حضرة الرفيق يوسف الغريّب،
تسلمت هذه الساعة كتابك ووقفت منه على مبلغ سمو مقامك حتى أنك عمدت إلى «ترويق خاطرك» قبل أن تعمد إلى الـجواب على كتاب «الرفيق العزيز» إليك. وهذه النفسية الـخصوصية التي تريد أن تفرض ذاتها على النظام والإدارة والقيم الروحية والـمادية لم تكن مجهولة عندي، فقد خبرتها في عدة مواقف خصوصاً موقف إعطاء سياسة الـحزب السوري القومي وجهة نظرها الـخصوصية تـجاه الرأي العام، الأمر الذي دعا الزعيم إلى ترك كل صفة شخصية جانباً حيـن الكتابة إليك. ولكني صبرت عليها من أجل انتظار الإصلاح الـمقبل إذا كان مـمكناً. والآن أرى أنّ كل التساهل الشخصي من قِبلي صار عندك كأنه حق لك عليّ شخصيّاً، أو على مقام الزعامة، حتى أنك أجزت لنفسك وأنت تخاطب زعيمك أن تقول إنك «لم تستغرب» لهجتي! وإنـما «عوّدتك عليها»! وهذه تعابير لا يستعملها في هذا الـموضوع إلا من يتململ من «تقيّده بناموس الأرض وشرائع ساكنيها». ولهجتك هذه هي الغريبة التي لا يستغربها إلا من لم يعرفك حق الـمعرفة في وضعك نفسك حيث ترغب في أن تكون لا حيث يـمكن أن تكون. هذا بالقياس إلى «ناموس الأرض وشرائع ساكنيها» أما في علو سمائك ومشتهى «أحلامك» فهناك يضيع كل ناموس أرضي وكل قياس إنساني. فسبحانك في ملكوتك.
ما تقدم جواب لهجتك وكيفية خطابك. أما محاولتك التنصل من تكليفي إياك العودة إلى مقابلة ناموس السفارة البريطانية السيد «تشيتم» إذا تسنّى لك ذلك، ومن تكليفي إياك الاتصال بي ولو تلفونياً قبل سفرك، فمن أغرب الـمحاولات الصادرة عن شخص يظن فيه الإدراك العادي الـجيد.
صحيح أنّ قدومك إلى بوينُس آيرس لم يكن لـمهمة حزبية ولذلك قلت في كتابي السابق إليك «بـمناسبة إحدى زياراتك لـمدينة بوينُس آيرس كلّفتك، الخ.»
وعجيبة هي ذاكرتك التي تذكر أشياء وتنسى أشياء، حتى أنها نسيت أنك أنت الذي استأذنت للنزول إلى الشارع وصرف السيد الذي كان ينتظرك وأنا لا أعلم بوجوده قبل استئذانك. فأجبتك «تفعل حسناً بصرفه»، أي أني رأيت ذلك ضرورياً. فأنت قد تذكرت بعض أجزاء الـحديث الذي حدثتك به ونسيت أو تناسيت غرضه وجوهره. فأنا لم أحدّثك عن «تاريخ تأسيس الـحزب»، ولا عن «الـمخاطر التي كانت تـحدق بالزعيم والرفقاء»، ولا عن «سجني وأعمال حكومة الانتداب وأذنابها»، ولا عن «سفرتي إلى أميركة واصطحابي [أسد] الأشقر وخالد أديب وما جرى للزعيم مع كل واحد منهما»، ولا عن «الضرر الأدبي الذي أحدثه الأشقر مدة إقامته في البرازيل»، ولا عن «مجيئي إلى الأرجنتيـن وعن خيانة خالد أديب»، ولا عن «إيجاد عمدة مالية تأخذ على عاتقها تنظيم خزينة الـحزب»، فهذه موجودة في الوطن، ولا عن «القيام بـمصاريف مكتب الزعيم»، ولا عن «الـخربطة الـموجودة في صفوف الفروع»، ولا عن «حالة الـمسجونين في بيروت وكيفية جمع كمية من الـمال لإعاشتهم»، ولا عن شيء مـما ذكرت وعددت.
إنّ ما حدثتك فيه كان في صدد ما كتبته إلى الصديق عبود سعاده بشأن التبرعات التي أرسل يخبرني بها، وإنّ قصدي كان إيضاح الفكرة الأساسية لكتابة الرفيق جبران مسوح إلى بعض الفروع والــمناصرين. ورأيت أن أشرح لك ذلك بشيء من التفصيل والأمثلة، وذلك لـحسن ظني بك ولتقريبك أكثر إلى فهم بعض الأمور الداخلية ليساعدك ذلك على إعطاء آراء مفيدة للمهتميـن، عند اللزوم، ولتتمكن من إيضاح بعض الأمور للصديق عبود سعاده منعاً لـحصول أي سوء تفاهم معه. وهنا أوضحت لك أنّ أشد حاجة الزعيم في هذه الظروف، وهو بعيد عن الـمركز الإداري، هي إلى أفراد جيدي الفهم يعرفون كيف يعاونون الزعيم بدلاً من عرقلة خططه وأعماله بـمحاولة كل منهم التصرف بالأمور والقيم على هواه. وفي هذا الـحديث ضربت لك بعض الأمثال مـما جرى لأزيدك اطلاعاً. حتى أني أبديت تذمري من كثرة الرفقاء الذين، لعدم رسوخ النظام في روحيتهم وتفكيرهم، يريدون تفسير الأمور وتسييرها على هواهم ومن هذا التذمر يصيبك رشاش. وقد كان تذمري هذا أمامك شرفاً لك لو نظرت إلى حقيقة الزعيم ومركزه في الـحركة القومية. ولم أكن بحاجة للتذمر أمامك لولا حسن ظني بك ومحاولتي تقريبك أكثر لتفهم الزعيم والـحركة، كما كنت أود. فالزعيم بصلاحياته الدستورية هو ليدير ويعطي تعليمات ويقود ويسنّ قوانيـن وليحاسب الـمسؤوليـن، لأنه الـمبايع على كل ذلك. فإذا اختار الزعيم سلوك غير هذا الطريق أحياناً مع بعض القومييـن فيكون تساهلاً وإكراماً منه. وأحياناً يكون ذلك في غير محله كما يتضح من الاختبار.
