الـحقيقة التي يجب الـجهر بها أنه إذا كان في فرنسا رجال مفكرون فقد أبادتهم الـحرب كلهم ولم تبق من الفرنسيس إلا على أصحاب العقول العقيمة. وإذا كانت قد أبقت على بعض الـمفكرين فلبنان وسوريا لا يريان منهم أحداً، ومن رجال فرنسا العقيمين لا تبعث إلينا حكومتها إلا أعقمهم.
أعمل حاكم لبنان عقله العقيم لـحل معضلة الـمهاجرة، وبعد أن عصر دماغه أيام وليالي طويلة بشّرنا بأنه اهتدى أخيراً إلى حل هذه الـمعضلة. ومن حسن حظه وحظنا نحن أيضا أنه لم يهتد إلى حلها وهو في الـحمام، وهو لو فعل لـخرج إلى الشوارع عارياً كما خرج الفيلسوف اليوناني الشهير أرخميدس يوم حلّ في حمامه فجأة قضية الثقل النوعي وجرى في الشوارع صائحاً بأعلى صوته «أيوريكا! أيوريكا!»، أي «وجدتها! وجدتها!».
ندب سعادته في خطاب ألقاه على جمهور من اللبنانيين حال لبنان السيئة، وقابل بين أجدادنا الذين فتتوا صخور لبنان وحولوها إلى تربة صالـحة للزراعة وبين أحفادهم الذين يهاجرون من وطنهم بالألوف إلى ما وراء البحار. وقد أفادنا من فيض علمه أن هذه الـمهاجرة ضرب من الـمقامرة إذا لم ينجح فيه صاحبه خسر حياته وخسر أيضا الأرض التي تركها وراءه. وبعد أن تـحسر على هذه الـحال السيئة، زف إلى اللبنانيين البشرى العظيمة وهي أنه اكتشف دواءً شافياً لهذا الـمرض العضال، وحلّ هذه الـمعضلة حلاً نهائيا. أما هذا الـحل الرياضي فهو كما يأتي:
على كل راغب في الـمهاجرة أن يقدم عرض حال بهذا الصدد لسعادته ذاكراً اسم البلاد والـمدينة أو البلدة التي يرغب الطالب في الـمهاجرة إليها، وما إذا كان له أقرباء ونوع العمل الذي يريد هو الاشتغال به. وبعد ذلك يكتب سعادته الى سعادة قنصل فرنسا في تلك الـمدينة طالباً منه أن يتحرى حقيقة هذا الطلب وما إذا كانت الـحال التجارية أو الصناعية في الـمدينة أو البلدة الـمذكورة تسمح بأن يضاف إليها عامل لبناني وما إذا كان هذا الرجل ينجح بعمله فيها. فإذا حدثت معجزة من الـمعجزات وأجاب القنصل الفرنسي بالإيجاب، يترتب حينئذ على طالب الـمهاجرة أن يودع عند حاكم لبنان مبلغاً معيناً من الـمال حتى إذا لم ينجح الطالب في ديار الهجرة ورغب في العودة إلى وطنه لبنان يكون الـمبلغ الـمذكور سنداً له عند عودته ورأس مال للشروع في ما يريده من الأعمال .
إلى هذه الدرجة السامية من الـحماقة الباهرة بلغ العقم الفرنسي الباهر. ومن يدري أي درجة من السمو يبلغها في الـمستقبل لأن التطوريين يقولون لنا إن الإنسان ذاهب صعداً في سلم الارتقاء.
