رفيقي العزيز وليم بحليس،
وصل إليّ كتابك الأخير الـمؤرخ في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الـماضي وأنا بعد في جبال كوردبة من هذه الـجمهورية. ولم أجب عليه قبل الآن للدواعي الصحية وإشارة الطبيب الـمشددة، التي اضطررت لـمخالفتها بسبب مسألة سورية الـجديدة وبعض الـمشاكل الأخرى التي لم تـمكنّي من أخذ نصيب كاف من الراحة.
وقبل أن أبدأ بـما أريد قوله جواباً على كتابك أقول إني قرأت كتاباً لك إلى الرفيق جبران مسوح تتذمر فيه من إبدال بعض عبارات كتابك الـمفتوح[1] إلى رشيد سليم الـخوري، الأمر الذي غيّر بعض الـمعاني، وإنك طلبت بإلـحاح إصلاح التحوير على الأصل دون أن تـحصل على نتيجة. والـحقيقة هي أني أنا بدلت بعض الـمعاني الـمقصودة لتلتئم مع الـمقصود النهائي، ولم يكن ذلك بإمكانك أنت لعدم اطلاعك إلاّ على جزء يسير مـما كتبه رشيد الـخوري. وقد قلتَ، مثلاً، إنّ رشيد الـخوري يسبر غور الأديان ومعنى «يسبر غور» يقيس العمق ويقف على كنه الأمر ورشيد الـخوري بعيد عن ذلك فهو لا يسبر غور شيء وإنـما يسير مع السطحيات من كل أمر بدون سبر غور ولا روية. وبعض العبارات الأخرى جعلتها تتلائم مع قول رشيد الـخوري سابقاً إنه لا سلام للبشرية إلا باعتناق الإسلام. وكل ذلك طفيف وجزئي في ذاته ولكنه هام في مجموع الـمسألة. أثبت ذلك لكي لا تأخذ الأبرياء بجريـمة لم يرتكبوها.
سورية الـجديدة: لا تخص آل بندقي فالسيدان فؤاد وتوفيق بندقي ليسا سوى شريكيـن مضاربيـن socios commenditasions، أي أنهما الشريكان اللذان يقدمان الرأسمال الـمادي فقط، وإدارة الـحزب تقدم الرأسمال الروحي وتكون صاحبة الشأن في إدارة سياسة الـجريدة وموظفيها. ولكن ما كدت أبتعد عن سان باولو حتى أخذ السيدان الـمذكوران يعدّان أنفسهما صاحبي الـجريدة ويتصرفان ويتظاهران وفاقاً لهذا الوهم. فلما حصلت الأزمة الأخيرة، التي لم تكن الأولى ولا الوحيدة، وبلغتهما أني أترك اعتبار الـجريدة معبرة عن الـحركة القومية وأعدّها «جريدة قومية شخصية» على مسؤوليتهما سكتا أولاً على هذا القرار حتى إذا صدرت الزوبعة بحلة جديدة وصفحات أكثر وصدرت فيها مقالات «جنون الـخلود» أدركا خطورة النتيجة التي صارا إليها فأرسلا إليّ بواسطة الرفيق جورج بندقي، إبن عمهما، يعرضان عليّ «تخليهما عن الـجريدة للحزب» وأنهما يتحملان نفقتها حتى آخر السنة الـماضية 1940. والصواب كان أن يقولا إنهما يتركان شراكتهما لأن الاتفاق كان على أن يكونا شريكيـن، لا صاحبي الـجريدة.
