تابع رسالة بيروت في 18 فبراير/شباط
إنّ أهم عبارة على الإطلاق في تعميم الـحكومة الـمتقدم هي هذه: «على أنّ الاحتياط والقمع لا يكونان فعالين إلا بقدر ما يتناولان الـمدبّرين والـمحرضين قبل الـمتظاهرين الـخاملي الذكر، الخ...» فالواضح الصريح من هذه العبارة أنّ الـحكومة تريد أن تتذرع بكل حادث بسيط لتحميل كبار الـمسؤولين في الـحزب السوري القومي تبعة «الإخلال بالأمن العام» ولـملاحقتهم وإلقاء القبض عليهم. فإذا تشاجر أحد القوميين مع أحد من الناس لأسباب عقائدية أو سياسية كان على الشرطة أو الـجندرمة أن تضع في محضر الضبط «إنّ فلاناً ينتمي إلى الـحزب السوري القومي. وهو حزب يعمل في الـجمهورية اللبنانية بدون رخصة قانونية. زعيمه أنطون سعاده وعمُده فلان وفلان وفلان. وترجح الـجندرمة أنّ الشجار كان بتحريض الرؤساء نظراً للطاعة الـمشهورة عن هذا الـحزب.» وأي تركيب كلامي مثل هذا التركيب يكفي ذريعة للحكومة لتطلب ملاحقة زعيم الـحزب وأركانه وموظفيه فيؤخذون على غرّة من حيث لا يدرون.
والظاهـر أنّ مغـزى هذا التعميم الذي فات معظم الناس هنا لم يفت مراجع الـحزب السوري القومي العليا، فتشكل وفد من الأمينين ثابت وقبرصي لـمقابلة مراجع الـمفوضية في صدده. فزار هذا الوفد رئيس الغرفة السياسية وطلب رأيه في التعميم الـمشار إليه، فقال إنه لا يجد خطراً بارزاً على الـحزب، فأشار الأمين ثابت إلى أنه مع كل ما في التعميم الـمشار إليه من دلائل القياس العام فتطبيقه عملياً مقصود به الـحزب السوري القومي فقط أو في الدرجة الأولى على الأقل لسببين: الأول أنه لا يوجد في لبنان جمعيات تقوم بحركات واسعة غير الـحزب السوري القومي. والثاني أنّ هذا الـحزب هو الـحزب الوحيد الذي نشأ بدون الأخذ برغبة السلطة أو خلافاً لرغبتها، على العكس من جميع الأحزاب التقليدية التي أنشأتها السلطة في لبنان وتعهدتها وكانت الـحكومة كل شيء فيها.
فأجاب رئيس الغرفة السياسية أنه لا ينكر الصعوبات التي تقيمها الـحكومة للحزب السوري القومي. ولكنه يعتقد أنّ مشاكل الـحزب مع الـحكومة اللبنانية ناشئة عن توتر العلاقات بين لبنان والشام بسبب الـخلاف على الـمصالح الـمشتركة!
فردّ الوفد على هذا الكلام بصراحة وقال إنه يتعجب أن تكون الـمشادة بين الـحكومتين اللبنانية والشامية سبباً للتفكير في اضطهاد الـحزب السوري القومي وملاحقته، لأن الـحزب لا شأن له في الـخلاف الناشب على الـمصالح الـمشتركة غير شأن الـموقف. وأشار إلى أنّ الدستور اللبناني لا يـمكنه أن يفرض على اللبنانيين عقائد ومبادىء قومية «ستندرد» وأنّ كل ما يطلبه الدستور هو مراعاة النظام الـمعمول به من غير مساس بعقائد اللبنانيين. ولـمّا كان السوريون القوميون يـمارسون عقائدهم ضمن النطاق الدستوري والنظام الأساسي الـمرعي وهي مـمارسة تخوّلهم إياها حقوقهم الـمدنية، فإن كل ملاحقة جديدة لا يكون لها نتيجة غير إخراج السوريين القوميين عن هذه الـحدود بعد جميل الصبر الذي أظهروه.
وعلى أثر هذا الكلام اعتبر الوفد أنّ الـمقابلة قد انتهت.
