إيضاح
توطئة للطبعة الرابعة
منـذ أن انهار، بعامل الفتح الرومي (الروماني) النظام السوري السياسي والاجتماعي والـحـربي، الذي تطورت الـحيـاة السوريـة نحوه منذ القـدم وتـجلى في الدولة السورية السلوقية التي صارت إمبراطورية عظيمة، بعد توحدات سياسية سابقة أقـل متانـة وأسرع عطباً، تعرّض مصير سورية لتقلبات كثيرة في أجيـال عديدة كـان الفاعل الأقوى فيها دائماً إرادة الفاتـح الـجديد وسياسته، فجزئت البلاد ثم وحدت ثم جـزئت حتى ضـاعت حقيقتهـا وخـرجت دورة حيـاتها عن محـورها وتراكمـت على شخصيتهـا طبقات التاريخ السياسي كما تراكمت على مخلفاتها طبقات الأرض، وصار الباحث عن حقيقتها يحتاج إلى تنقيب دقيق واسع وإلى تـحرٍّ للتركيب الإتني والنفسي والوضـع الـجغرافي والتسلسل التاريخـي وإلى تـحريـر التآويـل الـمتعددة من الأغلاط التي بعدت عن الـحقيقة وغرضها. وهذا العمل، لعمري، أشبه شيء بإنشاء الأمة السورية إنشاءً جديداً لأنه يعني بعثها من مدافن التاريخ وتأسيس حقيقتها تأسيساً واضحاً كاملاً لا يعود يشذّ عنها وعيها ولا يقوم على غيرها وجدانها. وهذه مهمة جبارة، فإذا وافق هذا الغرض إنشاء نهضة تعبّر عن حقيقة الأمة وشخصيتها وتغيّر مجرى تاريخها ومصيرها ازدادت الـمهمة ضخامة ومشقة وخطورة.
بوعي كامل للصعوبات العظيمة الـملازمة لطبيعة العمل أخذت على عاتقي هذه الـمهمة العظمى، وحالـما وضحت لي الـحقيقة في خطوطها الكبرى العريضة وطدت عزيـمتي على إنشاء النهضة السورية القومية الاجتماعية التي جعلت غايتها إحياء حقيقة الأمة السورية وشق طريق وجودها وارتقائها وإقامة نظام اجتماعي جديد فيها. فوضعت هذه الـمبادىء التي عَيّنت فيها حقيقة الأمة السورية وحقيقة الوطن السوري وحقيقة النفسية السورية، وباشرت الدعوة إليها وتعليمها في أحاديث وخطب ومحاضرات لم يُدوّن إلا النزر اليسير منها. وفي الوقت عينه كنت أتابع التنقيب والتمحيص والتحرّي لإكمال الـحقيقة. ولكن عملي، بطبيعته الـمعقدة، لم يستمر في جو هادىء مطمئن، فحالاً نشأت حاجات الـحركة الإدارية والتوجيهية في مواضيع عديدة متشعبة، وحالاً تعرّض العمل لأخطار الـجاسوسية الأجنبية. وبينما أنا أعدُّ، إلى جانب العمل التأسيسي، الاجتماعي، السياسي، الـمواد لإعادة تركيب كيان الأمة وتقرير جميع تفاصيلها في كتاب خاص، فوجئت بالاعتقالات الأولى التي كشفت أمر الـحركة الناشئة وأوجدتها، في لـحظة واحدة، تـجاه الإرادات الأجنبية والاعتقادات الداخلية التي اجتمعت على محاربتها قبل أن تستكمل استعدادها. فتعرضت الـحركة والقضية لأزمة كان يجب التغلب عليها بسرعة. هذه الـحاجة الـملحّة جعلتني أهتم، في السجن، بإكمال الكتاب الأول من نشوء الأمـم، الذي كنت بدأته قبل الاعتقال. والسجن ليس الـمكان الصالح لـمتابعة التحقيقات الإتنية والـجغرافية والتاريخية. إنه لا يُـمكِّن من زيارة الـمكتبات العلمية والوقوف على الـمكتشفات الأخيرة واكتشاف حقائق ضائعة. فاضطررت للاقتصار على ما كنت بلغته قبل السجن فاستعنت به لإنـجاز الكتاب الأول من نشوء الأمـم في مدة نحو شهرين ونصف. وقد دفعت الـمخطوطة، كما ذكرت في مقدمة الكتاب، إلى الطبع من غير إعادة نظر وتنقيح، إذ لم يتسنّ لي ذلك. فبقيت بعض النقاط، من جراء ذلك، غير كاملة التحقيق، خصوصاً ما تعلّق بالدولة السورية البرية البابلية والأشورية والـحثية، وبالوضع الأرضي في تـجويف الهلال السوري الـخصيب وأسباب عمق التجويف في الأزمنة الانحطاطية، الأمر الذي تداركته في ما كنت أعددته للكتاب الثاني من نشوء الأمـم الـمختص بنشوء الأمة السورية، ولكن سرقت الـملاحظات الأولى من دار القضاء من جراء الاعتقال الثاني، فأعود الآن إلى الاهتمام بإعداده.