هذا ما كان حديثي إليك، ضارباً صفحاً عن صفة الزعيم الرسمية تـجاه أحد الرفقاء الـجدد. والفرق بينه وبين تـحريفك كبير جداً. ومن غريب أمر ذاكرتك، وإقامتك إياها مقام النظام الإداري لـمكتب الزعيم، أنك لم تشأ فقط نسيان أمر الـمهمة التي كلّفتك تنفيذها إذا استطعت، بل شئت، فوق ذلك، نسيان أنك لم تكن «طول مدة حديثي صاغياً...»، وأنك تـحدثت وتطرقت إلى ذكر ما صار إليه أمر اتفاقية كنت عازماً على عقدها مع السيد توفيق سعاده للقيام بتجارة سكر، وما كان من أمر صفقة تـجارة السكر التي قام بها السيد عبود سعاده بالاشتراك مع أخيه أو شخص آخر، وما كنت تتوقع من وراء ذلك وما ترتأي أنه كان يجب أن يكون وغير ذلك كالالتقاء بالـحمامات الـمعدنية وشؤون أخرى. أما الـمهمة فقد كلّفتك تنفيذها وإعطائي جواباً عنها في ختام الـحديث وأطلعتك على إسم قنصل بريطانية الـمرسل إليّ من البرازيل لتذكره للسفارة البريطانية. وقد خرجت من عندي واعداً بأنك ستحاول القيام بالـمهمة. وأنا لم أطلب محاسبتك على عدم قيامك بها. بل على عدم إعطاء بيان لـمكتب الزعيم عما صار إليه تكليفك لينظر فيه، كما يظهر ذلك بجلاء من نص كتابي الإداري الأخير إليك. وهذا بصرف النظر عن إمكانك القيام بالـمهمة كتابة من محل إقامتك. ولكنك شئت أن تنسى كل هذه التفاصيل وأن يكون نسيانك فوق كل مسؤولية وكل نظام وكل مرجع وكل قانون وكل يـميـن، وأن تتوقع، فضلاً عن ذلك، لهجة غير اللهجة الإدارية الـمحاسبة وكفى بـمشيئتك قانوناً ونظاماً.
وقد صدرت مشيئتك السنية بتكليف قيّم الفندق الذي كنت نازلاً فيه «أن يبلّغني كيف كان سفرك وليعتذر باسمك»! وهذا منتهى الـجهل والعبث. فهل يصلح قيّم أحد الفنادق واسطة بيـن الزعيم وأحد الـجنود العامليـن تـحت قيادته؟ وهل يليق تبليغ الزعيم أموراً مطلوبة من أحد الأعضاء مباشرة بواسطة قيّم فندق غريب، خصوصاً في مثل هذه الظروف والـمهمات والـمواقف؟
هنا قد انقلبت جميع الوضعيات النظامية والقياسية. ومن فمك أدينك. فموقفك في هذا الـحادث يجعلك تـحت مسؤولية الإهمال وخرق النظام والـحنث باليميـن، أو في موقف من يضع نفسه فوق السلطة الـمقيد بها. فاعتذارك كان يجب أن يقدّم منك رأساً إلى الزعيم مع بيان عما صار إليه أمر الـمهمة. وكان يـمكنك تقديـمه كتابة من محل إقامتك. ولكن مشيئتك العلوية قضت بعدم الـحاجة لذلك وباستعمال اللهجة الـموافقة لهذا القضاء. وكان أني شئت التساهل معك هذه الـمرّة أيضاً فأبقيت الـمسألة كل هذه الـمدة لإعطائك فرصة كافية لـمراجعة نفسك واحتياطاً لـمصلحتك لعلك في سفر أو في مرض أو في فرح طام. ولكن هذا التأخير لا ينقص شيئاً من الـمسؤولية الـملقاة عليك، مهما يكن من أمر مشيئتك الكلية السلطان، فهي لا محل لها في النظام القومي الذي لا يعرف غير الـمشيئة الدستورية. وبعد هذا وذاك فعندي أشغـال أخرى وبعضها أهم قليلاً من أمر إفهامـك وجـوب التقيـد بالنظـام ومحاسبتك على شذوذك. وهذا هو سر «الأشهر العديدة». أما قولك «وهكذا رجعت إلى مقر أشغالي من غير أن يخطر ببالي أنّ الزعيم يؤوِّل رجوعي إلى مقر عملي كعمل شاذ» فهو تـحريف للكلم عن مواضعه. فالزعيم لم يؤوِّل رجوعك إلى مقر عملك أي تأويل. والزعيم لم يحاسبك على كيفية سفرك ومدة إقامتك ولا على شيء من خصوصياتك. وإنـما يحاسبك على إهمال مهمة كلّفك بها وعلى عدم تقديـم بيان بـمصير التكليف. وإذا كنت نسيت الـمهمة فالزعيم لا يحمل جريرة نسيانك، بل تـحملها أنت. ولو لم يكن الزعيم كلّفك لـما كان طلب منك تقديـم حساب، فقد سبق له أن كلّفك مرة في الـماضي وأثنى على قيامك بالـمهمة، وقدّر مسعاك الذي أفسدته فيما بعد بـمقالتك التي انتحلت فيها صفة التعبير عن موقف الـحزب، وهذا وحده، كاختبار شخصي لك، كان يجب أن يكون كافياً ليوطد الثقة في نفسك بأنّ الزعيم لا يظلم أحداً ولا يجرّد أحداً من قيمته أو حقه أو جزائه.
