بوينُس آيرس في 4 أغسطس/ آب 1940 - لـمراسل سورية الـجديدة الـخاص
النهضة القومية
في كل يوم نشاهد دليلاً جديداً على استفاقة الـجالية السورية وتنبهها القومي، وانتشار روح الـحمية فيها. فالـمبادىء السورية القومية تكتسح اليوم الـجالية اكتساحاً. والكتب التي ترد على حضرة الزعيم من الداخلية حاملة إليه عبارات التأييد عديدة. ومـما هو جدير بالذكر أنّ بعض الـمناطق التي لم تكن تظهر من قبل ابتدأت تظهر اليوم ولقد كانت الـحركة الفعلية مقتصرة، حتى الآن، على الولايات الشمالية، توكومان وسانتياغو دل استيرو وما حولهما، ولكنها ابتدأت الآن تتناول مناطق جديدة. وتظهر اليوم بصورة جلية في ولاية سان خوان حيث ابتدأت عصبة كريمة تعمل على إنهاض الهمم وتنشر الدعوة السورية القومية، وأخبار نـجاحها تتواتر بشكل يدعو إلى الارتياح.
وقد كان لـخبر تـجريد خالد أديب من رتبة الأمانة أولاً، ثم طرده ثانياً، تأثير حسن في الأوساط القومية وبين الناس. وابتدأ يدرك الذين هم خارج الـحركة أنّ نظامها دقيق جداً، وأنّ عدلها لا يعرف الـمحاباة، فارتفعت معنويات الـحزب السوري القومي في نظر الـجالية، وعرف القاصي والداني أنّ الـحزب ليس كغيره تنخر عظمه الـمفاسد من الداخل وهو يسترها خشية الفضيحة، بل هو حزب لا يصبر على الفساد، لأنه يريد بنيته سليمة صالـحة لإقامة النظام وحمل عبء الـحركة. والقاعدة التي وضعها الزعيم في هذا الصدد هي: مئة عدو في الـخارج خير من خائن واحد في الداخل.
وقد تسلّم مكتب الزعيم كتباً كثيرة من القوميين تـحمل استنكارهم عمل خالد أديب وتعلن سخطهم عليه، واشمئزازهم من دناءة عمله واستفظاعهم الـجريـمة التي ارتكبها، بعدم إبلاغ الزعيم في البرازيل خبر طلب التحري له، وهو الـحامل آنئذٍ رتبة الأمانة للزعيم والقضية القومية، وبتعريضه على هذا الشكل حياة الزعيم للخطر، كما عاد فعرّض حياة نخبة من أركان الـحركة القومية ماثلة أمام الـمحكمة العسكرية في الوطن، بعدم تنفيذه التدابير التي أمره الزعيم باتخاذها لتقديم أدلة راهنة للمحكمة العسكرية تثبت براءتها من التهمة الـموجهة إليها.
وقد خشي بعض القوميين الـجدد أن يؤدي طرد خالد أديب إلى انقلاب في نفوس الـمسلمين من الأعضاء القوميين. وسمعت واحداً من خارج الـحزب يقول: «أترى كيف أنه لا يـمكن الاتفاق بين الـمسلمين والـمسيحيين؟» فقلت له إنّ الـمسألة مسألة خيانة فردية، والـخونة عندنا في جميع الأديان، وقد سبق خالد أديب خائنون آخرون مسيحيون وغير مسيحيين. أما القوميون الـجدد فقد تبددت خشيتهم حين نهض الرفيق كامل حسين الشيخ وروى بكل صراحة وإخلاص ما جرى بينه وبين خالد أديب منذ بضعة أشهر. وكانت روايته في جمع من القوميين. قال: «ضرب لي خالد أديب موعداً في مكتب جبران سابا فذهبت في الـموعد فوجدت خالداً يحدث حسني عبدالـمالك. فانتظرت حتى فرغ. فخرج معي وأخذ يحدثني حديثاً مسهباً عن الوطن والـحركة، تدرج فيه إلى إعلان هذه النتيجة: «ويجب أن يكون واضحاً أنّ سورية لنا لا لهم»، فسألته متعجباً لـمن سورية، وكيف هي لنا؟ فقال: نعم لنا نحن لا لهم، عانياً الـمسلمين. فتظاهرت بأنـي لم أفهم جيداً، وتركت خالداً ومضيت مشمئزاً وآليت ألا أعود إلى الاجتماع به.» وكامل حسين الشيخ هو أحد الأعضاء القدماء، انخرط في سلك الـحزب في مشغرة وحضر حوادث في الوطن وسجن في زحلة. وقد حدثنا عن عناية القوميات في زحلة بالـمسجونين واهتمامهن بهم مـما أثار الإعجاب.