لم يجلس حاكم لبنان إلى مكتبه يسائل نفسه قائلاً «ما علة سيل الـمهاجرة الـجارف؟ لـماذا يا ترى يترك اللبناني وطنه الـمعبود ویولي وجهه شطر الـمهاجر؟ لـماذا يترك أباه وأمه وإخوته وأخواته وزوجته وأولاده ويقيم بعيداً عنهم؟ لـماذا يبيع أملاكه ليسافر بثمنها إلى دیار الغربة؟ لـماذا يرى نفسه مضطراً إلى السفر والدموع تنهمل من عينيه عندما يقف في ميناء بیروت على ظهر الباخرة وهو يرى وطنه وأعز الناس لديه تبتعد عنه شيئاً فشيئاً إلى أن تغيب عن الأبصار؟ ولـماذا لم يهاجر اللبنانيون إلى هذا الـحد على عهد الـمتصرفين السابقين ومجالس الإدارة السابقة؟ لـماذا لم يهاجر السوريون على عهد الأتراك ؟ لـماذا يرشو السوريون واللبنانيون موظفينا الفرنسيس في إدارة جوازات السفر ليهربوا من الوطن الذي رأوا فيه نور الـحياة وفيه نشأوا وترعرعوا وتعلموا وربطتهم به ملذات الـحب وأحزان الـموت ؟ لـماذا يقول لنا اللبنانيون إنهم يحبوننا ولكنهم يرشوننا ليبتعدوا عنا؟ كيف نوفق بين ادعائنا تـحسين الإدارة وبين سيل الـمهاجرة؟ لـماذا يقول لنا اللبنانيون وهم هنا إنهم في السماء ولكنهم عندما يصلون إلى الـمهجر يقولون إنهم كانوا في جهنم؟» .
هذه الأسئلة وأمثالها لم تدر في دماغ حاكم لبنان لأنها أسئلة حكيمة، ولا يـمكن الـحكمة أن تدور في دماغ عقيم.
طبيب العمران كطبيب الأبدان عليه أن يبحث في أسباب العلة ويستأصلها لا أن يعالج الـحمّی بقشور البطيخ. فأسباب الـمهاجرة واضحة لكل ذي عين وهي الاحتلال الذي قضى على الاستقلال، والـمظالم التي يرتكبها عمال فرنسا في الوطن، والرشوة التي تتسرب إلى جيبوهم والأوراق الـمالية التي لا قيمة لها، والضرائب الفاحشة التي وضعوها بالقوة الـجبرية على السكان للقيام بجيش الـموظفين والـموظفات، وإهانة السوريين في عقر دارهم والاعتداء على بيوتهم وأعراضهم، ونزع كل سلطة من الـحكام الوطنيين وحصرها في الفرنسيين، وإقامة الـمفوض السامي حاكم مستبداً يتصرف بالوطن تصرف الـمالك بـملكه، وقتل الـمعامل والـمصانع الوطنية بعدم حمایتها بالـجمارك، وقتل الـحرية العمومية والشخصية، وكثير من أمثال ذلك مـما نعدد منه ولا تعدده.
هذه النكبات التي نكب بها الوطن فأفقرت العباد وكادت تقفر منها البلاد يريد حاكم لبنان أن يداويها ويـمنع سيل الـمهاجرة الذي هو نتيجة طبيعية مترتبة عليها باستنطاق طالب الـمهاجرة والـحصول على شهادات من قناصل فرنسا في الـمهاجر ومال من الطالب يكون له سنداً متی فشل في تـجارته وعاد إلى حضن الأم الـحنون!
قلما هبط وحي على البشر يضاهي هذه الـحكمة الباهرة. وقلما وصف لعليل مدنف دواء شر من الداء. ونتيجة هذه الرواية الـمضحكة الـمبكية القضاء على الفقراء من مواطنينا الـمساكين وهم الآن جمهور الشعب بالـحياة في فقر مدقع أو الـموت جوعاً. ومن نـجا منه بأعجوبة وأتيح له السفر لا يـمكنه ذلك إلا بعد أن يسترضي أهله في الـمهاجر قناصل فرنسا هناك ويتحملوا عتوهم واستبدادهم والإهانات الـمتعددة التي تلحقهم في تلك القنصليات، وبعد أن يودع مالاً عند حاكم لبنان الله وحده يعلم كم تكون كميته وماذا تكون آخرته .
