أيها الرفيق العزيز،
كنت أرتقب الفرصة لأكتب إليك في أشياء في نفسي فقد وصل الدور إليك، وكنت على وشك الكتابة في ختام الأسبوع الـماضي أو في مطلع هذا الأسبوع، وإذا بكتابك الأخير الـمؤرخ في 18 مايو/أيار الـحاضر يصل إليّ لينبهني إلى تقصيري القبيح في أداء الواجب القومي وواجب الوظيفة التي أنا فيها.
الـحقيقة، أيها الرفيق العزيز، أني بتّ أشعر بخجل شديد من جراء تقصيري نحوك ونحو مديرية خوخوي الـموقرة. وكم صرت مديوناً لك وللرفقاء الذين تعبّر في كتابك عن موقفهم في صدد تأخيري وإهمالي، فقد ذكّرني ذلك حقيقة، ما كان يجب أن يكون لها ذاك النصيب من الإهمال الذي أصابها من تفكيري وتقديري وتخطيطي، وهي: أنه لا يوجد، في نظر الـجماعات، لا ماضٍ ولا مستقبل، وأنه ليس للمرء إلا الساعة التي هو فيها.
قد لا تكون هذه أول مرة أنبَّه فيها إلى واجبي القومي وواجبي النظامي، ولكن الـمرء ينسى غالباً التأنيب الذي مضى عليه وقت. وكتابك يذكّرني أنه يجب أن لا أظن أنّ ما مضى قد مضى، وأنه عند كل تقصير يـمكن أن تأتي وخزة تنبّهني إلى ما تسوّل لي نفسي إهماله، فيجب أن أحفظ ذلك جيداً، وأن أتـمم واجبي اتقاء للوخز الذي لا يليق أن يعرّض نفسه إليه من كان ذا مقام كمقامي، وأن أحفظ، فوق كل ذلك، أنّ الزعماء والقادة، مهما كان لهم من كرامة وحرمة، فإنـما هم بشر عاديون، وأنهم عرضة للوخز والتنبيه والـمحاسبة والتأنيب كلما سوّلت لهم نفوسهم الاتكال على حرمة الزعامة لوقاية أنفسهم من الـحساب على تقصيرهم في أداء الواجب، كما كان دأبي في الـماضي، وكما لا يزال دأبي في الـحاضر، على الرغم مـما وجّه إليّ من تنبيهات سابقة وعواقب لاحقة.
وكتابك يريني أيضاً أنه من العبث تعليل نفسي بستر تقصيري وإهمال ما أنا مطالب به بستار الاتـجار لتأميـن حياة عائلتي وحياتي، ووقاية نفسي من ذلك الـمصير السيىء الذي وصفه ذلك البدوي، زهير بن أبي سلمى، بقوله:
ومن لم يزل يسترحل الناس نفسه ولا يعفها يوماً من الذل يندم
وصرت الآن أدرك أنّ كتبي التجارية إلى عملائي لا تشفع في تأخيري أو تركي الكتابة إلى رفقائي، وأنها، بدلاً من أن تشفع، تدعم انتقادات منتقديّ وتبيّن من عيوبي ما كان الأرجح أن يبقى مستوراً لولاها.
وكنت في الـماضي أحلم أحلاماً في الزعامة والسلطة وتأخذني خيلاء الـمجد، حتى صرت أتوهم أنه لا يجوز أن يخاطبني الأفراد وموظفو الـمديريات بـمثل اللهجة الـمستعملة في كتابك، ويظهر أنّ التجارة قد أدخلت عناصر جديدة في تلك الأحلام والـخيلاء، فصرت أستبعد كثيراً وأنا أشتغل وأعمل أنا وزوجتي في الـمحل التجاري، مهمليـن ترتيب بيتنا وجميع أسباب الـحياة الاجتماعية ومطاليب الـحياة العائلية، أن أدعى للمحاسبة على واجباتي النظامية التي صرت، حسب ميولي وما أنا مفطور عليه، أهملها وأتراخى فيها.