ولكن هو غرورك وجهلك الأمور الإدارية وطبيعتها. فأنت تـمزج الإدارة بالـخصوصيات، ولذلك كنت تتوقع أن يخاطبك الزعيم بلهجة حبية أخوية، كعادته في الشؤون الـخصوصية، حتى في الشؤون الإدارية. ولذلك تسوغ لنفسك إبداء ملاحظات على «اللهجة» التي خاطبتك بها وهي لهجة الزعيم الإدارية مع أي كان من القومييـن النظامييـن كائناً من كان، ولا استثناء لسمو غرورك فيها. فالزعيم كان يخاطبك في غير الـمسائل الإدارية كأخ ناصح وبروحية صديق. وهو إكرام منه لك. ولكنه حيـن خاطبك إدارياً رفع كل صفة شخصية. وفي الإدارة والسياسة والقضاء لا تدخل الـخصوصيات الشخصية. حتى ولو كنت من أعز أصدقاء الزعيم لـما وجدت محلاً للصداقة في الوظائف والأعمال الإدارية، فكيف وصداقتك لم تتجاوز حد التعارف الأولي.
إنّ لهجة الزعيم الإدارية هي هي عينها مع جميع القومييـن، وبينهم من يصلحون ليكونوا أساتذة لك في الـحقوق والسياسة والفلسفة والعلوم الاجتماعية والاقتصادية. وجهلك الفرق بين الـمعاملة الشخصية والـمعاملة القانونية هو الذي يجعلك تتغرّب ولا تستغرب «اللهجة»، وفوق كل ذلك فإذا عدت إلى الكتب السابقة وجدت أنّ الزعيم، بالنسبة إلى وظيفته الرسمية، كان متساهلاً كثيراً من الوجهة الإدارية، وكل ذلك من محبته لـخيرك ومساعدتك على فهم الأمور الـحزبية بصورة لينة.
إنّ لهجتك أنت الغريبة وغير الغريبة هي التي جاوزت كل معقول ومنقول في مخاطبة الـمرؤوسيـن الرؤساء. وفيها، فوق ذلك، ما يدل على سوء نية. فإنك تقول «إني على حق فيما أقول بأنك لم تكلّفني مطلقاً بـمهمة أثناء تلك الزيارة»، فأنت قد بلغ بك الغرور والـخروج على النظام أن تـحكم على الواقع وتخضعه لـمقدار وقوة ذاكرتك. فلا تقبل حتى ولا من زعيمك أن يذكّرك بـمهمة كلّفك إياها. ولولا جهلك الأصول وشدة دعواك ونظرك إلى «كرامتك» العظيمة قبل كرامة زعيمك والـمنظمة القومية كلها، لـما كنت استعملت هذا الـحكم الفاسد ولكنت وضعت عبارتك، على الأقل، في هذه الصيغة «إني لا أتذكر أنّ الزعيم كلّفني القيام بـمهمة ما، وقد تكون الذاكرة خانتني عن غير قصد، فأرجو أن يذكّرني الزعيم بـما كلّفني، وإني مستعد للتعويض عن كل تقصير وتـحمّل كل مسؤولية تقع عليّ ويرى الزعيم تـحميلي إياها». ولكن لا شيء من ذلك ولا من هذه الروحية الشاعرة بالقيم والـمنازل والصلاحيات والـمسؤوليات. وبأي حق يجب أن يكون للزعيم أيضاً ذاكرة؟ فما يقوله يوسف الغريّب وحده هو يكون ولا يكون غيره. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا حلف يوسف الغريّب أنّ له زعيماً يطيعه ويؤيده؟
إنّ سلسلة تصرفاتك الأخيرة من يوم نشرت مقالتك الأولى عن الـحزب السوري القومي، التي ألـحقت بالـحزب أضراراً لا تقدر على تقديرها، هي تصرفات من يحسب نفسه مقاسماً الزعيم إدارة الـحزب وتخطيط سياسته. وحين أوضح لك الزعيم، بلطف، مبلغ شرودك عن جادة الصواب كان جوابك الـمكابرة ومحاولة تبرير شذوذك وأغلاطك بعرض آرائك والأسباب الـخصوصية التي استندت إليها، كأنّ الأسباب التي تراها أنت كافية يجب أن يراها كافية الزعيم نفسه ويقبلها. فكأنك أنت مرجع الأمور لا هو. وبعد عراك شديد سببه رغبة الزعيم في تسوية الأمور بالتي هي أحسن كتبت مقالة أخرى بإيعازي عددتها كافية لإصلاح الغلط السابق تـجاه الرأي العام، مع أنها ليست كافية لـمحو الأضرار السياسية ولا لـمحو غلطك أو خطأك النظامي. ومع كل تساهلي وإيضاحاتي لم تشأ الاعتراف بخطأك ولم تطلب عذراً عن تصرفك خلافاً للتعليمات الصريحة التي كان طلب منك التقيد بها.
