إنّ الموقف السياسي الـحاضر، على أنه ليس الـموقف الأخير في النضال العنيف بين الـحقوق والـمصالح القومية من جهة، والـمصالح الإمبراطورية الاستعمارية من جهة أخرى، موقف خطير، تترتب عليه نتائج خطرة للأمة السورية. فهو إما أن يكون فاتـحة عهد السيادة القومية، وإما أن يكون خطوة واسعة في سبيل التجزئة التي بلي بها وطننا حين كان يـمثِّل مصالحه نفر لا يعرفون من طبيعة الأمر القائمين به سوى كلمات مطاطة ورغبات جزئية بعيدة كل البعد عن سد حاجة عامة.
لا تسمح لنا هذه العجالة بالعودة إلى تتبع الأدوار الهامّة التي لعبتها السياسة الكبرى في تقرير اقتسام تركة «الرجل الـمريض» عموماً، وسورية خصوصاً، ولا إلى درس الـمفاوضات البريطانية - الفرنسية - الروسية التي سبقت معاهدة باريس، الـمعروفة بـمعاهدة سايكس - بيكو، وأدّت إلى تفاهم بشأن الأرض الـمقدسة. وهذه الـمعاهدة الغريبة، نفسها، واللعبة السمجة التي لعبها الـحلفاء أثناء مؤتـمر الصلح، ومؤتـمر سان ريـمو السيّىء الطالع، ومعاهدة سيفر التي تاهت في مهامه الـمخابرات والـمناقشات الفنية، ومعاهدة لوزان التي هنّأ موقعوها بعضهم بعضاً بالتغلب على صعوبات الاقتسام، وبتسوية حدود الأرض ومناطق النفوذ ومدى الـحقوق.
أجـل، لا تسمح لـنا هذه العجالة بالعودة إلى درس موقف روسية وفرنسة وبريطانية في مؤتـمر الصلح، وميثاق الـجمعية الأمـمية، والـمادة الثانية والعشرين من هذا الـميثاق، البتراء، الـمشعثة الـمبادىء، ولا بدرس صكوك الانتداب وكيف وضعت، ومقدار مطابقتها للمادة الثانية والعشرين من ميثاق الـجمعية الأمـمية في الغرض الأخير منها وفي نصها، ولا بدرس حالة الأمة السورية التي تقرَّر مصيرها من غير استشارتها استشارة صحيحة، أو بالاستناد إلى ادعاءات بعض صنائع السياسة الكبرى، مـمن انتحل لنفسه صفة محامي الشيطان، في الفاتيكان، فادّعى تـمثيل رأي الأمة، والأمة لـمّا تستيقظ من فوضى الـحرب وبلبلة العقائد لرأي صحيح، ورمى الأمة بالعجز واتهمها بكل نقيصة، ولا بدرس الشعوذة الوطنية التي لم تتمكن من الارتقاء إلى مرتبة نهضة قومية مُحكمة الأسس، وكانت في الوقت الذي توقظ فيه العاطفة الوطنية تهمل العمل القومي البنائي.
لا تسمـح لنا هذه العجالة بدرس شيء من ذلك، مـما لا بد لنا من العودة إلى درسه في مكان آخر، ولكنها تسمح لنا بتمحيص الـموقف السياسي الأخير، وإبداء وجهة نظرنا فيه.
قلنا في تصريح نشر في جريدة الـمعرض، عدد 1103، «إنّ ابتداء الـمفاوضات في سنة 1936 على الأساس الذي كان صالـحاً سنة 1928 لـمن الـخطوات السياسية العرجاء»، وعنينا بذلك أنّ الفرصة كانت سانحة لبحث قضية سورية الـمشمولة بالانتداب الفرنسي بكاملها، بعد أن أوجدت نهضة الـحزب السوري القومي كل الوسائل العملية الـممكنة لتوحيد الـجبهة وتـمثيل لبنان والشام في قضية واحدة يـمكن أن تُـحل بطريقة تكفل استمرار التطور نحو الوحدة التامة الوثيقة، بإيجاد الـجو الـحر من الوجهة القانونية الدولية، وبتعيين الاتـجاه السياسي القومي من الوجهة الداخلية. ولكن سياسيي الداخل، الذين أسرعوا إلى إنكار حق العمل القومي على سواهم، وقفوا جامدين تـجاه التطور الـجديد، وفضلوا التمسك بـمطالب سنة 1928 على الاتـحاد مع القوة الـجديدة الـمنظمة، وفتح السبل أمامها لتنظيم البلاد سياسياً وعملياً، فكان موقفهم حائلاً دون توحيد القضية، بعد أن اعترف رئيس لـجنة الشؤون الـخارجية للمجلس الفرنسي، السيد باستيد، بأن القضية السورية قد تطوَّرت تطوُّراً يسمح بدرسها درساً جديداً دقيقاً. والـحقيقة أنّ تقصير الـجانب السوري الـمفاوض عن الـمطالبة بـما اعترف به الـجانب الفرنسي نفسه لـمن الأغلاط السياسية البعيدة الأثر التي لا بد لنا من تسجيلها للدرس والاعتبار.
