب أصبحت الآن تهتم لها وترصد الـمبالغ الضخمة لدوائرها الـحربية البرية والبحرية، كدول سكندينافية وغيرها.
وليست الأرقام التي رأيناها في عدد أمس من النهضة والتي يطلب رصدها رئيس وزارة بريطانية العظمى، للدفاع القومي ومواجهة الطوارىء والقيام بالتعهدات السياسية، مفاجأة غريبة لـمتتبعي حوادث السياسة الإنترناسيونية. فالـحقيقة أنه قد آن لكل أمة لها حق في الـحياة وتريد إدراك هذا الـحق أن تعلم أنّ السياسة الـحاضرة هي سياسة حرب، وأنّ الـحرب هي طريقة عملية ضرورية للأمـم التي لا تريد أن تنزل عن مستوى معيشتها وتـمدنها أو التي تريد ترقية مستوى تـمدنها ومعيشتها في تزاحم الـجماعات وصراع الأمـم.
إنّ الـحرب ليست ضرورية في عُرْفِ بعض النظريات الفلسفية، خصوصاً لفلاسفة الأمـم التي نالت حظها من [موارد] الدنيا. ولكن حاجات الأمـم وعوامل السيطرة السياسية الاقتصادية تـجعل هذه الفلسفة شأناً من شؤون الدراسات العقلية، لا أساساً لاتـجاهاتها السياسية بناءً على مطاليبها وإمكانيات نـموها وحاجاتها الـمسلحة. والعالم لا يزال بعيداً جداً عن زمن حل مشاكل جميع الأمـم بإنشاء تشريع إنترناسيوني عادل يعترف لكل شعب بحق الـحياة واتخاذ تدابير لـحماية هذا الـحق. فلا مندوحة للأمة التي تريد أن تـحيا وأن تتقدم عن الأخذ بـمبدأ أساسي هو مبدأ حق الدفاع عن الـحياة ومواردها.
ولا شك في أنّ البحث في مسألة إيجاد سلم دائم ليست مسألة فلسفية أو علمية بقدر ما هي مسألة سياسية، أي مسألة مصالح الأمـم أو الـجماعات وعلاقاتها بعضها ببعض. فكل تسوية إنترناسيونية هي تسوية مصالح أمـم عن طريق الاجتهاد السياسي الـمستند إلى الـحالة الراهنة وإمكانيات العمل، وإلى بُعْد النظر في الاحتياط للمستقبل. ويدخل في هذا الاجتهاد عوامل وخفايا معقدة لا يـمكن للدارس البسيط إدراك مدى تأثيرها على حياة الأمـم ومقدار العدل أو الإجحاف الناشىء عنها.
فعندما يقول السيد تشمبرلن[1] إنّ مثال الـجمعية الأمـمية الأعلى مثال رائع وإنه يرفض التصديق «أنّ هذا الـمثال لن يحقق في الـمستقبل، ولكن لا نلم أنفسنا الآن إذا تصورنا أنه قريب منا جداً، إذ إنّ تـحقيقه يحتاج لـجهود صادقة. وستأخذ الـحكومة البريطانية على نفسها بذل قسمة كبيرة من هذه الـجهود»، عندما يقول ذلك يتكلم باسم الـمصلحة البريطانية والسياسة البريطانية التي تسهر عليها الـحكومة البريطانية، التي «ستأخذ على نفسها بذل قسمة كبيرة من هذه الـجهود.»
كل سلمٍ مبني على حرب لا يثبت إلا بالـحرب. وكل أمة تريد ألا يـموت حقها يجب أن تستعد للحرب.
«إنّ النهضة القومية تعترف بأنه ليس أفضل من تنازل بعض الأمـم عن حقّها في الـحياة لتوطيد سلام دائم وبأن سورية ليست ولا تريد أن تكون من هذا البعض» هذه هي النظرية السورية الـجديدة التي يعبّر عنها الزعيم. وهي نظرة تضع سورية في مصاف الأمـم الـحية الـمدركة مبادىء الـحياة والعاملة بها.
إنّ مبدأ حياة الأمـم هو أن تنظر كل أمة في مصالح حياتها بالنسبة لـمصالح حياة الأمـم الأخرى ولـمطالبها العليا. وكل أمة لا تنظر في وحدة مصالـحها وتسمح لهذه الـمصالح بالتفكك والانقسام بعضها على بعض في تـحزبات طبقية لا تعاونية، أمة يأكل بعضها بعضاً بينما الأمـم الأخرى تنتظر ضعفها لتلتهمها جملة.
وما دام العالم عالم تنازع مصالح الأمـم، فسياسة الـحرب ركن أساسي من أركان السياسة القومية كسياسة السلم.
بهذه النظرة الصحيحة ندرك جيداً أنّ الـحرب ليست مسألة همجية أو مدنية، بل مسألة مصالح أمـم لها حاجات وضروريات ترتقي وتزيد بتقدم التمدن وازدياد العمران.
نحن الآن في هذا الظرف الذي يحتاج إلى سياسة الـحرب. والأمـم التي نالت بالـحـروب والسياسـات الاستعماريـة حظاً كبيراً من موارد الدنيا تريد الآن التأهب للدفاع عن حظها ضد الأمـم التي تتأهب لأخذ ما ترى أنها تـحتاج إليه من هذه الـموارد.
قلنا في مقالة أمس إنّ مباحثات بريطانية وإيطالية وألـمانية هي الـمحاولة الـجدية لتأجيل الـحرب الـمقبلة بسرعة. ولكننا نعتقد أنّ هذه الـمحاولة قد تفلح في الوصول إلى غرضها الـخاص ولكنها ستعجز عن إلغاء سياسة الـحرب، لأن كل تسوية تنشأ عن هذه الـمفاوضات ستكون مبنية على مصالح بعض الأمـم الكبرى القومية ومجحفة بـمصالح بعض الأمـم الكبرى والصغرى الأخرى.
نحن الآن وسط سياسة الـحرب.