وقد حاولت أن أوضح لك، بـما أمكن من اللطف، أنّ تصرفك وأجوبتك الـمجاوزة حدود مركزك لا تتفق مع النظام القومي الـمربوط به، ولا مع الروحية الـمطلوبة في القومييـن، ولا مع اليميـن التي حلفتها. وقد سألتك في أحد الكتب السابقة صراحة هل تعتقد أنّ الزعيم ليس زعيمك وقائدك؟ فكان جوابك على هذه النقطة السكوت. ومع أنّ مسألة الزعامة هي من أسس الـحركة القومية ولا يـمكن أن تبقى في غموض عند الأعضاء، فقد تساهلت معك في هذه النقطة في تلك الظروف. ولكن بعد جوابك الأخير على كتابي الأخير الإداري إليك لم يعد مـمكناً السكوت أو التساهل في تصرفاتك وروحيتك. وموقفك الأخير يدل بجلاء على أنك لا تقيم للزعامة وزناً. ولا للنظام حرمة لا في الـمهمات ولا في الصلاحيات. وهذا يعني أنّ دخولك الـحزب السوري القومي وإقسامك اليميـن بالطاعة للنظام والأوامر وتأييد سلطة الزعيم كانا بأحد هذه الـمقاصد: إما خدع الزعيم، أو خدع الـحزب السوري القومي، أو خدع الرأي العام، أو خدع نفسك. ولو لم تكن مخادعاً في هذا الأمر لاعتبرت وتصرفت مع زعيمك كما يليق التصرف معه، أي بالتقيد بـمركزه كمرجع لأعمالك وتصرفاتك النظامية والسياسية، وترك الـحكم له فيها حتى إذا رأيت أحكامه مبنية على الظلم عرضت قضيتك على الـحزب كله بواسطة مؤسساته. ولكن حسبانك الزعيم مضطراً لالتزام لهجة خاصة حيـن مخاطبتك، وتخويلك نفسك حق تقرير ما إذا كان الزعيم كلّفك بـمهمة أو لم يكلّفك من غير أن تطلب حتى ولا تذكيرك بـما قد تكون نسيته وتـحريفك الكلم، كل ذلك، مضافاً إلى السوابق الأخرى التي سيرد بعضها فيما يلي، لا يدل إلا على استهزائك باليميـن والأنظمة والقيم الشرعية والروحية. وهو يدل، فوق ذلك، على مبلغ غرورك وجهلك، كما يدل عليهما قولك بكل وقاحة إنه بينما كنت أنا أخاطبك كنت أنت «تصغي...»، وقولك إنّ مسألة مطالبة الزعيم إياك بـمسؤولياتك هي مسألة «سوء تفاهم» جرى بينك وبينه.
لم أكن أجهل غرورك ودعواك. ففي أحد الاجتماعات في منزل الصديق توفيق سعاده، الذي كنت ضيفه في أول زيارة لـمدينة كوردبة، إدعيت أنّ القول بأنّ ابن الـمقفع هو مؤلف كليلة ودمنة لا مترجمه هو مذهب لك واكتشاف منك. فسترت دعواك بكلام لطيف وذكرت لك أني كنت قرأت بعض الأبحاث لأحد الكتّاب الذاهبيـن هذا الـمذهب. ثم لـمّا قرأت مبادىء الـحزب السوري القومي مشروحة بقلمي قلت للصديق السيد عبود سعاده «هذا هو تـماماً ما كنت حصّلته بتفكيري أو ما افتكرته.» وكان كلامك بحضوري ومع ذلك لم يندَ لك جبيـن ولم يحمر لك وجه. ثم لـمّا ابتدأت ترجمة الـمبادىء الـمشروحة وعرضت قسماً من الترجمة عليّ وأخذت تقرأه لي في منزل الصديق عبود سعاده الذي كنت ضيفه الـمرّة الأخيرة، وكان حاضراً السيد عبود والرفيق سليم صوى والسيد أسعد شكر وأشخاص آخرون، بينت لك إساءة ترجمة بعض النصوص حتى أنها خرجت عن وضعها الأصلي، وصار الـمعنى خارجاً عن نطاق العلم والـمعرفة الصحيحة. فبدلاً من أن تأخذ شروحي الـحقوقية بعين الاعتبار لـجأت إلى الـمكابرة فلم تشأ الإقرار بأنّ الترجمة غلط، ولا بأنّ الـمعنى الـجديد في الترجمة فاسد. وقد كان هنالك أكثر من غلطة واحدة ونحن بعد في شرح الـمبدأ الأول، ولكن أهمها ما أفسد الـمعنى العلمي الـحقوقي. فالـمعنى الأصلي، وهو في شرح الـمبدأ الأول، يقول إنه لا يجوز لأفراد سورييـن التصرف بشبر من أرض الوطن بـما يـمكن أن يلغي فكرة الوطن الواحد أو سلامته. ويعني ذلك ضمناً كل هيئة فردية أو خصوصية. فترجمت أنت هذا الـمعنى بـما لا يجيز حتى ولا لـمجموع الأمة التصرف بشبر من الأرض. وبجهد كبير تـمكنت من إقناعك بوجوب التقيد بالنص، لأنّ الـمعنى الـمترجم فاسد حقوقياً. فقبلت بالتغيير ولكنك ظللت تقول إنك تعتقد أنّ الـمعنى الذي وضعته أنت أقوى.