ولـما ازداد الإلـحاح على وجوب وضع التعاليم السورية القومية الاجتماعية في نص يحفظ حقيقتهـا وجوهـرها وضعت في أثنـاء الاعتقال الثاني، الذي جرى ولم يـمضِ على انتهاء الاعتقال الأول سوى نحو شهر ونصف، شرح الـمبادىء وأرسلته من السجن ليطبع ولتعتمده الـحركة في ردّ تهجمات الـمعتقدات الدينية الاجتماعية في القومية، ولوضع حقيقة الأمة والقضية القومية الاجتماعية في نص واضح يحفظ بقاءها واستمرارها. فكان الشرح مستعجلاً وكانت الظروف التي وضع فيها عنيفة وضغط العراك عنيفاً. ومع أنّ الشرح في نصه الأول، قد أدى الغرض فإنه تعرّض للنقص عينه الذي تعرّض له الكتاب الأول من نشوء الأمـم، إذ لم أكن قد بلغت التحقيقات الأخيرة للكتاب الثاني.
ولـما كانت القضية قد أصبحت تقتضي اكتمال كليتها بسرعة كي لا تبقى أية ناحية من نواحيها ناقصة أو غير واضحة كل الوضوح، انتهزت سانحة إعادة طبع التعاليم (الـمبادىء والشرح) للمرة الرابعة لأنقحها وأكملها على أساس الطبعة الثالثة الـمنقحة في الأرجنتين. وقد اشتمل التنقيح على:
1 - إكمال توضيح الـحدود الشرقية الشمالية للوطن السوري، التي كانت متروكة مفتوحة في متطرفها الشرقي.
2 - إكمال توضيح الـحدود الشمالية الغربية التي تشمل جزيرة قبرص التي هي جزء من الأرض السورية.
3 - تصحيح النظرة إلى تـجويف الهلال السوري الـخصيب وأسباب عمقه.
4 - تعديل النظر إلى الـحروب السورية الداخلية بين الدول الـجزئية التي رمت كل دولة منها إلى توحيد البلاد تـحت سيادتها كالدولة البابلية الأولى والثانية، والدولة الأشورية خاصة، والدولة الـحثية.
كل مقابلة بين النص الـمنقّح والنص الأول تُري أنّ القضية القومية الاجتماعية وتعاليمها بقيت هي هي، وأنّ التنقيح أكمل الـحقيقة وخلّصها من بعض الشوائب الـجزئية التي لم تسلم منها في الطبعتين الأوليين بسبب العجلة وضغط الظروف، من غير أي تبديل لها أو لأصولها.
ولا بد من القول إنّ هذا التنقيح كان قد جرى من قبل في أحاديث وخطب تعليمية بعضها دوّن وبعضها لم يدوّن، خصوصاً ما تعلّق بالـمنطقة الشمالية الشرقية من سورية، منطقة ما بين النهرين (العراق)، التي كانت داخلة من الأول ضمن تـحديد الوطن السوري، ولكن حدودها وتخومها لم تكن معيّنة كلها لأن بعضها كان لا يزال تـحت التحقيق التاريخي والإتني والـجغرافي. ولي في هذا الصدد، تصريح واضح يعود إلى سنة 1936، إذ قلت، جواباً على سؤال في محل العراق في قضيتنا: «إنّ العراق، أو ما بين النهرين، هو جزء متمم للأمة السورية والوطن السوري، وكان يشكّل جزءاً من الدولة السورية الـموحدة في العهد السلوقي ويجب أن يعود إلى الوحدة القومية التي تشمله، حتى ولو اقتضى الأمر تعديل إسم سورية وجعله سوراقية.»
إنّ تعبير «الالتقاء بدجلة» في الـمبدأ الأساسي الـخامس الذي ينص على حدود الوطن السوري، الذي أبدل في الطبعة الثالثة بتعبير «ضفاف دجلة» شمل، في الصحيح، الـمقصود بـمنطقة ما بين النهرين (العراق)، من غير تعيين دقيق لـحدود الـمنطقة. وقد رأيت أنّ تركها غير محددة نهائياً يفسح مجالاً للشك ولذلك قررت إكمال تـحديد حدود وطننا القومي في هذه البقعة، إكمالاً لـجميع تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية. وقد رأيت أن أفعل مثل ذلك في تفاصيل الـحدود الغربية وأن أصرّح بأن جزيرة قبرص هي جزء من الوطن السوري في الـماء، حتى لا يبقى أي شك في ما نعنيه «بالبحر السوري في الغرب.»
لذلك يجب القول بصراحة لا تقبل الشك إنّ التنقيح تناول الضبط فقط في الـحدود والتفاصيل وتثبيت الأساس وزيادة إيضاحه. وإنّ من الـمؤسف أن لا تكون الظروف قد سمحت لي بإكمال تفاصيل القضية السورية القومية الاجتماعية في الشرح الأول أو قبل اغترابي فمرّت مدة طويلة والناس يتداولون الشرح غير الـمضبوط الذي أنشىء بسرعة شديدة في السجن.
إنّ هذه التعاليم الـمضبوطة في هذه الطبعة الرابعة هي الكاملة والتي يجب أن تعتمد.
الـمقر في 18 سبتمبر/أيلول 1947
الزعيم