رواية «في سبيل التاج»
ستكون باكورة أعمال «الـجمعية السورية الثقافية» تـمثيل رواية «في سبيل التاج» التي أشرت إليها في رسائلي السابقة. وقد بلغني أنّ الـجمعية لا تقصد من تـمثيل هذه الرواية غير إعطاء صورة مصغرة للدرك الذي بلغه فن التمثيل السوري في انحطاطه، لكي تتمكن فيما بعد من إظهار مبلغ التحسين الذي تقصد إدخاله على هذا الفن، لإحياء الأدب الرسمي وفنه وجعل الـمرسح السوري صالـحاً لتصوير الـحياة ورموزها ومثلها العليا.
ستمثل الرواية في أحد الـمراسح الكبرى في هذه العاصمة والإقبال عليها كبير، إذ إنّ الدعاوة الـمعاكسة التي قامت بها «الـجامعة اللبنانية» منيت بالفشل، وظهر جلياً للناس أنّ هذه الـجمعية لم تكن مستعدة لتمثيل الرواية عينها التي تـمثلها «الـجمعية السورية الثقافية»، وأنّ إعلانها عن قرب تـمثيلها لم يكن سوى اجتهاد من قبلها لتعطيل نـجاح تمثيل«الـجمعية السورية الثقافية».
وقد بلغني أنّ زكي قنصل اجتمع بالشاب الأديب شبلي اليبرودي وأخذ يحاول إقناعه بوجوب الانسحاب من دوره في الرواية، ولكن هذا الشاب الطيب الأخلاق أفهم زكي قنصل أنه لا يريد أن يتبع خطاه ويترك رفقاءه في التمثيل ويسلك مسلكـاً غير شريف.
إعتراف حسني عبدالـمالك
كان لإزاحة سورية الـجديدة الغطاء عن سوابق الـمدعو حسني عبدالـمالك تأثير كبير في أوساط الـجالية السورية في الأرجنتين أدى إلى اهتمام شديد بقضية تلاعبه بأموال إعانة الـمجاهدين الذين نزحوا إلى الصحراء بعد فشل الثورة الدرزية. فقد كان الناس يظنون أنّ الأموال أرسلت إلى أصحابـها، وأنّ حسني عبدالـمالك رجل شريف ووطني غيور، ولم يكن يخطر في بالهم أنّ هذا الرجل دجال إلى هذا الـحد البعيد، حتى أنه يـمد يده إلى أموال جُمعت لإعانة جماعة نكبت نكبة شديدة في ثورتها ضد الأجنبي الـمحتل، ويحوّلها إلى جيبه الـخاص بعد تـحويلها إلى اسمه الـخاص، بالاتفاق مع بعض أعضاء هيئة جمعية «ثمرة الإحسان» الإدارية.
كثيرون هم الذين ظنوا، في بادىء الأمر، أنّ في رواية سورية الـجديدة مبالغة. وهذا ما حاول حسني عبدالـمالك وشركاؤه إقناع الناس به. ولكن بعض الغيورين أخذوا يهتمون للأمر ويستقصون حقيقته لكي لا تذهب مسألة خطيرة من هذا النوع بدون بيان وافٍ تأخذ الـجالية منه درساً مفيداً، فلا تعود تقع في شراك الـمتلاعبين بشعور الناس وأمانيهم وأعمالـهم الطيبة.
وقد وقع هؤلاء الـمتقصون على وثيقة تثبت أنّ حسني عبدالـمالك استساغ تـحويل قسم كبير من أموال الإعانة إلى جيبه الـخاص ليتصرف به مع شركائه. وهذه الوثيقة هي بيان من حسني عبدالـمالك نفسه نشره في جريدة السلام على أثر تساؤل الناس عن سبب تـحويل الـمال إلى إسم حسني عبدالـمالك. وهو كما يأتي:
«نشرت في العدد الـماضي كلمة بعنوان «من سيرة الاكتتاب للجياع السوريين» وختمتها واعداً بنشر ما بقي لديّ من الكلام. وجوهر ما أنا مزمع على إيضاحه هو السبب «الرئيسي» لا السبب «الثانوي» في تأخير إرسال الـمال وسبب وضعه في صندوق التوفير ببنك «لا ناسيون» باسم جمعية «ثمرة الإحسان» ولأمري أنا، وسبب الـمناورة التي يقوم بها بعض الـمغرضين والـمفسدين (!). والآن ربـما يستغرب القراء صدور هذا العدد من السلام دون أن أنشر ما وعدت به، فأقول إنني لست على اتفاق مع مدير الـجريدة إذا كان يلزم الاهتمام بهذا الأمر أم لا يلزم. وبـما أنّ رأيي هو وجوب الاهتمام به فسأنشر ما لديّ في منشورات خصوصية توزع على العموم إذا لم أجد جريدة تنشر لي ما أريد بكل حرية واستقلال.