كل هذه التصرفات السابقة لم تفتني في شيء منها، ولم يفتني فوق ذلك تـحاشيك وتـجنبك مخاطبتي كزعيمك، إذ كنت دائماً تضع لفظة «الرفيق» حيـن التوجه إليّ. ولكني عددت ذلك من ضعف السلوكية غير الـمضبوطة السابقة للنظام القومي، وتـمنيت أن يكون استعدادك الروحي بحيث يـمكّنك من التغلب عليه والسلوك حسب الـمناقب الـجديدة والـمقاييس الـجديدة على نسبة تعرّفك إليها واقتباسك من أصولها وأوضاعها. والظاهر أنّ إغضائي عن هفواتك وتقريبك إليّ بدون كلفة جعلك تتمادى في غرورك، وجهلك مركزك من الزعيم ووجوب احترامه كمعلم وكقائد وكسلطة دستورية، حتى صرت ترى مـمارسة الزعيم صلاحيات وظيفته الإدارية معك «لهجة عوّدك إياها»، وهو تعبير يصل إلى درجة الوقاحة والتطاول على السلطة التشريعية والتنفيذية للمنظمة القومية. ولو لم تكن خاضعاً للنظام القومي ومقسماً اليميـن النظامية، ولو لم أكن أنا على رأس الـمنظمة القومية لـما كان يهمني رأيك فيّ وسلوكك تـجاهي، لأنه إذا وجدت فيك ما لا يعجبني فيكفي أن أقطع علاقاتي معك بدون حساب. والأرجح أن لا أكون عرفت بوجودك أو اتصلت بك. فاتصالي بك لم يكن بعلاقة شخصية، بل بواسطة الدعوة القومية الـموجهة إلى كل سوري وسورية بلا فارق. ولكن وجودك ضمن النظام القومي ووجودي على رأس هذا النظام يتطلب مني محاسبتك من أجل النظام الذي يعيـّن قيماً لا يجوز للفرد العبث بها.
إنّ أنطون سعاده لا يهمه إذا كنت تضعه في منزلة مساوية لك في العلم والفهم والـمقدرة، ولا إذا كنت تـجعله دونك في كل ذلك، ولا يهمه إذا كنت تسكن السماء أو الأرض، فهو لا يقيس نفسه بك ولا يرى مناسبة لقياس نفسك به. ولكن الـمنظمة القومية تريد أن تعرف إذا كان أحد القومييـن يعرف أنّ الزعيم هو مؤسس النهضة السورية القومية، ومعلم القومييـن الفلسفة والنظام القومييـْن، وقائدهم الأعلى الذي يجب عليهم الاحترام له والرجوع إلى حكمه وتدبيره في كل ما يتعلق بالـحركة السورية القومية من فكر وعمل في إدارة ونظام وقانون وسياسة ونظرات اجتماعية - اقتصادية - روحية، لأنّ هذا هو معنى الزعامة في الـحركة السورية القومية. وهذا هو السبب الوحيد لاهتمامي بـما تفكر وكيف تتصرف تـجاه الزعيم وتـجاه النظام القومي. فكل فرد في الـحزب السوري القومي يجب أن يعلم أنّ تفكيره وتصرّفه في الأمور الـمذكورة آنفاً خاضعان للعلاقة الـحزبية الـمنظمة، فهو ليس منفلتاً ليفكر كما يشاء، ويتصرف كما يشاء، ويقول ما يشاء، ويعترف بـما يشاء، وينكر ما يشاء، في ما له مساس بالـحركة السورية القومية، بل هو مقيد بـما يفرضه القانون والنظام والواجب الـمناقبي والإداري ليكون جميع القومييـن روحية واحدة وإرادة واحدة. وهذا لا يعني تـجريد الـمرء من آرائه الـخصوصية. ولكن يعني تـجريده من حق أو صلاحية اعتماد آرائه الـخصوصية، التي لا تعرض على الـمراجع ذات الصلاحية ولا تنال موافقة هذه الـمراجع، للقيام بأعمال أو تصرفات لها مساس بوجود الـمنظمة القومية أو بسياستها أو بإدارتها أو بتعاليمها أو بإذاعتها أو بدستورها أو بنظامها الروحي والـمادي. فما دام الـمرء مبقياً آراءه الـخصوصية لنفسه غير متعمد فرضها على الـمنظمة بطرق غير قانونية، فالـمنظمة القومية لا تتعرض له ولا تـحاسبه على أفكاره. ولكن متى أبرز تلك الآراء بشكل عملي في ما له مساس بأي أمر من أمور الـمنظمة الـمتقدم ذكرها، فحينئذٍ لا مناص له من الوقوع تـحت طائلة القانون. والعبث بـمركز الزعيم، الذي هو محور الـحركة السورية القومية، وتـجاوز تعليماته ورفض الرجوع إليه في الأمور النظامية والإدارية والتوجيهية، ومخاطبته بـما لا يتفق مع حرمة مقامه، ومحاولة فرض الآراء الـخصوصية على سياسة الـمنظمة القومية بطرق غير قانونية، وجميع الأعمال التي يـمكن أن تشوّه الـحقائق والقيم وتخرق الدستور وتبلبل الصفوف وتخرج على الوحدة النظامية والسياسية والروحية، هي أمور تـحاسب عليها الـمنظمة القومية حساباً دقيقاً ومراجعها القانونية تـحتفظ لنفسها بحق اختيار الفرصة التي تراها مناسبة لفتح الـحساب فلا يؤثر في صلاحياتها شيء من تقدم الأيام أو تأخرها.
