حينما سألنا عدداً من الأشخاص عن الهدف من الكتابة في تاريخ الـحزب، كانت الأجوبة مختلفة كثيراً. منها أن التاريخ هو سيرة زمنية لوقائع وأشخاص، ومنها أن نعرف ماذا حدث في الفترات السابقة التي لم نعاصرها، وبعضها الآخر لنعرف ما إذا كان الـحزب في تقدم أو تراجع. هذه الإجابات تشير بلا شك إلى أن تدريس تاريخ الـحزب لا يزال مهملاً والبرهان ما هو ظاهر للعيان في سير العمل.
في رسالة إلى جورج شاهين مدير مديرية «الإسكندرونة» في بوسطن- أميركانية، يقول له سعاده: «أشاركك الأسف على عدم أخذ نسخة لكتاب خصوصي سابق منك إلى الرفيق الـموقف فخري معلوف، فإن جميع هذه الكتابات في قضايانا الـحزبية هي وثائق ومستندات لاستقراء الـحوادث وجلاء القضايا وتدوين تاريخ حركتنا، الذي يعطي أجيالنا الـمقبلة اختبارات حياتنا وينير طريقها إلى الفلاح، وأهنئك بفطنتك وتنبهك إلى هذه الـحقيقة».
إذن الرسالة هذه هي تاريخ بـما تضمنته من وقائع، وكيف جرى التعامل مع هذه الوقائع والذي صار اختباراً ودرساً في معالـجة معضلة محددة.
حين بدأنا العمل على الرسائل لاستخراج ما يفيد كتابنا هذا، تبيّن أن معظمها ضروري لضمها إلى الكتاب لـما فيها من تصويب لعمل وتوبيخ لعمل آخر وعقوبة لشخص وتهنئة لآخر. وفي هذا الصدد يقول سعاده في رسالة إلى غسان تويني مفوض الاتصال في كمبردج-أميركانية: «إن الوثائق والـمنشورات التي تيسر لك الاطلاع عليها ليست كل ما يجب أن يقف عليه طالب معرفة نشوء حزبنا ومشاكل تاريخه. فإن أموراً كثيرة بقيت غير منشورة كما أن أموراً كثيرة لم تدوّن. ومن هذه الأمور ما هو حوادث هامة من الوجهة التفصيلية ومنها ما هو أفكار وآراء وقواعد حُرمت من حظ أخذ محلها بين الـمدوّنات. ولا ننسى أن مدوّنات الزعيم هي قليلة بالنسبة إلى تعاليمه وأقواله وشروحه الشفهية في الـخطب العديدة التي لم تدوّن والـمحادثات الإفرادية والـمجموعية، وفي القضايا والأحكام التي تناولها أو أصدرها، وفي أعماله وتفاصيل حياته، وإذا كان جزء من هذا النقص يكمل بـمرويات ومستندات الـمقربين من الزعيم ورفقائه الأول وأعوانه ومعاونيه، فإن قسماً كبيراً هاماً يبقى ناقصاً». ويضيف سعاده:« فترى، أيها الرفيق العزيز، كم هي شاقة مهمة جمع الـمعلومات الأولية الكافية لـمعرفة حوادث تاريخ نشأة حزبنا والقضايا التي اكتنفت هذه النشأة. ونقص هذه الـمعرفة ينعكس على فهم «سياسة الـحزب» وخططه السياسية الأولى».
وكان غسان تويني قد أشار في تقرير إلى سعاده أن الـحزب عُرف في الـماضي «بالتشديد الـمتطرف على العقيدة، حتى أنه تـحوّل هذا التشديد إلى تـحجّر أكاديمي جعل الـحزب في موقف سلبي من السياسة القائمة بدلاً من اشتراكه في هذه السياسة». وكان تعليق سعاده على هذا التحليل «إني أرى في هذا التحليل غلطاً في التقدير والاستنتاج ناشئاً عن عدم العناية بدرس نشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي والكيفية التي نشأ فيها والظروف الـمحيطة بتلك النشأة. والظاهر أن مؤسسات الـحزب الثقافية والإذاعية والسياسية لم تعنَ العناية اللازمة بهذه الناحية الهامة من الثقافة الـحزبية، أو لم تسمح لها الظروف بتوجيه العناية إليها. وأني لعلى يقين من أن دراسة صحيحة لتاريخ نشوء الـحزب السوري القومي الاجتماعي تؤدي حتماً إلى تعديل الآراء الـمتقدمة الواردة في تقريرك، التي يحتمل أن تكون آراء شخصية بحتة مـما تستنتجه من ملاحظاتك الـخصوصية، ويحتمل أن تكون آراء مشتركة بين عدد من أشخاص الإدارة الـمركزية الـجدد الذين لم يشتركوا في اختبارات الـحزب الأولى لعهد نشأته».
