منذ وضعت الـحرب العالـمية أوزارها إلى اليوم والعالم في ضيقة اقتصادية لا يكاد يبدو بارق أمل بانفراجها، حتى تهبَّ العواصف وتثور الزوابع السياسية والاقتصادية وتـملأ الـجو قتاماً حالكاً.
ولعل أعظم سبب للأزمة الاقتصادية في أوروبة هو التغيّر الفجائي الكبير الذي طرأ على جغرافيتها الطبيعية والعنصرية والاقتصادية، لأن التغيّر جرّد أمـماً كثيرة من الـمواد الأولية التي كانت تعتمد عليها في صناعاتها، وأوجد سلسلة من الـحواجز الـجمركية منعت الأخضر واليابس من الدخول أو الـخروج، وأوجد أحقاداً عنصرية جديدة دعت إليها النعرة العصبية، فاختلَّ النظام الاقتصادي والإداري وانسابت الأموال انسياب الـجداول والأنهر في طرق متمعجة، ملتوية، ملتفة، وتسرّب الذهب من مستودعات إلى مستودعات وكانت نتيجة كل ذلك أنّ ملاييـن العمال أصبحوا عاطليـن في أهم الـمراكز الصناعية. وإذا نظرنا إلى انفصال روسية عن أوروبة، وإلى التغيّرات الآخذة مجراها في بلاد الصيـن، وإلى أنّ أمـماً كثيرة في الشرق ابتدأت تستغني عن منتوجات الصناعات الغربية بـما تنشىء لنفسها من صناعات جديدة، وضح لنا كيف أنّ الأزمة الصناعية بلغت حداً عظيماً من الـخطورة.
ولسنا نقصد من هذه العجالة أن نقوم بدرس وافٍ في تاريخ الأزمة الاقتصادية الـحاضرة والعوامل الكثيرة الـمعقدة التي أدت إلى تفاقمها. وقد نعود إلى درس القضية الاقتصادية العامة في الأعداد الـمقبلة. وإنـما أتينا على هذه اللمحة القصيرة الـمنبهة إلى نوع القضية لكي نتمكن من تقدير قيمة التحسن الـمالي الطفيف الذي أشارت إليه الصحف الأوروبية ورجت من ورائه فرجاً قريباً. أما التحسن الـمالي الـمشار إليه فهو ما حدث في صناديق ومصارف التوفير من هبوط معدلها هبوطاً عظيماً. وصناديق التوفير في أوروبة وأميركة كالبارومتر للضيقة النازلة، لأنها أسرع الأشياء تأثراً بتقلبات الأحوال الاقتصادية صعوداً أو هبوطاً. فإن أقلّ توقّفٍ في الـحالة الصناعية والتجارية يؤدي إلى هبوط محسوس في معدل الأموال الـمخزونة في صناديق التوفير، خصوصاً في مثل هذه الأيام، وأقلّ تـحسّنٍ في الـحركة التجارية والصناعية يفضي إلى ارتفاع الـمعدل الـمذكور في هذه الصناديق.
أذاع مؤخراً مكتب الأشغال العامة الدولي تقارير تتعلق بالعاطليـن يؤخذ منها أنّ عدد هؤلاء كان، حتى نهاية السنة الـماضية، يتراوح بيـن عشرين وخمسة وعشرين مليون عامل، وإذا أضفنا إلى هذا العدد عائلات العاطليـن التي تشملها الضائقة وجدنا أنّ البطالة صفة من أهم صفات الأزمة الـحالية وسبب ثانوي من أهم أسباب تـحرّجها. ومن البديهي أنّ أقلّ تغيُّر يطرأ على الـحركة الاقتصادية يحدث تغييراً في أحوال البطاليـن، وينعكس حالاً وسريعاً على صناديق التوفير الـمختصة بهم، وهذا هو السبب في اتخاذ هذه الصناديق مقياساً للحالة الاقتصادية الـحاضرة. ولقد تقلص معدّل التوفير في صناديق الأمـم في نصف سنة 1931 الثاني تقلصاً عظيماً، وظل عند مبلغ تقلصه مدة نصف سنة 1932 الأول، أما في النصف الثاني من السنة الـماضية فإن صناديق التوفير أخذت تبدي دلائل الصعود بدلاً من دلائل الهبوط. فكان من وراء ذلك أنّ إرادة التوفير التي ظهرت في الـمدة الأخيرة وما يتبعها من تكوين رؤوس مال عن هذه الطريقة أحدثا تفاؤلاً في بعض الأقطار الأوروبية. ويبرر هذا التفاؤل الـمعتدل نوعاً، أنّ تكوين رؤوس مال عن طريق التوفير لـمما يسترجع الثقة التي ذهب معظمها في سنة 1931.