والظاهر أنك ترى نفسك فوق جميع هذه الاعتبارات حتى أنك تتوقع أن يخاطبك الزعيم بلهجة الرصيف للرصيف والرفيق للرفيق، حتى في الأمور النظامية، لا بلهجة الزعيم لأحد الأعضاء، مع أنك تعلم أنّ الـحزب السوري القومي يلغي كل فكرة للامتيازات الـمدنية، ويجعل جميع القومييـن متساوين في الـحقوق الـمدنية أمام القانون، عالـمهم وجاهلهم، غنيّهم وفقيرهم، فيلسوفهم وسفسطائيهم. فالزعيم قد خاطبك بلهجة الرفيق والأخ الناصح في الأمور الـخصوصية، وكان ذلك إكراماً منه لك كما تقدم القول. ولكن هذا الإكرام ليس فرضاً عليه نحوك، خصوصاً حين يـمارس سلطته الدستورية. ففي هذا الظرف لا يكون هنالك صداقة ولا أخوّة ولا صحبة، بل تكون هناك الصلاحيات والـمسؤوليات والنظام والقانون وحدها. ولهجة السلطة هي دائماً غير لهجة الصحبة، فإذا كنت تكره السلطة ولا تخضع لها فلماذا خدعت الـمنظمة وخدعت نفسك بحلفك اليميـن النظامية؟
إنك قد حاولت، باعتبار سلوكك، خدع الـمنظمة القومية، ولكنها لم تنخدع ولا يـمكن أن تنخدع، فدستورها واضح صريح وقوانينها دقيقة وروحيتها متينة ونظامها قوي، وحاولت أن تخدع نفسك فنجحت نـجاحاً باهراً. فأنت قد انضممت إلى الـحركة السورية القومية ذات الفكرة الواحدة والإرادة الواحدة والنظام الواحد، ولكنك جعلت هدفك الاهتمام بـمصالـحك الـخصوصية قبل كل شيء، وخدمة هذه الـمنافع قبل خدمة الـحركة القومية، ومعاكسة هذه الـحركة كلما رأيت فائدة خصوصية لك من وراء ذلك، فأنت قومي في السرّ وعدو القومية في الـجهر. أنت عضو في الـحزب السوري القومي سراً، ولكنك تتجنب الظهور بـمظهر القومي إلا حيـن تكون لك مصلحة، وتتجنب حتى الظهور في الصور على مائدة القومييـن ولو لم يكن في ذلك دليل على أنك قومي نظامي، ولكنك لا تتجنب الظهور على مائدة الـمأجورين للدعاوات والإرادات الأجنبية، وإظهار شخصك العظيم في صورها وضم صوتك إلى مؤيديها دون أن يبكتك ضميرك ومن غير أن تـجد موجباً للاستشارة والاستئذان ولا للاعتذار، مع أنك تعلم أنّ ذلك مخالف لعهودك وللنظام الذي تتقيد به، خصوصاً بعد تـحدثي إليك في كوردبة عما قمت به في توكومان، وعن كيفية طرد صلاح لبكي من الـحزب، ولم يكن لي قصد من ذلك غير تهيئة نفسك لفهم دقة النظام القومي فلا تتورط في ما تورط فيه الذين باؤوا بالـخيبة والـخزي. ولو أنك تـجنبت على الأقل الظهور بـمظهر الـمؤيد للمؤسسات والأشخاص الـمأجورة للإرادات الأجنبية، والـمحتفى بها لكان في الإمكان ترقيع أمرك. وقد بلغ بك سهرك على منافعك الـخصوصية قبل كل شيء حد التقدم إلى الزعيم بسؤال سعيه الشخصي لإيجاد تـمثيل لك أو وكالة لبعض الشركات التجارية، وكان ذلك في أول عهد انضمامك إلى الـمنظمة القومية. ولم يهمل الزعيم هذا الأمر ولكنه لم يوفق.
ولو أنك، بصرف النظر عن جميع خطيئاتك، تواضعت لزدتك إكراماً وتقريباً. ولكنك تتكبر وتعتو وتتطاول. ولو لم يكن للمنظمة دستور وقوانيـن ونظام لصعب تبيان مكابرتك وتطاولك. ولكن من حسن الـحظ أنّ كل ذلك موجود لها.