على أثر عرضهما عينت لـجنة مؤلفة من أخي إدوار والرفيقيـن وديع عبدالـمسيح وإلياس فاخوري للقيام بالـمخابرة اللازمة لتصفية ما يتعلق بالسيدين فؤاد وتوفيق بندقي من أمر الـجريدة، ووصلت اللجنة إلى اتفاق أوليّ على أن يتحمل السيدان بندقي العجز وعلى أن يعاد إليهما ما يقبض من الاشتراكات الـمتأخرة حتى سنة 1940. ولكن اتفق أنهما، في هذه الأثناء، كانا قد أجابا الرفيق جبران مسوح على كتاب وجهه إليهما يلومهما على موقفهما وعلى ما فاها به مـما هو غير لائق وهو قولهما: «إنهما لا يسمحان بجعل الـجريدة ميدان مهاترات شخصية.» وكان جوابهما فيه كبرياء غليومية وادعيا فيه أنهما كانا يعملان بالـمبادىء القومية قبل ظهورها، وغير ذلك من السفسطة والـخيلاء، وختما كتابهما بأنهما «يسامحان» جبران مسوح على تـجروئه على مقامهما فأشرت على جبران بكتابة جواب قوي يفنّد فيه ما يدعيانه ويظهر لهما الـحدود التي يجب ألا يتعدياها ففعل ووصل الكتاب إليهما بعد الاتفاق الـمذكور فثار ثائرهما وغضبا على الزعيم (يا ستار!) كيف لا يراعي شعورهما، كأنهما هما أصحاب شعور وحدهما وكأنه يتوجب على الزعيم أن يراعي شعورهما، وكأن الزعيم عديم الشعور ولا يترتب عليهما مراعاة شعوره! وكان من وراء ذلك عدولهما عن الـموقف الأوّل وطلبهما تسديد مبلغ أربعيـن كنط من العجز، على أن يكون دفع عشرين كنط ساعة تخليهما والعشرين الباقية تدفع أقساطاً في مدة ستة أشهر. فأرسلت إلى اللجنة أرفض ذلك وأحملهما مسؤولية توقيف الـجريدة لأنهما يفضلان أن «يخسرا» في سبيل توقيفها على أن يخسرا في سبيل إحيائها. وبعد فهما أيضاً رفيقان قوميان سرّيان!
في مطاليبي كان أن تنقل الـجريدة من إسم جورج بندقي ليس لأني أشك في قوميته، بل لعلاقة إبنيّ عمه به ولضعفه في بعض الـمواقف وتفضيله الانصياع إلى تعليمات إبنيّ عمه على الانصياع لأوامر زعيمه. ولعل له بعض العذر العملي. ولكن في بعض الأمور لا أجد له عذراً. مثلاً: كنت أرسلت تعليمات مكررة ومشددة بعدم سلوك الـجريدة مسلك الانحياز إلى أحد الفريقيـن الـمتحاربيـن وبعدم القيام بالدعاوة الضخمة لبعض الـمسيطرين الأوروبيين كهتلر وموسوليني. فلم تنفذ التعليمات ولم يطلعني جورج على السبب. ثم طلبت منع الصور الـحربية الإذاعية للألـمان والطليان خصوصاً بدون جدوى. ثم طلبت من جورج أن يخبرني عن مصادر الصور وكم تقبض إدارة الـجريدة لقاء نشرها، ونشر مواد الإذاعة الأخرى كالكتب الـمترجمة عن مصر وفلسطيـن، وبعض مقالات إنشائية من قلم فؤاد بندقي، فسكت على هذا الأمر ولم يجبني شيئاً.والـحقيقة الـمرة لنا هي أنّ الـمسؤوليـن عن خلل سياسة سورية الـجديدة يحملون قسماً كبيراً من مسؤولية الأحكام القاسية التي أصدرتها الـمحكمة العسكرية في بيروت على القومييـن، فقد كانت سورية الـجديدة في جملة الأسباب التي دعت الـمحكمة إلى لفظ هذه الأحكام. وبعد كل هذا وبعد استخدام الـجريدة للتجارة بالدعاوة على حساب الـحركة القومية يتبجح الرفيقان بندقي بتضحياتهما العظيمة في سبيل الـجريدة والـحركة القومية!!!
شكيب أرسلان: هذا الرجل من أصحاب «الدهاء الدبلوماسي» العتيق وله أغراض خصوصية ويعمل دائماً لنفعه الـخاص.وهو يطمع «بالـخلافة» لأنه وإن كان درزي الأصـل فهو اليوم مسلم سنّي. وهو يعمل الآن بإيعاز الدعاوة الألـمانية وبالاتفاق معها. والأموال التي يقبضها من هذه الـمصادر ينفق منها على بعض الـجرائد للتذييع له أو يوعز إلى الإذاعة الألـمانية بـمساعدتها مالياً لتنفيذ الـمشاريع الـمتفق عليها. وأعتقد أنّ رشيد الـخوري على اتصال وثيق به ويعمل بإيعاز منه. وهذه الـحملة الـجديدة هي للاستناد على تعصب الطوائف الإسلامية الديني في سبيل ما يقصدون، ذلك لأن معظم أفراد هذه الطوائف غير متنورين في الـمسائل الـمدنية والسياسية، فيسهل إثارة شعورهم الديني والتلاعب بأفكارهم وميولهم.