خرج الوفد السوري القومي من الغرفة السياسية في الـمفوضية الفرنسية بعد أن أدى رسالته على أفضل وجه. وقد رأت دوائر السلطة من اهتمام الـحزب لأمر التعميم الصادر من الـحكومة اللبنانية أنه متيقظ جداً. ودلّت قرائن الأحوال، على أنّ الـحكومة ستتجنب القيام بحركة عامة تـجاه الـحزب، ولكنها ستحاول عرقلة بعض أعماله والـحصول على معلومات عن خططه. وجاء حادث تأديب عارف الغريب للمرة الثالثة ذريعة لـمكتب التحريات ليتابع البحث عن «الوثائق» والـمعلومات الـمفيدة بالنشاط الـمفروض فيه إظهاره لقاء معاشات موظفيه.
أما سبب ضرب عارف الغريب للمرة الثالثة فهو عودة هذا الصحافي الـجاهل إلى التهجم على الـحزب السوري القومي واختلاق الإشاعات عنه. فإن أحد أفراد الـحزب الـمدعو محمد سعيد اللحام ثار ثائره وقرر الانتقام للحزب بتأديب ذلك الصحافي وأطلع بعض رفقائه القوميين على عزمه، وفي ذات يوم إلتقاه وكانت النتيجة أنه ضربه ضرباً مبرحاً، فقُبض عليه وأقرَّ بفعله وأدلى بالسبب الذي حمله على تأديب عارف الغريب وصرح بأنه أتى ما أتاه بدافع غيرته على حزبه وعقيدته. ولكن الـحكومة اللبنانية رأت ألا تفوّت هذه الفرصة فقررت العمل ببعض تفاصيل الـخطة التي رسمتها لـمهاجمة الـحزب السوري القومي وبـمنطوق تعميمها الذي أثبتّه فوق. فهاجم التحري بيوت بعض القوميين الآمنين وأوقفوا الرفيقين فكتور أسعد وعبدالرحمن العكاوي. ولـمّا لم يتوفقوا ولم يعثروا على وثائق حزبية قرروا توسيع نطاق التحري والتوقيف فأوقفوا عدداً من القوميين والأمين مأمون أياس وأجروا بعض توقيفات في طرابلس. ثم أوعز مكتب التحريات إلى الصحف التي لها علاقة بـمكتبه بنشر ما يبرر هذه التوقيفات. فقامت هذه الصحف تتكلم عن الأسرار الغريبة والوثائق الـخطيرة التي تـمكن مكتب التحريات من العثور عليها وكل ذلك أوهام يستر بها السيد فرنان أرسانيوس عجزه وعجز مكتبه عن الوقوف على شيء حقيقي. ونشرت جريدة البشير في عددها الصادر في 26 أكتوبر/تشرين الأول الـماضي هذه الأضلولة:
«كلما اتسع نطاق التحقيق في حادث الاعتداء على الأستاذ عارف الغريب صاحب الـمساء ظهرت للمحققين أسرار غريبة تتعلق بالـحزب السوري القومي وأعماله.
«ولقد تـمكن مكتب التحريات القضائية في بيروت بعد توقيف السيدين عبدالرحمن العكاوي وفكتور أسعد من العثور على بعض الـمخابرات الدائرة بين الزعيم أنطون سعاده في الـخارج وبين أركان حزبه. وقيل إنّ هذه الـمخابرات على جانب كبير من الأهمية فقرر توسيع التحقيق.
«وداهم رجال التحري في بيروت منزل السيد إلياس ميخائيل سمعان الذي تبيّن لهم أنه من أعضاء الـحزب فلم يجدوه فيه ثم قصدوا إلى دكانه فاعتقلوه فيه ووجدوا في هذا الـحانوت كثيراً من الأوراق والوثائق فصادروها وسلّموا الشاب إلى الـمستنطق الذي أصدر بحقه مذكرة توقيف غير موقت وأودع السجن.
«وعقد على الأثر اجتماع في مكتب النائب العام فتقرر توقيف أشخاص آخرين من قادة الـحزب فصدرت بحقهم الـمذكرات.
«وقبض على الأستاذ مأمون أياس وصودر من منزله كثير من الـمستندات والأوراق فسلّم معها إلى الـمستنطق الذي أصدر بحقه مذكرة توقيف غير موقت.
«وجيء من طرابلس إلى بيروت بأحمد ناصيف جحجاح وهو من الذين ساعدوا محمد سعيد اللحام ضارب الأستاذ الغريب على الاختفاء من وجه القانون في قرية بترومين.»