وكان من جملة تخيلاتي في الزعامة، التي ورثتها من تقاليد شعبنا الاجتماعية في عصر الانحطاط، أني لم أكن أتصور أنه يجوز لـمديرية أن تدعو الزعامة إلى النظام ووجوب التقيد به، وكنت أتوهم أنّ أية مديرية يجب أن تكون سعيدة بالـحصول على أي التفات وعناية بها من الزعيم، الذي لم أكن أظن أنّ واجبات وظيفته الرئيسية هي العناية بشؤون الـمديريات واحتياجاتها الطباعية وغيرها، إذ كنت أتوهم، وبعض التوهم إثم، أنّ عمل الزعيم يختص، في الدرجة الأولى، بشؤون الـحركة القومية السياسية العليا وبـمسائل القضية القومية الفكرية الأساسية، وأنّ ما يفعله فوق ذلك يكون علاوة على عمله وواجبات وظيفته النظامية. وظننت، وبعض الظن إثم أيضاً، أنّ الـمسؤول عن تـجهيز احتياجات الـمديريات القومية الاجتماعية وتأمينها هو النظام القومي كله في مراتبه وتشكيلاته، وأنه ليس مطلوباً من الزعيم، في هذا النظام، إلا ما هو من حقوق الزعامة وواجباتها، وأنه في حالة اختلال النظام، كما هو الواقع في صفوف الـمنضميـن إلى الـحركة السورية القومية الاجتماعية في هذه البلاد، فإنّ كل عمل يقوم به الزعيم للتعويض عن النقص في أية جهة من جهات الإدارة الـمحلية يجب أن يقابل بتقدير وشكر خصوصييـن، وأنه يجب على بعض الـمديريات أن لا تنسى أنّ هنالك مئات الـمديريات الأخرى ترتقب استماع صوت القيادة العليا في القضايا والـمشاكل التي تواجهها الـحركة السورية القومية الاجتماعية من غير أن تنتظر أن يكون للزعيم اتصال شخصي مباشر بها، لأنها تعلم بـما يشبه الوحي أين يجب أن تكون اتصالات الزعيم الفكرية والعملية، وأنّ عملها هي هو أن تفعل كل ما بوسعها لتسهيل تلك الاتصالات لا أن تواصل الزعيم بالـمطاليب التي يجب أن يكون من شأن غيره الاهتمام بها، وأن تتعدى تلك الـمواصلة إلى الـمحاسبة.
وبناءً على هذه الأوهام صرت أتخيل الـجماعة القومية في أعلى مرتبة من تقديس الفكر الـموجه والـمسؤوليات، وأنها لا تقلّ عن رمز صورة مثّل بها الألـمان شدة احترامهم للمواهب الروحية العالية، وتـمثّل هذه الصورة تشييع ميت إلى لـحده والـجنازة حافلة بالناس وفيهم طائفة من أهل الـمنزلة وقد وصلت في طريقها إلى الـجبّانة خارج الـمدينة، إلى مكان جلس فيه إلى حافة الطريق الـموسيقي الشهير بيتهوفن وهو ينظر في الأفق يناجي ويستوحي. وبدلاً من أن يتقدم إليه البعض لـمحاسبته على عدم تأديته واجب التشييع أو لـجعله يقف ويحترم مرور ميت كبير، قياماً بالواجب، رأت الـجماعة كلها واجبها أن تقف لئلا يزعج مرورها روح الشاعر ويقطع عليه حبل تصوراته!
ولكني صرت أعرف الآن أنّ ذلك أضغاث أحلام، وأنّ الواقع غير ذلك، فتولاني خجل شديد وارتعت مـما وصفته لي من نظرات الأعضاء الـمشككيـن، ولم يبقَ لي مناص من الاعتراف بتقصيري وإهمالي وانشغالي بالتجارة عن القضية. فأنا أتقدم الآن بواجب الاعتذار إذا كان بقي لتقديـمه مجال.
وهب أنّ عذري قُبِلَ فإني لم أعد مرتاحاً إلى نفسي، ولا آمن أن لا أعود إلى إساءة استعمال وقتي، إذ يحتمل أن أتعرض في الـمستقبل كما تعرضت في الـماضي للإكثار من الاهتمام بالتجارة والإقلال من الاهتمام بالواجب القومي وزيادة رسائلي التجارية على نسبة قلّة رسائلي القومية. ولذلك واستدراكاً لـما قد يحدث من هذا القبيل في الـمستقبل، وخوفاً مني من عظم الـمسؤولية ومن دقة الـمحاسبة، أقترح على مديرية خوخوي إذا كانت هي التي ستتولى النظر في أعمال الزعيم وتصرفاته، أو على غيرها، إذا كان غيرها، ما يلي:
أ - تأليف لـجنة فاحصة من أهل الـخبرة والرأي الصائب توفد إلى توكومان لفحص مكتب الزعيم وأعماله وإضباراته والقضايا الـموجودة فيه، وتصرّف الزعيم في إدارة الـمكتب وأعماله.
ب - ترفع اللجنة إلى هيئة الـمديرية تقريراً ضافياً، مفصلاً، دقيقاً يشتمل، في جملة ما يشتمل عليه، على الـمواضيع الآتية:
1 - حالة الزعيم الصحية، وحالة زوجته الصحية، وتقارير الأطباء في هذا الصدد.
2 - موارد الزعيم الـمالية الـخصوصية، وموارد مكتب الزعيم الـمالية.
3 - حالة مكتب الزعيم، وفروع هذه الـحالة وما تقتضيها.
4 - حالة متجر الزعيم، وفروع هذه الـحالة وما تقتضيها.
5 - حالة جريدة الزعيم، وفروع هذه الـحالة وما تقتضيها.