اللبنانيون والسوريون مشهورون بالتعلق بوطنهم، وهم لا يهاجرون منه إلا مضطرين بالقوة القاهرة. لذلك كانت مهاجرتهم منه احتجاجا حياً إلى العالم الـمتمدن على القوة الوحشية التي سلبت وطنهم واختطفت استقلاله من يدهم وقضت على حريتهم وقصمت ظهورهم بالضرائب الفاحشة، وأنشأت في بلاد واحدة صغيرة دولاً هزلية سخرية كما يفعل الـمشعوذون على مسارح التمثيل، وضربت عليهم فوق الذل والـمسكنة الفقر الـمدقع والـخراب الشامل والـموت العاجل. وهي تريد الآن أن تـمنعهم من استعمال الوسيلة الوحيدة لإتقاء الـموت جوعاً وهي وسيلة الـمهاجرة، فلا هي ترحل عنهم ولا هي تسمح لهم بالرحيل عنها.
مداواة الـمهاجرة لا تقوم بوضع عقبات في طريقها ولا باستنطاق الراغب فيها ولا بسؤال قناصل فرنسا في الـمهاجر عما إذا كان من الـممكن نـجاحه فيه ولا باستيداعه مالاً عند حاكم لبنان أو سواه، فهذه كلها علاجات عقيمة تضحك منها صبيان الـمكاتب. فضلاً عن أن الـحكومة الفرنسية نفسها لا ترضى أن يكون قناصلها وكلاء تـجاريين عند حاكم لبنان أو أي حاكم آخر. فهذا الوحي الذي هبط على حاكمنا أعظم برهان على أنه لا يفقه الـمبادئ الأولية لسياسة الأمـم العامة ولا بسائط الإدارة في سياسة الشعوب.
الـمهاجرة عرض من أعراض الـمرض العضال الذي أصيبت به سوريا بعد أن ضربتها الأقدار بدولة عقيمة في نسلها عقيمة في سياستها عقيمة في إدارتها. فهي تريد أن تعيش على ظهور مستعمراتها، وأن تعوض عن قلة رجالها برجال غيرها، وأن تدفع الديون الهائلة التي تكدست عليها جبالاً بعضها فوق بعض من أموال سواها، وأن تسلب ذهب الأمم التي رماها سوء الطالع بأن تكون تـحت سيطرتها وتعطيها بدلاً منها أوراقاً مطبوعة، وتدعي بعد ذلك كله أنها جاءت لـمناصرة تلك الشعوب ومنحها الـحرية وتـمرينها على الديـمقراطية.
الـمهاجرة ظاهرة من ظواهر الـخراب الذي نكبت به سوريا بسبب الاحتلال، وهي تكذيب صريح لكل ما تدعيه فرنسا من تـحسين الإدارة ورضى السوريين عن الـحماية أو الوصاية التي ضربتها عليهم بالسيف والـمدفع، واحتجاج فصيح على سلب حقوق شعب هو أهل لأن يتولى إدارة شؤونه بنفسه فضلاً عن حقه الطبيعي في الـحرية التي هي الشرط الأولي لـحياة الأمم والشعوب والتي لا يـمكن لأمة أخرى قط أن تنتزعها منها بأية علة أو حجة كانت دون أن تعتدي اعتداًء فظيعاً على العدل الطبيعي الذي سطرته الطبيعة على قلوب البشر قبل أن يسطره الـمشترعون على صفحات الكتب. ولولا قوة فرنسا الـحربية في سوريا لكان منطق سیاستها في تبرير الوصاية التي ضربوها عليها بالقوة الـجبرية من رئيس جمهوريتها إلى رئيس وزرائها إلى مندوبها السامي يحتقره الـمؤرخون ويضحك منه الـمشترعون. فلیس الأمة قط أن تنصب نفسها وصياً على أمة أخرى سواء كانت هذه الأمة متمدنة أو متوحشة . ولا يجوز لـحكومة قط أن تقتل شعباً بتجريده من الـحرية لأن الـحرية الشرط الأول لـحياة الشعوب، ومن سلب شعباً حريته فقد سلبه حياته .
خليل سعاده