حسني عبدالـمالك»
تاريخ هذه الوثيقة يعود إلى أواسط شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1930 وهي من أغرب الوثائق وأشدها تـحقيراً للجالية السورية وطعناً في مداركها، وفيها إهانة شديدة موجهة إلى الذين سفكت منهم دماء وتهدمت لهم منازل ولـحقت بهم خسائر فادحة، من أجل قيامهم للمحافظة على شرفهم كرجال ونساء أحرار. فحسني عبدالـمالك يبخل عليهم بلفظة «مجاهدين» ويسميهم «الـجياع السوريين». أما الـجهاد فله ولأمثاله من النفعيين الـمستغلين عواطف الـجوالي السورية نثراً ونظماً.
كل لبيب يقرأ هذه الوثيقة بشيء من الإمعان يدرك أنّ القصد منها مخاتلة الرأي العام وخدع الـجمهور وستر الـحقيقة الفاضحة، ودفع الفضيحة النازلة. فحسني عبدالـمالك كان قد كتب كلمة قبل هذه ووعد بها إعطاء بيان بأسباب تـحويل أموال الـمجاهدين لإسمه الـخاص، وعدم إرساله إلى الـمجاهدين. ولكنه لم يجد عذراً كافياً ولا حجة يـمكن أن يقبلها الرأي العام فالتجأ إلى حيلة لا تـجوز إلا على البسطاء والـمغفّلين، وهي أنه «ليس على اتفاق تام مع مدير الـجريدة إذا كان يلزم الاهتمام بهذا الأمر أم لا يلزم.» أما إدخاله السيد وديع شمعون، مدير الـجريدة، في أمر هذه الفضيحة فمسألة تسترعي الاهتمام الكلي إذ تدل على أنّ للمدير الـمذكور ضلعاً في الفضيحة، وإلا فما هو سبب تـمنّعه عن الإجازة لـحسني عبدالـمالك إدلاء بيانه عن قضية أموال عامة تهمّ الـجالية وتهمّ الـمجاهدين، وتهمّ الرأي العام السوري كله؟ إنّ جريدة عمومية تدّعي خدمة الرأي العام بـالأخبـار والتعليقـات عن القضايا التي تهمّه، لا تـمنع من نشر حقائـق قضيـة خطيـرة كهذه إلا لأسباب خصوصية، فما هي هذه الأسباب الـخصوصية؟ إننا لا نحصل على إيضاح أو جواب من إدارة السلام على هذه التهمة التي يعلنها حسني عبدالـمالك العامل كاتباً فيها ويلحقها بها. أما فيما يختص بحسني عبدالـمالك نفسه فقد اكتفى بهذا البيان ولم يعد إلى نشر «الأسباب» الداعية لأخذه الأموال الـموقوفة على الـمجاهدين بدلاً من هؤلاء. ومنذ سنة 1930 بقيت الـمسألة عند هذا الـحد وعدّها حسني عبدالـمالك وشركاؤه قد طويت حتى نشرتها سورية الـجديدة فعاد الناس يتداولونها.
كنت منذ بضعة أيام أتـحدث مع بعض النابهين في الـجالية، وتطرّقنا إلى فضيحة أموال الـمجاهدين، فقال محادثي إنّ ترك هذه الـمسألة بدون حساب يبقي على الفساد في الـجالية ويشجع فاعلي الإثم على التمادي في شرورهم. وهو يعتقد أنّ هذه الـمسألة تستر وراءها سلسلة فضائح يجب أن يزاح الستار عنها خدمة للجالية والقضية القومية، لأنه إذا ظل الـمتلاعبون بالـمشاريع العمومية مستورين فلا أمل بنجاح نهضة أو مشروع عمومي.
ومـما يؤكد قول صاحبي بوجود سلسلة فضائح في هذه الـمسألة أنّ بعض الذين حاولوا الاهتمام الـجدي بإزاحة الستار عن خفاياها اصطدموا بـمعاكسة البعض الذين يـميلون إلى السكوت على هذا الأمر الـخطير.