مع أنّ الـموقف الذي وقفه سياسيو الداخل، أو من ادّعى تـمثيلهم، بصدد نهضة الـحزب السوري القومي، لم يكن موقفاً مؤيداً ومشجعاً على التعاون، فإن الـحزب لم يألُ جهداً في مد يده للوفد الذي تقرر إرساله إلى فرنسة مفاوضاً، ومساعدته في كل أمر خطير يؤول إلى خير الأمة، فرفع إلى الوفد تقريراً ضافياً بالـحالة الاقتصادية في سورية، الـمشمولة بالانتداب الفرنسي، تبناه الوفد، وأعلن هذا التبني. ولـما ظهر أنّ الوفد لم يعرض للبنان في الـمفاوضات الأساسية في بيروت، وكنا حريصين على أن لا تسير الـمفاوضات من غير أن تتناول اعتبار لبنان جزءاً من البلاد السورية له الـحق بالدخول في الوحدة السورية حين تقرر أكثريته ذلك وفي الظروف الـمناسبة، قررنا إرسال مذكرة إلى الوفد قبل سفره في هذا الصدد. وهكذا كان، فقد سلّم رسول مستعجل رسالة بهذا الـمعنى إلى الوفد قبل سير القطار من رياق ببضع دقائق. وكان هذا الـحد الأخير الذي جاز لنا البلوغ إليه في التعاون مع مـمثلي النتيجة السياسية لـحوادث الداخلية، والـمطالبين بنصوص سنة 1928 والـمطالب الـمتعلقة بـمناطق الداخلية فقط.
وكان الـحزب السوري القومي قد أعلن، بواسطة العريضة التي قدّمها الأستاذ لبكي، ونشرتها الصحف في حينه، موقفه من القضية السورية ومسألة لبنان. ولكن الـجانب الوطني أهمل هذه الإمكانية، كما أهملها الـجانب الفرنسي. والأغرب من كل ذلك، أنّ زعماء الوطنيين في الشام اعتمدوا على سياسة الـمفاوضات، وأغفلوا إمكانية تنظيم البلاد فكرياً وعملياً، التي يقدمها الـحزب السوري القومي، ففاوضوا على أساس عقد معاهدة من غير أن يكونوا قد أمّنوا الوحدة بالفعل، ولذلك نرى الـحركات الانفصالية في مناطق الداخلية تشجَّع في كل مكان، والأمل الوحيد بتحقيق الوحدة الداخلية، في حالة استفتاء، هو في وطنية أهل الـمناطق غير الـمنظمة. ولو أنّ التعاون مع نهضة الـحزب السوري القومي، التنظيمية، سار في طريق فسح الـمجال للعمل الـموحد أو الـمشترك، لـما كنا الآن في شكوك كثيرة من نتائج الـمفاوضات الباريسية، سواء أكانت الـمفاوضات ناجحة أو خائبة.
الـحقيقة أنّ عقد معاهدة على مثال الـمعاهدة العراقية - البريطانية، ولـمثل مدتها، على أساس أنّ سورية لا تشمل إلا الشام، وقد تشمل جبل الدروز والعلويين فقط، من غير تسويـة عـامة لـمنطقة الانتـداب الفرنسي كـلها، تدخل فيها جميع القضايا السياسية، وخصوصاً الاقتصادية - إنّ عقد معاهدة في هذه الـحدود الضيقة ليس نـجاحاً قومياً مطلقاً، لأن تصريحات السيد باستيد، الـمشار إليها آنفاً، تدل على أنّ الدوائر السياسية الفرنسية كانت تتوقع مطالب أوسع نطاقاً من مطالب الوفد.
لا شك في أنّ الوفد الـحالي هو آخر الوفود السورية، التي تـمثل عهداً خلا من التنظيم السياسي والإداري في الـمسائل القومية، لأن اليقظة الفكرية والنهضة السياسية الاجتماعية، اللتين ولدهما الـحزب السوري القومي، آخذتان في تغيير الأسس العملية العتيقة، ووضع أسس جديدة من الاشتراك النظامي في العمل القومي، في مؤسسات تكفل استمرار السياسة الرشيدة وتـجنب الوقوع في الأضاليل والـحركات الاعتباطية.
