عزيزي فخري،
كتبت إليك مساء أمس كتاباً مستعجلاً ليدرك البريد العادي، وأظن أنّ هذا الكتاب الذي أكتبه صباحاً سيدرك كتاب أمس ويرافقه. وقد جعلت العنوان باسم فاضل، لأنّ اسمه الإغريقي أبعد ما يكون عن الشبهة. إني جالس الآن في ظل خميلة وارفة الظل وسط غابة ما أجملها غابة! فحولي أنواع عديدة من الشجر من صنوبر وشجر يشبه الـحور منبسط الأغصان، ورقه يشبه راحة الكف وله أصابع خمس، وأشجار أخرى لا أعرف أسماءها. وبقربي سيل ماء يسمع له خرير لطيف.
أريد أن أذكر لك الأيام الأخيرة في عمّان وسفري إلى هذا الـمكان. إنّ زيارة بعض أصدقاء وأقرباء مضيفي جعلت وجودي في عمّان منكشفاً. وكان نايف [قعوار] يرتأي أن أزور الأمير لعله يـمكن الاتفاق معه. وحدث تسرّع من هذه الـجهة فلم تدرس وضعية الأمير قبل الـجزم بهذه الفكرة. وقد جرّ إلى الإسراع ذهابي إلى السلط لزيارة أهل نايف. وفي السلط يقيم الأستاذ الشنقيطي، أحد رجال الأمير الـمخلصيـن له. وكان من رأي نايف الاتصال به، لأنه سيعلم بـمجيئنا إلى السلط، فزاره نايف وأخبره بوجودي في دار أبيه، فخفّ لاستقبالي والسلام عليّ وكان في حديثه ودوداً. وهو الذي عرض عليّ فكرة زيارة الأمير، فقبلت، فقال إنّ الأمير نايف بن الأمير عبدالله سيكون عنده بعد الظهر وإنه سيتحدث معه في هذا الأمر، على أن أزور الأمير في صباح اليوم التالي. عند الظهر غادرنا السلط وفي صباح اليوم التالي، السبت في 18 الـجاري، ذهبت لـمقابلة الأمير في موعد ضربه. وكان عنده رئيس وزارته والسيد فؤاد الـخطيب، رئيس دوائر الشرطة. وبعد أن استقر بنا الـمقام وفاتـحة مجاملة، أبلغني الأمير أنه لا يحب نشوء أحزاب في منطقة نفوذه وأنه بلغه أني قادم لإنشاء فرع للحزب وهو لا يودّ ذلك، فجاملته وقابلت كلامه بعدم اكتراث ظاهر ونهضت وخرجت بعد أن ودعت الأمير وأنا منتصب كما سلّمت عليه عند قدومي. والظاهر أنّ الأمير شعر بصلابة عودي فلم يقرّ له قرار بعد خروجي من عنده. والـحقيقة أنّ قلقه كان قد ابتدأ يظهر حالـما أبلغه الشنقيطي بالتلفون خبر وجودي في عمّان منذ أيام. ففي ذلك اليوم عينه، أي الـجمعة، تلفن إلى القائد العام وسأله إذا كان يعرف شيئاً عن وجود «شخصية خطيرة» في عمّان وأنّب القيادة على جهلها الأمر. وقد علمت أنّ الأمير ووزارته صرفوا أيام السبت والأحد والإثنيـن في تداول ومخابرات واتخاذ تدابير. وكان قد بلغهم أنّ وجودي في عمّان هو بدون جواز سفر أو بدون إجازة رسمية فأرسلوا مساء الإثنيـن عريفاً وفرداً يطلبان جواز سفري لتطّلع عليه القيادة فأعطيتهم الـجواز. وقد بلغني أنهم كانوا يقصدون القبض عليّ وتوقيفي ذلك الليل ووضعي خارج الـحدود في صباح اليوم التالي، ولكن جواز سفري كان مستوفياً الشروط فلم يـمكنهم فعل شيء، ولكنهم أخذوا يشيرون بوجوب مغادرتي شرق الأردن «لأن الـحكومة في خوف وقلق». فسافرت في صباح الثلاثاء في 21 يونيو/حزيران بطريق إربد، جسر الـمجامع، طبريا حيث عرّجت على منزل أهل يوسف [صايغ] ووجدت هناك فؤاد [صايغ] وتناولت الغداء عنده وتابعت إلى حيفا وليس معي سوى 8 ليرات سورية. فأعطيت السائق خمس ليرات وأحلت الباقي على نايف إذ تركت معه أربعيـن كتاباً وأخذت معي 10 إلى حيفا. وبقي معي ثلاث ليرات سورية ولم أكن أعرف مقرّ أحد في حيفا، وفيما أنا أتـجول في حيفا التقيت بصديقة أحد الأعضاء التي جاءت معه في أيام الثلج إلى بيروت وهي صديقة جمال ناصيف. وهي فتاة يقولون إنها إنكليزية ولكني أعتقد أنها يهودية. فهذه عرفتني وأسرعت فخابرت السيد سليم سفري وبواسطته تـم الاتصال بباقي الأعضاء. وكان من حسن حظي أنّ باخرة شركة اللويد تريستينو تسافر مساء الأربعاء إلى قبرص. فتمكنت هيئة الـمنفذية في خلال أربع وعشرين ساعة من إيجاد الـمبلغ اللازم لي لسفري. والـحقيقة أنّ الأعضاء في حيفا، على كسلهم الـماضي وتراخيهم، كانوا جيّدي الروحية. وقد عقدت اجتماعات إدارية وعمومية وأفهمتهم الواجبات العملية وطريقة العمل. وأظن أنّ حيفا ستتحسن كثيراً بعد الآن.
إنّ قبرص جزيرة صغيرة وأهلها في خمول دونه الـخمول الذي لا يزال معششاً في بعض أوساط شعبنا. وكثير منهم يشبهون السورييـن شبهاً عظيماً، ولعل ذلك بسبب الـمزيج السوري - الإغريقي القديـم. والـجزيرة ليست غنية ولكن فيها معادن نحاس يشتغل فيها بضعة آلاف، والبقعة العالية التي أنا فيها الآن تصلح لـجلب عدد كبير من السياح وطلاب الراحة، وأرى أنه لا بد لي من الإقامة نحو شهر ونصف لترويح النفس وتقويـم الصحة والنشاط من أجل متابعة العمل. والـمكان هنا يعطيني راحة تامة فالـمصطافون لا يزالون قليليـن والطبيعة جميلة ورحبة. فهو الـمكان الذي كنت أتـمنى الـحصول عليه وجئته مكرهاً!
أحب أن أعرف ماذا جرى للمدربيـن وهل يتابعان أعمالهما؟ ويجب عليهما أن يجتهدا كثيراً في هذا السبيل، لأنّ قسماً كبيراً من عمل النهضة العظيم سيكون في هذه الناحيـة.
كيف حال الـماما وفايزة عساهما بخير وراحة بال. وكيف فاضل؟ سأكتب إلى رشدي ويوسف قريباً. بلّغ الـجميع سلامي. واسلم. ولا تنسَ أن ترسل إليّ بعض الصحف والأخبار. ولتحيى سورية.