كنت حدثاً 1عندما نشبت الحرب الكبرى سنة 1914 ولكن كنت قد بدأت أشعر وأدرك. وكان أول ما تبادر إلى ذهني، وقد شاهدت ما شاهدت، وشعرت بما شعرت، وذقت ما ذقت، مما مُنِيَ به شعبي، هذا السؤال: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ ومنذ وضعت الحرب أوزارها أخذْتُ أبحث عن جواب لهذا السؤال وحلّ للمعضلة السياسية المزمنة التي تدفع شعبي من ضيق إلى ضيق فلا تنقذه من دب إلا لتوقعه في جب.
وكان أن سافرت أوائل سنة 1920 وقد بُعِثت الأحقاد المذهبية من مراقدها والأمة لـمّا تدفن أشلاءها.
ولم تكن الحال في المهجر أحسن إلا قليلاً. فقد فعلت الدعاوات فعلها في المهاجرين فانقسموا شيعاً. وكانوا كلهم سوريين. ولكن فئة كبيرة منهم خضعت للنعرات المذهبية. فنشأت هناك أيضاً الفكرة اللبنانية التي هي نتيجة بقاء زعامة المؤسسات الدينية وسلطانها ونفوذها.
وبديهي أني لم أكن أطلب الإجابة على السؤال المتقدم من أجل المعرفة العلمية فحسب. فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر. وإنما كنت أريد الجواب من أجل اكتشاف الوسيلة الفعالة لإزالة أسباب الويل. وبعد درس أوليّ منتظم قررت أنّ فقدان السيادة القومية هو السبب الأول في ما حل بأمتي وفي ما يحل بها. وهذا كان فاتحة عهـد درسـي الـمـسألـة القـوميـة ومسـألـة الجماعات عموماً والحقوق الاجتماعية وكيفية نشوئها. وفي أثناء درسي أخذت أهمية معنى الأمة وتعقّده في العوامل المتعددة تنمو نموها
الطبيعي في ذهني. وفي هذه المسألة ابتدأ انفرادي عن كل الذين اشتغلوا في سياسة بلادي ومشاكلها القومية. هم اشتغلوا للحرية والاستقلال مطلقين، فخرج هذا الاشتغال عن العمل القومي بالمعنى الصحيح. أما أنا فأردت «حرية أمتي واستقلال شعبي في بلادي» والفرق بين هذا المعنى التعييني والمعنى السابق المطلق واضح. وكنت أحاول في جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي اتفق لي الانخراط فيها أو تأسيسها أو الاتصال بها أن أوجه الأفكار إلى ما وصلت إليه فلم أوفق كثيراً.
ويمكنني أن أعيّن موقفي بالنسبة إلى موقف المتزعمين السياسيين من بني قومي بأن موقفي أخذ يتجه رويداً حتى ثبت على الأساس القومي، بينما موقفهم كان ولم يزل على الأساس السياسي. والسياسة من أجل السياسة لا يمكن أن تكون عملاً قومياً.
بنـاء علـيه ولما كـان العمل القومي الشامل المتناول مسألة السيادة القومية ومعنى الأمة لا يمكن أن يكون عملاً خالياً من السياسة، رأيت أن أسير إلى السياسة باختطاط طـريق نهضة قومية جديدة تكفل تصفية العقائد القومية وتوحيدها وتوليد العصبية (Esprit de corps) الضرورية للتعاون القومي في سبيل التقدم والدفاع عن الحقوق والمصلحة القومية.
ولما كانت دروسي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، وإلى تعيين مصلحة أمتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الداخلية والخارجية، وجدت أن لا بد لي من إيجاد وسائل تؤمِّن حماية النهضة القومية الجديدة في سيرها. ومن هنا نشأت فيَّ فكرة إنشاء حزب سرّي يجمع، في الدرجة الأولى، عنصر الشباب النزيه البعيد عن مفاسد السياسة المنحطة. فأسست الحزب السوري القومي ووحدت فيه العقائد القومية في عقيدة واحدة هي «سورية للسوريين والسوريون أمة تامة»، ووضعت مبادىء الجهة الإصلاحية كفصل الدين عن الدولة وجعل الإنتاج أساس توزيع الثروة والعمل وإيجاد جيش قوي يكون ذا قيمة فعلية في تقرير مصير الأمة والوطن، واتَّخذْتُ الصفة السرية للحزب صيانة له من هجمات الفئات التي تخشى نشوءه ونموه ومن السلطات التي قد لا ترغب في وجوده. وجعلت نظامه فردياً في الدرجة الأولى مركزياً متسلسلاً (Hierarchique) منعاً للفوضى في داخله واتقاء نشوء المنافسات والخصومات والتحزبات والمماحكات وغير ذلك من الأمراض السياسية والاجتماعية، وتسهيلاً لتنمية فضائل النظام والواجب. ولقد وضعت كل ذلك وأسست الحزب بصرف النظر عن وجود الانتداب أو عدم وجوده، فالحزب لم ينشأ خصيصاً لأن الانتداب موجود، بل لجعل الأمة السورية موحدة وصاحبة السيادة على نفسها والإرادة في تقرير مصيرها. ولما كان الانتداب أمراً عارضاً فإن النظر في موقفه وموقف الحزب منه يأتي في الدرجة الثانية أو الطور الثاني، السياسي. ولذلك فالحزب ليس مؤسساً على مبدأ كره الأجانب أو (Chauvinisme) بل على مبدأ القومية. وأما أنّ تطبيق الانتداب قد ساعد كثيراً على انتشار الحزب في مدة وجيزة وقوّى الدوافع على إنشائه فذلك من المسائل الفرعية التي لها أهميتها المحدودة. وإذا كانت المسألة القومية تتجه بطبيعتها نحو تنازع البقاء بين السيادة القومية والانتداب فذلك أمر من طبيعة القومية وطبيعة الانتداب. أه. بإيجاز.
سجن الرمل - 10 ديسمبر/كانون الأول 1935
أنطون سعاده
[1] كان حميد فرنـجية أحد الـمحاميـن الذين تقدموا للدفاع عن سعاده في «الـمحكمة الـمختلطة» الفرنسية إثر انكشاف أمر الحزب، وقد كتب سعاده هذه الرسالة من السجن بناءً على طلب منه.