بناءً عليه أبلغك ما يأتي:
إنّ زعيم الـحزب السوري القومي، بناءً على صلاحياته الدستورية، قد قرر عدم النظر في رأيك الانسحاب من الـحزب السوري القومي، لأنك تـحت مسؤولية قانونية، ولأنك لم تقدّم طلباً رسمياً بالانسحاب معللاً بأسباب تغيير العقيدة أو الأهداف أو الـمبادىء العقائدية أو النظامية في الـحزب، وهي الأسباب الوحيدة التي يـمكن أن يطلب بالاستناد إليها انسحاب أحد الأعضاء. وكل محاولة انسحاب لغير هذه الأسباب الـجوهرية تخضع لنظر الإدارة القومية وحكمها. وإنّ زعيم الـحزب السوري القومي قد قرر، بناءً على الصلاحيات الـمذكورة وبناءً على الإثباتات الوثيقة التي تـحت نظره، طردك من الـحزب السوري القومي للأسباب الـمبينة أدناه:
1 - لـمخالفتك تعليمات الزعيم الصريحة إليك بعدم نشر أي شيء يتعلق بالـحزب السوري القومي وسياسته في الصحف بدون إطلاعه عليه قبل نشره والـحصول على موافقته. فنشرت في كوردبة في جريدة لا بـوص دل انتريـور مقالـة انتحلـت فيها صفة التعبير عن سياسة الـحزب السوري القومي وموقفه من الأحداث الإنترناسيونية بـما لا يتفق مع سياسة الـحزب الـمقررة التي لا يحق التعبير عنهـا إلا للمراجـع الـمختصـة ولـمـن تأذن له هذه الـمـراجــع. والـمقالــة نشرت في عدد الـجريدة الـمذكورة الصادرة في 30 يونيو/حزيران 1941.
2 - لـمحاولتك فرض آرائك الـخصوصية وأغراضك الـخصوصية على سياسة الـحزب السوري القومي بصورة غير قانونية بنشرك في الـمقالة الـمذكورة أموراً القصد منها تأييد دولة أجنبية معيّنة لم تصدر من مراجع الـحزب الرسمية تعليمات بتأييدها.
3 - لـمخالفتك للنظام بإصرارك على اعتبار ما قمت به، ضد التعليمات الصريحة، عملاً جائزاً مبرراً ومن حقك، كما هو مثبت في أجوبتك بهذا الصدد.
4 - لعدم التقيد بواجب الاحترام والطاعة للزعيم في ما هو من صلاحياته ومن الأمور الـمتعلقة بالـمنظمة السورية القومية والقضية القومية، كما هو مثبت في كتابك الأخير بتاريخ 10 - 1 - 1942.
5 - لعدم تنفيذ مهمة كلّفك القيام بها الزعيم في زيارتك الأخيرة لـمكتبه في بوينُس آيرس وإنكارك وجود التكليف، ورفضك الرجوع إلى الزعيم في هذا الأمر لتبيان حقيقته. ولعدم تقديـمك بياناً بـمصير الـمهمة، في الوقت اللازم.
6 - لـمخاطبتك الزعيم بلهجة الـمتمرد على سلطته الدستورية التي يحلف العضو، وحلفت أنت بتأييدها والطاعة لها، كما هو مثبت في أجوبتك بشأن الـمقالة الـمذكورة في كتابك الأخير.
7 - لـخرق النظام القومي بالاشتراك في مظاهر سياسية لـمؤسسات وأشخاص تعمل لـمصلحة إحدى الدول الأجنبية، من غير استئذان الـمراجع الضابطة لتصرفات الأعضاء السياسية.
8 - للعمل ضد الـمبادىء القومية والـمنظمة القومية بالانخراط في الـمظاهر السياسية الـمذكورة، وهو خيانة للقضية السورية القومية التي يـمثّلها الـحزب السوري القومي وللعهد القومي الذي يجب على العضو التقيد به، بصفتك أحد أعضاء هذا الـحزب الآخذين بعهده.
فبناءً على هذه الأسباب، وهذا القرار، أصبحت الآن خارج الصفوف القومية فيمكنك أن تـجعل نفسك فوق الدساتير أو تـحتها كما تشاء، وفي منزلة أنطون سعاده أو فوق منزلته، وأن تستغرب أية لهجة يخاطبك بها أي من الناس وأن لا تستغربها، وأن تشترك في كل مأدبة وكل مظهر سياسي لكل غاية ترتأيها أنت، وأن تنشر ما يحلو لك من الـمقالات عن آرائك السياسية العظيمة الـمختصة بك، وأن تدخل في كل أمر يـمكنك الدخول فيه وتخرج من كل أمر يـمكنك الـخروج منه غير تقديـم حساب للمنظمة السورية القومية، وأن تسمع قطعة شومان التي إسمها «حلم» أو «أحلام» وليس «ريفيري» وإن شئت الرجوع إلى الأصل فاسمها «طروميراي» وترجمتها الفرنسية «ريفيري» أو «ريفري» كما تشاء كتابتها، والتي لم أرَ مناسبة لتعريفي كم هي «شهية على قلبك» في معرض حساب إداري.