6 - كيف يصرف الزعيم أوقاته؟
7 - كم ساعة عمل يعمل في النهار، وكم ساعة في الليل، وهل يحتمل جسده أكثر؟ وإذا كان جسده يحتمل أكثر، فكم ساعة يجب أن يضاف إلى عمله حتى يتوازن العمل وقوة الـجسد وحالة الأعصاب؟
8 - كما ساعة يجب أن يعمل الزعيم في محله التجاري ليتمم واجباته مع الزبائن ويحافظ على استقامة الـمحل التي هي عماده؟
9 - كم ساعة يجب أن يعمل الزعيم في مكتب الزعامة ليستقيم عمل الـمكتب؟
10 - كم ساعة يجب أن يعمل لـِ الزوبعة في الكتابة والشؤون الأخرى؟
11 - ما هي الـمسائل التي يجب أن تعطى حق التقدم على غيرها في مكتب الزعيم؟
12 - هل يجوز أن يكون للزعيم أوقات قراءة وتفكير ودرس وتأمل في القضايا الكبرى التي تواجهها حركتنا؟
13 - تـحت عناية ومراقبة مَنْ يجب أن يتمم الزعيم أعماله؟
ج - هل يجوز لـمديرية أخرى في الـحزب، أو لـمنفذية، أو لعمدة، أو لـمجلس عمد، أو للمجلس الأعلى، أن يؤلف لـجنة أخرى لفحص أعمال الزعيم؟
د - إذا قررت هيئة حزبية أخرى تفتيش أعمال الزعيم، فلأية هيئة تكون الكلمة الأخيرة؟ هل تكون لـمديرية خوخوي، أم للهيئة الأخرى؟
هـ - إذا تبيّـن أنّ الزعيم سيىء التصرف ومذنب، فأية هيئة تـحاكمه؟
وهنالك طائفة أخرى من الأسئلة التي يجب على اللجنة التحقيق فيها، منها: لـماذا يـمرّ شهران ولا يقص الزعيم شعره؟ ولـماذا يـمرّ شهران ولا تذهب زوجته إلى طبيب الأسنان ليصلح لها ضرساً انكسر وقوساً سقطت؟ ولـماذا لا يتمكن الزعيم من قراءة الـجرائد اليومية؟
وآخر مسألة تختم بها اللجنة تقريرها تكون: ما هي الـمدة التقريبية التي يقدر جسد الزعيم أن يتمكن من متابعة العمل فيها، وفي أية «مزبلة» يجب أن يُرمى بعد أن لا يعود منه فائدة؟
أظن أنه بهذه الطريقة يتسهل كثيراً عملي، ومهما ترونه خلاف ذلك، فإنّ تعلّقي بأذيال الزعامة وولعي بالعظمة الفارغة يحتمان عليّ طلب رضاكم.
منذ مدة غير بعيدة اجتمعت لـجنة مديرية بوينُس آيرس للنظر في هل يجوز أن يتزوج الزعيم ويصير له عائلة يهتم بها، وتأخذ من وقته ما يجب أن يكون بكليّته للقضية. وانتهت اللجنة من درسها بتقديـم اقتراح بخلع الزعيم لإقدامه على الزواج، فيمكن اللجنة التي ستتألف أن تستفيد من اللجنة السابقة التي نال اقتراحها القبول العام.
وقبل ختام هذه الرسالة إسمح لي، أيها الرفيق العزيز، أن أخبرك في صدد كرّاس الـمبادىء النافد من مكاتب الإدارة، أنه كان قد تقرر من شهور عديدة نشر الـمبادىء وشرحها في الزوبعة، ثم استعمال الرصاص الـمصبوب لطبع الكرّاس، ولكن تدبير الزوبعة في بوينُس أيرس لم يحقق هذه الفكرة التي عادت وأخذت محلاً، وكان الـمنتظر أن يكون صدر عدد الزوبعة الآن وفيه نص الـمبادىء، على أن يجري طبعها كرّاساً على الأثر، ولكن خلافاً ناشباً بين حضرة الـمنفّذ العام وأحد الأعضاء والتراشق بالتّهم آخذ مجراه، وهو، على ما أظن، من بعض العراقيل. فإذا أحببتم الاشتراك في الرأسمال والهمة فخابروا الرفيق خليل الشيخ الذي هو رئيس «الـجمعية السورية الثقافية» وعنوانه على قفا هذه الورقة.
إني مسؤول عن الـخلل الـحاصل في بوينُس آيرس، وقد كادت نفسي تضيق بأغلاطي فلا أطلب إلا الشفقة والرحمة.
سلامي القومي لك ولأهلك ولـجميع رفقاء خوخوي، ولتحيى سورية.
عنوان الرفيق جواد نادر
Sr. Jauad Nader
Av. la Plata 2522
Buenos Aires
عنوان الرفيق خليل الشيخ:
Sr. Julio Chaij
Sarmiento 2135
Buenos Aires