عاد سعاده إلى الوطن ليفاجأ بأن الوضع الـحزبي أسوأ من وضع الـمغتربات ثقافياً وإدارياً. وبعد عملية تطهير أعاد العمل بالندوة الثقافية الـمركزية، وكان أول موضوع تناوله درس مبادئ النهضة ودرس الشروح الأولية الأساسية التي توضح الاتـجاه والغاية والأهداف القومية الاجتماعية، إرساخاً للعقيدة وتدقيقاً في العمل. وفي هذا الصدد يقول: «ولكن ما استغربته كثيراً جداً هو الاتـجاهات الانحرافية التي نشأت وبرهنت على أنه لم يكن شيء مـما توقعت، وقد ظهر من الاختبارات التي مرّت في السنوات الثلاث أو الأربع الـماضية، أن تاريخ الـحزب، ضمن العوامل التي جابهها، لم يكن له أثر فاعل في التوجيه. وهذه الـحقيقة تدل على أنه لم تكن هنالك عناية بتدريس تاريخ الـحزب- تاريخ نشأته وسيره الأول- وكيف تغلب على الصعوبات، وما هي القضايا الأولى التي جابهها وكيف عالـجها. وكيف أنشأ قضية عظيمة وجعلها تنتشر وتـمتد وتسيطر على الرغم من كل الصعوبات والعراقيل التي اعترضتها".
نحن الآن في العام 1971، في الـمؤتـمر الذي عقده الـحزب في ديك الـمحدي حيث تلا رئيس الـحزب يوسف الأشقر بياناً داخلياً تناول فيه الوضع الـحزبي العام والوضع القومي والدولي. وما يهمنا من البيان ما قاله عن درس تاريخ الـحزب. ففي الشأن الثقافي قال: «تصفعنا ثلاث حقائق:
الأولى: عدم توفر التراث الـحزبي مسجلاً في أيدي العاملين في النهضة والـمقبلين عليها.
الثانية: ضمور الفكر القومي الاجتماعي وقلة العاملين فيه.
الثالثة: البلبلة الفكرية والتدني في سوية الثقافة الـحزبية.
من ضمن الـحقيقة الأولى، التاريخ الـحزبي، الذي هو النصف الـمكمل لتراث النهضة، يبقى مطموراً ومنسياً ويُحرم أعضاء الـحزب الاطلاع علي حدث واحد مسجل من تاريخ الـحزب خارج ما سجله الـمعلم في حياته.
إن التاريخ الـحزبي مهم بقدر ما هو تراث سعاده الـمكتوب مهم للنهضة القومية الاجتماعية، وإذا كنا اليوم نعاني بعض البلبلة في الـمفاهيم ونقصاً في فهم الـحركة القومية الاجتماعية وطبيعتها ومقاصدها، فذلك لا يعود فقط إلى نقص في الفهم العقائدي النظري بل إلى جهل كبير لتاريخ الـحزب. وهذا الـجهل لتاريخ الـحزب ناتـج عن كون هذا التاريخ ما يزال مطموراً وعائباً.
مسؤولية من العناية بهذا التاريخ الـحزبي الذي كان الزعيم يعتبر تدريسه ضرورياً جنباً إلى جنب مع تدريس العقيدة نفسها وبنفس الأهمية، وقد اعتبر النقص في تدريسه سبباً أساسياً من أسباب البلبلة والسطحية وجهل جوهر القضية؟
إن عدم توفر التاريخ الـحزبي في أيدي العاملين في الـحزب والـمقبلين على النهضة كان سبباً مهماً بل السبب الأهم في البلبلة العقائدية نفسها وفي التفسخ الروحي الذي ظهر والذي ما نزال نعانيه ونعالج ظواهره ونتائجه.
كيف يسمح الـحزب لنفسه أن يهمل تراثه وتاريخه بكامله الذي هو إلى جانب مؤلفات الزعيم الـمعين الوحيد والسلاح الوحيد والـمرجع الوحيد؟ إن أهمية التاريخ الـحزبي لا تقل أبداً عن أهمية مؤلفات الزعيم وهما مصدر كل ما نـملك، فإذا كان تاريخنا الـحزبي مهملاً بكليته فيمكنني الآن أن أؤكد لكم أن العضو القومي الاجتماعي اليوم، إذا كان درس كل ما توفر لديه من كتب حزبية يكون قد اطلع فقط على جزء وجزء ناقص من التراث الـحزبي الكامل....».
نحن الآن في العام 3202 والـحقائق الثلاث نفسها تصفعنا. ولكن يبدو أن سعاده كان على حق حينما أجاب أحد الـمسؤولين الذي سأله لـمن يكتب طالـما أن لا أحد يقرأ: أنا لا أكتب لكم.
مؤسسة سعاده للثقافة