بقي أمر الثلاثمئة وخمسيـن ريالاً التي تقول إنك اشتركت مع الصديق عبود سعاده وولده خليل بالتبرع بها لـمكتب الزعيم. فأنت قد تبرعت بخمسيـن ريالاً منها فقط. فهذه أعيدها إليك مع هذا الكتاب، لأنّ زعيم الـحزب السوري القومي ومؤسس النهضة السورية القومية لا يبيع القيم والكرامات والشرائع والأنظمة بأي مال في العالم. وأذكر أنك كنت تبرعت من قبل بـمبلغ ثلاثيـن ريالاً دفعتها لي وأنا في كوردبة في زيارة سابقة وهذه أيضاً أعيدها إليك. ومجموع هذين التبرعيـن، أي ثمانون ريالاً أرجنتينياً، يصل إليك مع هذا الكتاب في حوالة مالية. وإذا كان قد بقي تبرع منك لشيء مختص بالزعيم فأرجو أن تذكّرني به فأعيده إليك. وكل من يريد التبرع بـمال لـمكتب الزعيم بروحيتك البعيدة عن مستوى الـمناقب القومية فلا يقبل منه. إنك قد مزجت كرامتك بأنانيتك مزجاً أصبح عسيراً عليك معه التمييز بين الواحدة والأخرى. وقد كان كل همك منصرفاً إلى تعزيز كرامتك الأنانية قبل كل شيء فوضعتها فوق كل قيمة. ولو أنك بذلتها في سبيل الكرامة القومية العامة الـممثلة في شخص الزعيم وفي النظام القومي لكنت عززتها أفضل تعزيز. فإنّ من يقول: «كرامة الزعيم والـمنظمة القومية قبل كرامتي وحقوقها قبل حقوق أنانيتي وكرامتي لا وجود لها بدون كرامة زعيمي» هذا يقول له الزعيم: «كرامتك كرامتي وحقوقك جزء من حقوق الـمنظمة القومية.» ولكن الـمعجب كثيراً بنفسه، الـمغترّ بكرامته، الذي يتخيل ذاته فوق الأرض وساكنيها وشرائعهم، ثم يحاول خدع هؤلاء «الـمساكيـن» بالتظاهر بأنه منهم وقابل لشرائعهم، فهو يجرّد نفسه من كل كرامة إنسانية ويعرّي أنانيته من كل ستر يقي العيون الإنسانية بشاعتها. وإذا كان لهذا الشخص أقلّ أمل بالشفاء من إعجابه بنفسه فهو لا يكون بـمحاولة «تعلّم قراءة الغيب وأسرار الضمائر»، فهذه ليست علماً، بل موهبة، والأرجح أنّ هذا الأمل يكون بتعلم إنكار مقدار كافٍ من الأنانية الـجامحة لتقديـم الـمصلحة العامة على الـمصلحة الخاصة، ولـمعرفة مبلغ حاجة ذلك الشخص إلى تعلّم أشياء كثيرة مفيدة وتقدير معلميه كما يجب، ويعلم ما يلزم من أصول الـمعاملات في شؤون ساكني الأرض الذين، لعدم إمكانهم الارتفاع أو الهبوط عن الأرض بالكلية، يجدون أنّ النظام أفضل من الفوضى، وأنّ الشرائع أضمن للحقوق والقيم والـمصالح العامة من تخرصات الـمرتفعيـن إلى أسفل.
وإذا خطر لك يوماً من الأيام ترك عليائك السفلية والانحطاط إلى علياء الناس، والتجسد بينهم، لتصير إبن إنسان والابتعاد عن بعض التصورات التي يلوح من خلال سطور كتابك الأخير أنها تعبث بشهواتك حين تسمع «أحلام» شومان التي تخيلها في ترعرع حدث لتقترب من حقائق الـحياة الإنسانية فعسى أن لا تخسر مثل الفرص التي مرت بك لـجعل وجودك الزمني أفْيد للحياة الإنسانية وللقضايا التي ترتبط بها حياة ملاييـن الناس الذين يسميهم التفكير البشري العاجز أمة ولنفسك.
وإذا لم يخطر لك شيء من ذلك وفضلت البقاء في ترفّعك السفلي عن كل ما يُقال له شرائع وقوانيـن للبشر وقوانيـن للبشر الفانيـن، فهنيئاً لك في نعمائك تتبوأ تـحت فوقك وتـمتع نظرك بفوق تـحتك. ولا تنسَ أنك تـحتاج، هناك في عليائك السفلية، لبعض الشرائع البشرية لشؤونك التجارية. وإذا فكرت في مبلغ فائدتها من هذا القبيل فقد تتنازل لتجد لها محلاً صغيراً في مقر «خلودك».
وعسى أن توفق في جميع ما لا يضر ناموس الأرض وساكنيها وشرائعهم ومنظماتهم وقوانينها وأنظمتها. ولتحيى سورية.
إعترض إكمال هذا الكتاب في جلسة واحدة بعض الأشغال الطفيفة وأبقي ليرسل في بريد واحد مع كتاب آخر تقرر تقديـمه على هذا ولذلك فقد صدر عن مكتب الزعيم في 15 يناير/كانون الثاني 1942.
بعد: الـحوالة الـمالية هي على فرع بريد كوردبة ورقمها 394 - 181 وتاريخها 1 يناير/كانون الثاني الـجاري، أي تاريخ صدورها.