إنّ الـمناورة التي قام بها الـجانب الانتدابي، كانت، حتى الآن، موفقة. فإن هذه الـمناورة قد رمت إلى إقرار الـحالة الراهنة، بسرعة قبل أن يتاح لـحركة الـحزب السوري القومي أن تعم البلاد بأسرها وتـحوّلها إلى جبهة واحدة يدخل فيها لبنان. ولا بد لنا من الاعتراف بأن هذه الـمناورة قد تكللت بالنجاح في مفاوضات بيروت الأساسية، ونرجح انتصارها في مفاوضات باريس التكميلية، لأن الوفد لا يـمكنه الـخروج على مقررات بيروت. وقد نـجحت، حتى الآن، مناورة الـجانب الانتدابي في لبنان نفسه بانتخاب الـحكومة اللبنانية الـحالية الانفصالية الـمغرقة في لبنانيتها، من قبل مجلس يصح أن ينسب إليه كل شيء إلا تـمثيل مصالح الشعب السياسية والاقتصادية. فنحن نعلم جيداً ما هي الانتخابات النيابية في بلادنا عموماً. فهي لم تكن، حتى الآن، مؤسسة على إرادة الشعب الواضحة، لفقدان الأحزاب، والـمؤسسات السياسية والقومية من البلاد، بل على النفوذ الشخصي للرجال الذين يصبحون نواباً. والنفوذ الشخصي ما كان قط مـمثلاً صحيحاً لإرادة شعب ومصالـحه. وهنالك وجهة نظر أهل الدين التي لا تزال تدّعي تـمثيل الشعب من غير وجود مبرر لهذا الادعاء.
ومهما يكن من الأمر فإن الفوضى السياسية في لبنان، الظاهرة في تـمثيلين، الواحد شخصي بحت والثاني ديني بحت، لا يصح اعتبارها الوجهة اللبنانية التي يجوز أن تـمثل إرادة الشعب السيد في أية محاولة جدية للبت في مصير لبنان. ولا بد لنا من أن نعلن أنّ الـمذكرات الـمختلفة، أو الـمتعددة، التي قُدّمت من جوانب لبنانية محدودة، لا تـمثل رأي أكثرية الشعب اللبناني. ولا تـمثل هذه الأكثرية البرقيات والكتب من أحزاب رسمية أنشئت خصيصاً لاستغلال الـموقف الـحالي الدقيق، الذي لا بد فيه من الالتجاء إلى «شخصيات قانونية»، مهما كان نوعها، لستر اللعبة الـجدية التي يترتب عليها مصير مصالح أمة بأسرها.
إنّ الـمسألة اللبنانية تؤلف جزءاً متمماً للقضية السورية العامة، فلا يجوز مطلقاً بحثها بحثاً مستقلاً. وإذا كان الوفد السوري في باريس لا يـملك صلاحية تـمثيل القضية السورية العامة، وهو لذلك لا يـملك حق بحث الـمسألة اللبنانية، فإن الرغبات الـجزئية في لبنان لا تـملك هذا الـحق. ولذلك، نعتقد ونصرح أنّ الـحلول الـجزئية التي ستقرَّر في باريس والـحلول الـجزئية التي تعرضها العرائض والـمذكرات الـمشار إليها ليست الـحلول الطبيعية للقضية السورية الـمشمولة بالانتداب الفرنسي. بل نحن نعتقد أنّ مثل هذه الـحلول إنـما هي خطوة إلى الوراء في ميدان الـحقوق والـمصالح القومية.
إنّ جميع الـمسائل السورية، ومنها مسألة لبنان، كان يجب أن توحد في برنامج عام وقضية واحدة. ولا بأس أن تسير هذه القضية على سياسة الـمراحل بشرط أن تظل محتفظة بصبغة القضية الواحدة، وأن لا تكبَّل هذه السياسة بعقود إلى مدى غير معقول. وكيف يجوز تـجزئة هذه القضية وحلولها، إلا إذا كان القصد إبقاء النقاط الـحيوية في قبضة الانتداب، كالـمصالح الـمشتركة ونظام الاحتلال وأنظمة الشركات التي لا تنحصر في لبنان أو في الشام. وكيف يجوز تـجزئة القضية إذا كان يُقصد فتح الباب للتقرب من الوحدة، على فرض أنّ الوحدة يجب أن تأتي بعد مرحلة تـمهيدية. أما الـممانعة في الوحدة، والـمطالبة الضعيفة بالإبقاء على سياسة الانفصال، فهما من باب السياسة الـخرقاء التي تبقي البلية حيث هي، ولا تـحسّن من الـحالة القومية شيئاً، لا سياسياً ولا اقتصادياً.
