عالـجت النهضة في أعداد سابقة مسألة النظام البرلـماني والنظام الدكتاتوري. ووصفت ما آلت إليه الـحالة في لبنان في جلسات مجلس النواب الـمبكية الـمضحكة. ونرى أن نعود إلى هذا البحث، لأن ما نشرته النهضة في هذا الصدد قد يكون حُمِل على غير محله وأوّله ذوو الأغراض تأويلاً بعيداً عن القصد.
يخلط الناس كثيراً بين الديـموقراطية والبرلـمانية وبين الاستبداد «الدكتاتورية» والطغيـان، حتى ليجعلوا النظام البرلـماني مرادفاً للديـموقراطية والطغيان مرادفاً للاستبداد الديـموقراطي. فإذا انتقد الـمجلس توهّم الناس أنّ الـمراد من هذا الانتقاد قتل إرادة الشعب، وإذا حبذ أحد الاستبداد العادل ذهب بعضهم إلى أنّ الطغيان هو الـمقصود بالتحبيذ.
الـحقيقـة أنّ معضلة التمثيل الـمدني والسياسي في سورية كلها ليست معضلة شكلية فقط يـمكن أن تـُحلّ بحلٍ مسألة النظام أيكون برلـمانياً أم دكتاتورياً. فلو ألغي اليوم الـمجلس اللبناني وأقام فردٌ من الـمركب الـحكومي الـحالي نفسه حاكماً بأمره، فهل تـزول ويلات الشعب وتضمحل أزمته الاقتصادية الـخانقة ويأخذ العدل وحده مجراه وتنتفي حوادث القلق الاجتماعي الاقتصادي؟
لا نعتقد أنّ شيئاً من ذلك يحدث، بل نعتقد أنّ الـحالة تسير من سيِّىء إلى أسوأ وتكون الـمسألة مسألة طغيان على إرادة الشعب وإقامة إرادة الفرد مقام إرادته فيكون النظام قد تغيّر ولكن البلية تكون قد تعاظمت.
إنّ الـمسألة السائدة في لبنان والشام اليوم هي مسألة التنازع على الـحكم لـمجرّد الـحكم، ومحبة في الـحكم والانتفاع من الإدارة. فإدارة الدولة للسياسيين القدماء هي مصلحة من مصالح الانتفاع الشخصي الـمادي أو غيره. ولذلك نرى الـمطامع الفردية هي أساس التمثيل والـمناورات في الـمجلسين، مع الاعتراف لـمجلس الشام بوجود مسألة وطنية له، بينما النيابة في لبنان تستند بالأكثر إلى تـحسس ميل الـمفوضية ليوافق النائب هذا الـميل من أجل منفعته.
في رد الزعيم على خطاب غبطة البطريرك الماروني وردت هذه العبارة: «قد يعطي الشعب حكومة واحدة معيّنة انتداباً مطلقاً يسلّم فيه إليها حق فعل ما تراه مناسباً لـخير الأمة وارتقائها، لأنه يثق بها ثقة مطلقة. إذ لا يجوز أن يقوم الـحكم الـمطلق إلا على أساس الثقة الـمطلقة». وهذه الثقة الـمطلقة هي ما نرى مثاله الأعلى في الـحزب السوري القومي الذي تقوم زعامته على ثقة مطلقة من مجموع الـحزب، بناءً على ما وضعه الزعيم من مبادىء وبرامج وأهداف لـمصلحة الأمة.
على أساس هذه القاعدة الواردة في خطاب الزعيم يـمكننا أن نـميّز جيداً بين ما هو استبداد عادل وما هو طغيان، وبين ما هو ديـموقراطي وما هو برلـماني فإن الثقة الـمطلقة هي أساس ديـموقراطي، إذ فيها تتجلى إرادة الشعب أو إرادة الـمبادىء العامة العائدة لـخير الأمة مع وجود الثقة التامة بـمن يـمثلها.
إنّ الـمستبد العادل لا يـمكن أن يكون وليد النظام البرلـماني الفاسد، بل لا بد أن يكون وليد نهضة مجددة يحمل رسالتها ويعمل لتحقيق مبادئها. الـمستبد العادل يجب أن يكون دائماً ذا رسالة عامة معيّنة، وغير صاحب الرسالة العامة الـمعيّنة إذا استبد كان طاغية يسخّر الشعب لأغراضه ويكون منه بلاء عظيم.
لا مشاحة في أننا قد سئمنا مـماحكات الـمجلس النيابي اللبناني السقيمة، ومجادلاته العقيمة ومهازله الغريبة. ففي النظام البرلـماني، من حيث هو نظام، قتلٌ لوقت كثير مفيد في سماع مناقشات شخصية وآراء هزيلة وضياع مصالح عامة في وجهات نظر نفعية، ومتى كان النظام البرلـماني مكمَّلاً بجيش من النفعيين والـخالين من أي فهم للمصلحة العامة كان طامة كبرى. فنحن نقول إنّ النظام البرلـماني لا يصلح لإنقاذ الأمة، وإنّ زمن السياسيين النفعيين الـمستغلين قد مضى، ولكننا لا نريد في محل النظام البرلـماني طغياناً يعيدنا إلى عصور الهمجية ويقتل إمكانيات تطور الشعب.
إنّ الشعـب قد أصبح في حاجة إلى تغيير نظامه وتغيير رجاله الذين لا يـمثلون سوى منافعهم. ونحن نقول إنه لا تُنقَذ الأمة إلا بـمستبد يـمثل مصالح الأمة ونهضتها.
إننا نقـول بالاستبداد الـحائز على الثقة الـمطلقة ولا نقول بالطغيان الـمستند إلى القوة الغاشمة ورعونة الفرد.