أما مسألة اقتراح شكيب أرسلان عقد مؤتـمر في الأرجنتين فهي مسألة مزاحمة الـحزب السوري القومي على الـمؤتـمر الذي أعلنت سورية الـجديدة منذ نحو سنة أو أكثر أنّ مساعي تبذل لعقده وأرسلان يخشى أن يتم عقد الـمؤتـمر ويأخذ الـحزب السوري القومي اليد العليا في شؤون الـمهاجرين ، وهذا ما كنت أدركه أنا ولذلك طلبت معالـجة مسألة الـمؤتـمر ووجوبه بـمناسبة وجود الزعيم في أميركة. وإنّ الضرب على هذا الوتر والقيام بحملة صحافية في هذه الناحية لا بد أن ينتهيا إلى نتيجة حسنة.
إنّ شكيب أرسلان يجب أن يحارب سراً بشدة، وعلناً بليـن، وتأويل حكيم. وهو قد فضل الأرجنتيـن للمؤتـمر الذي يدعو هو إليه لوجود عناصر إسلامية متأخرة أكثر مـما في مهجر آخر. وهو يحلم بإعادة تـمثيل دور السياسييـن السابقيـن، فتعلن الـمؤتـمرات التي يعقدها أنّ السورييـن يولونه زعامتهم وحق التكلم باسمهم في مؤتـمر الصلح وغير ذلك. ولو شاء شكيب أرسلان الانضمام إلى الـمنظمة القومية لـما قبلت لأن روحيته بعيدة كل البعد عن القومية الصحيحة وروحيتها.
في العدد الثاني عشر من الزوبعة الذي سيصدر بعد نحو عشرة أيام مقالة[2] في صدد موقف شكيب أرسلان من التصريحات الألـمانية والإيطالية. وهذا الـمقال توجيهي لرجال إذاعة الـحركة القومية فيجب الاهتمام له. إذا عالـجت في سورية الـجديدة مسألة اقتراح عقد مؤتـمر سوري بـمناسبة وجود الزعيم في الـمهجر فعلت حسناً. ويجب ذكر أنّ مسألة عقد مؤتـمر في الـمهجر صدرت عن القومييـن أولاً ومنذ زمان. ويحسن ذكر العدد من سورية الـجديدة الذي أعلنت فيه هذه الفكرة[3]. وأنا أوعزت إلى فرع الـمكسيك ليهتم بدعوة القومييـن وغيرهم من السورييـن إلى مؤتـمر يؤيدون فيه الـحركة القومية ويعدّون الزعيم الـمعبّر الوحيد عن أماني سورية القومية. وإذا أمكن أن تنشر الزوبعة عن عقد مؤتـمر في البرازيل كان ذلك حسناً، حتى ولو لم يكن الـمؤتـمر جهراً، نظراً لقوانين البرازيل، إلا إذا تـمكنتم من الـحصول على سماح رسمي بعقد مؤتـمر للنظر في حقوق سورية ووضع مذكرة بها. فإذا أمكن ذلك كان نـجاحاً باهراً.
كتبت أمس إلى الـمنفذ العام وسألته رأيه وموقفه من الـمير شكيب أرسلان. وأرسلت الكتاب بالبريد العادي. وإني أعلم أنّ الرفيق [نـجيب] العسراوي كان من أكبر الـمدافعيـن عن شكيب أرسلان في الـماضي. ولكنه في كتاب سابق إليّ يعلن فقد ثقته بكل الذين اشتغلوا بالقضية من الطراز القديـم وعسى أن يكون أرسلان في عدادهم.
لم أجد للرفيق إبراهيم طنوس مقالات مؤخراً في سـورية الـجـديدة فعسى ألاّ يكـون له ما يزعجه في هذه الأيام. وسأكتب إليه. بلّغه سلامي وأطلعه على هذا الكتاب إذا أمكن. هنا بعض الصحف العاملـة لشكيب أرسلان أعلنت عن عـزم رشيد الـخوري على الـمجيء مع علي الـحاج (؟!) ليكونا «همزة وصل» بين جاليتي البرازيل والأرجنتيـن والسعي لعقد مؤتـمر هنا، وينتظر أن يصل وقد تأخر ومن يدري إذا كان يجيء؟
سلامي لك وللرفقاء العامليـن. وعسى أن تكون السنة الـجديدة سنة توفيق خصوصي وقومي ولتحيى سورية.
عنواني الآن:
Rep. Argentina
Buenos Aires
Paraguay, 402