قد يعدّ البعض إثارة مثل هذه الـمسألة، مـما يؤدي إلى عرقلة سير الـمفاوضات. ولكن ماذا يهمّنا من سير الـمفاوضات، وهي مفاوضات ناقصة جداً من الأساس، وتـحاول تسجيل هذا النقص في صك شرعي لـمدة ثلاثين سنة! إنّ معاهدة تقيد وضعاً شاذاً تقييداً قانونياً دولياً لـمدة طويلة ليست بالـمعاهدة الـمرغوب فيها كثيراً عند السوريين القوميين، ولذلك لسنا من محبذي اتخاذ الـمعاهدة العراقية - البريطانية أساساً لـمفاوضات سياسية من هذا النوع.
إنّ مشاكل سورية ووضعيتها ومؤهلاتها تختلف عن مشاكل العراق ووضعيته ومؤهلاته، وليس التقليد سياسة محبذة عند السوريين القوميين.
إنّ تقييد مصالح أمة بأسرها، بـمعاهدة لثلاثين سنة، من أجل الـحرص على نـجاح الـمفاوضات، هو الفشل السياسي الذي لا فشل بعده. وإنّ الـمحاولة الهزيلة التي تقوم بها بعض الشخصيات، التي لا تـملك حق تـمثيل إرادة الشعب في لبنان، لإتباع الفشل السياسي الأول بفشل ثانٍ، هي محاولة خرقاء من الطراز الأول.
إنّ السوريين القوميين، الذين حلّت الـحكومة فرع حزبهم في الـجمهورية اللبنانية، هم القوة النظامية الأولى في البلاد السورية عامة. وإني أعلن، باسمهم، أنّ كل معاهدة تخلو من مواد، احتياطية على الأقل، لتأمين مبدأ الوحدة القومية السورية، تلاقى بالرفض من قبل السوريين القوميين، وأنّ كل تسوية لا تكون عامة، باشتراك لبنان فيها، هي تسوية غير ثابتة.
إنّ السوريين القوميين، الذين قاموا بنهضتهم البديعة التي أطلقت تياراً كهربائياً لم ينحصر في القطر السوري بل تعداه إلى أقطار الشرق الأدنى الـمجاورة، يتلقون الاضطهادات الـمتنوعة التي توجه إليهم بصدور رحبة. وإذا كان مرسوم رئيس الـجمهورية اللبنانية قد حلَّ فرعهم في بيروت، فإن هذا الـمرسوم لم يحلّهم هم أنفسهم. إنهم يتابعون عملهم القومي في لبنان، كما في كل منطقة أخرى، بصفتهم أعضاء في الدولة اللبنانية، لهم ملء الـحق في إبداء رأيهم في كل ما له مساس بـمصيرهم ومصير مصالـحهم.
لن يضير السوريين القوميين الـحملات الصبيانية التي يؤلفها ضدهم جماعة قد باعت الوطن والقومية والـمصالح العامة بيعاً موقعاً بصكوك أو باتاً بصفقة. إنّ هذه الـحملات ستساعدهم على امتحان كل فرد من أفرادهم في عقيدته وأخلاقه، ومعرفة مواطن ضعفهم ومكامن قوّتهم، فيكونون أقدر على حمل عبء الـمصالح القومية.
إنّ جيش السوريين القوميين ليس بالـجيش الذي يحتمل أن تصده عن إجراءاته القومية سهام الأقوال الطائشة والتكهنات الـمغرضة.
إنّ السوريين القوميين يقولون بتوحيد قضية سورية، الـمشمولة بالانتداب الفرنسي توحيداً ليس من الضروري أن يحقق كل الوحدة السياسية في الـمرحلة الأولى، ولكنه يجب أن يحقق وحدة القضية القومية في كل حال، ووحدة كبيرة من الشؤون السياسية والاقتصادية، وتـمثيلاً واحداً أو مشتركاً في الـمفاوضات.
إنّ السوريين القوميين يقولون أيضاً إنّ قضيـة سورية الـمشمولة بالانتداب البريطاني، هي قضية السوريين عامة. وإننا نزعم، وزعمنا حق، أنّ وعد بلفور وعد سياسي لا حقوقي، وأنه ليس لليهود حقوق خاصة أو عامة في أية أرض سورية.
ومهما كانت الـحلول الـمسكِّنة أو غير الـمسكِّنة قريبة التحقيق للقضايا العارضة في سورية بكاملها، فإن السوريين القوميين يتربصون ويراقبون التطورات السياسية برباطة جأش ورويّة، ويتأهبون لإسماع صوتهم عند الـحاجة.
15 يونيو/حزيران 1936
أنطون سعاده