يشتد نزاع الأمم على الـمواد الأولية والتفوق الاقتصادي في القبض على الـموارد الطبيعية لهذه الـمواد، وقد دلت على مبلغ شدة هذا التزاحم الـحملة الإيطالية على الـحبشة، والـحملة اليابانية على الصين.
والـحملة الثانية تكون قضية شديدة الـخطورة، لأن معناها إخضاع بقعة كبيرة من الأرض الغنية وأسواق تـجارية واسعة لسياسة اليابان ومشاريعها الاقتصادية. وهذا الغرض الياباني يتضارب مع الـمصالح الروسية التي كانت قد امتدت إلى الصين وأنشأت سكة الـحديد الصينية الشرقية وغيرها من الـمشاريع التي كان القصد منها بسط نفوذ روسية على البلاد الـمذكورة، ومع الـمصالح الأميركانية التي وجدت في الصين أسواقاً واسعة لتجارتها، ومع الـمصالح البريطانية التي لا تزال علاقاتها متينة مع الصين. ولكن الأمتين اللتين تتضارب مصالـحهما مع مصالح اليابان في الصين تضارباً شديداً هما روسية والولايات الـمتحدة. وروسية تـجد أنّ الـمحاولة اليابانية موجهة ضدها مباشرة لـمجاورتها للصين.
ولـمّا كانت مصالح الأمم متشابكة نوعاً، فإن تصادم الـمصلحتين اليابانية والروسية في الشرق الأقصى يقابله تصادم الـمصلحتين الألـمانية والروسية في شرق أوروبة، وهذا التصادم الـمتوازي قد جمع بين الـمصلحتين اليابانية والألـمانية ضد الـمصلحة الروسية. ومن جهة أخرى فإن تصادم الـمصلحة الروسية مع الـمصلحة الألـمانية يقابله تضارب الـمصلحتين الألـمانية والفرنسية، ولذلك تولَّد من هذه الـحالة الـجمع بين الـمصلحتين الروسية والفرنسية بعد شدة التضارب بينهما حين كانت روسية مركزاً لـمحاربة الدول البرجوازية. ففي ذلك الـحين كانت نقمة روسية على فرنسة وبريطانية لا تعادلها نقمة، وكان موقفها من ألـمانية في طور انحطاطها موقفاً ودياً، فلما نهضت ألـمانية وأخذت تستعيد ثقتها بنفسها تغيّر الـموقف وأصبحت روسية عدوة ألـمانية.
أوجبت الـحالة في الشرق الأقصى اتخاذ موقف صريح يعيّن توافق القوات السياسية الـمتجانسة الـمصالح في جبهتين. وكانت مسألة روسية قد حملت ألـمانية واليابان على الاتفاق فيما بينهما على ما يختص بـموقف كل منهما وعرف اتفاقهما بـمكافحة الشيوعية. كما كان اتفاق روسية وفرنسة في سبيل محاربة الفاشستية أو الـمحافظة على الديـموقراطية. وهكذا نرى الـمصالح تتستر بستار الـمبادىء والعقائد الاقتصادية والسياسية كما كانت تتستر قديـماً بستار العقائد الدينية.
هكذا تسترت قديـماً الـمصلحة الفارسية بستار الشيعة في الإسلام. وهكذا تسترت الـمصلحة الإنكليزية بستار الأنكليكانية[1] في الـمسيحية.
لم يكن في الإمكان في الظروف السياسية الـحرجة الـحاضرة أن يقتصر الاتفاق ضد الشيوعية على ألـمانية واليابان، لأن الـمصالح الـمتشابكة أوسع من هذا النطاق. فهنالك إيطالية ومصالـحها في الـمتوسط، ومشكلة إسبانية وموقف فرنسة، وهذه كلها عوامل تـحتم دخول إيطالية في ميثاق مكافحة الشيوعية. فجاء توقيع الاتفاق الثلاثي في رومة رداً على إعلان الولايات الـمتحدة موقفها ودعوة الدول التسع الـموقعة على اتفاق واشنطن بشأن الصين ودولتين أخرتين إلى مؤتـمر يعقد في بروكسل، وعلى موقف بريطانية من اليابان في الشرق الأقصى ومن إيطالية في البحر الـمتوسط.
لا نقول في هذا الاتفاق وفي مؤتـمر بروكسل غير ما قلناه في الـحرب الإسبانية. فوجهات النظر الـمتضاربة ليست متضاربة من أجل الـمبادىء بقدر ما هي متضاربة من أجل الـمصالح. إذ لا ندري إلى أي حد تتفق مبادىء الثورة الشيوعية الروسية مع مبادىء فرنسة الديـموقراطية. فقد كانت حملة الشيوعيين على الديـموقراطية الفاسحة الـمجال لدهاء الأفراد الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، من أشد الـحملات الـمبدئية التي عرفت، ولكن توافق الـمصالح الروسية والفرنسية أوجب تقارب هاتين الدولتين.
الإتفاق الثلاثي ضد الشيوعية يكون أعظم حدث سياسي في الظروف الأخيرة، وهو يدل على أنّ الاتـجاه الفاصل قد أخذ مجراه.