فإذا نظرنا إلى ألـمانية التي خسرت من صناديقها التوفيرية بسبب تزعزع الثقة وتقلص الدخل، 1,508 مليارات من الـماركات حتى آخر يوليو/تـموز الـماضي (أي ما يوازي 14 ٪ من مجموع الـمال الـموفر)، وجدنا أنها تـمكنت في شهر أغسطس/آب الـماضي من تسجيل زيادة 17 مليون مارك. إنّ معدل الدخل الشهري يكاد لا يستحق الذكر، ولكن معدل السحب الشهري قد نزل إلى 350 مليون مارك، أي إلى نصف ما كان عليه، ولهذه الـحقيقة أهمية كبيرة بعد ذهاب الثقة على ما مرّ. بل إنّ فيها دليلاً على أنّ الثقة بـمراكز جمع رأس الـمال الألـماني قد عادت إلى عهدها السابق.
وإننا نـجد هذه الـحقيقة أيضاً في إنكلترة حيث تُظهر صناديقها التوفيرية تـحركاً نحو الصعود. فلقد ارتفع مجموع الـمال التوفيري في صناديق دائرة البريد ومصارف التوفير في آخر أغسطس/آب الـماضي من 423,5 مليوناً من الليرات، وهو الـمستوى الذي رسبت عليه القيمة الـمجموعة عند بدء السنة، إلى 438,5 مليوناً. وهكذا نرى أنّ الثقة الداخلية التي ضعفت في إنكلترة في النصف الثاني من سنة 1931 قد عادت إلى ما كانت عليه بسبب نـمو الـمال الـمجموع في الصناديق، منذ ابتداء السنة الـماضية. أما في فرنسة فإن صناديق توفيرها دلّت في السنة الـماضية على استمرار الازدهار الذي ابتدأته في السنيـن السابقة. ففي آخر يوليو/تـموز من السنة الـماضية بلغ مجموع الـمال في صناديق التوفير 22,3 ملياراً من الفرنكات وهو الـحد الأعلى، في حيـن أنه لم يكن لها في آخر يوليو/تـموز سنة 1931 ما يزيد كثيراً على 18 ملياراً. وفي آخر سنة 1930 لم يكن الـمبلغ قد زاد على 14,7 ملياراً.
إنّ الـموقف، فيما يختص بصناديق التوفير في الولايات الـمتحدة، ليس جلياً بهذا الـمقدار، فإن ما تتراوح بينه الـمبالغ الـمودعة هناك ليس مـما يدل على اتـجاه نهائي. ففي السبعة الأشهر الأولى من سنة 1932 تراوح الـمجموع بيـن 5,23 و5,40 مليارات من الدولارات. والـمبلغ الذي رسب عليه الـمجموع في آخر يوليو/تـموز كان 5,35 مليارات. ولكننا إذا قابلنا هذه الأعداد بالأعداد الـمسجلة في أشهر سنة 1931 السيئة (البالغة في آخر يوليو/تـموز 1931 ،5,15 مليارات وهو أقلّ حد) وجدنا أنه قد حدث في الولايات الـمتحدة أيضاً تـحسين طفيف. وإليك كيفية سير عملية التوفير في الدول الأربع الأكثر أهمية في العالم: والأرقام الآتية تـحسب بالـملاييـن من نقد الدول.
|
ألمانيــة |
فرنســة |
إنكلــترة |
الولايات المتحدة |
|
مارك |
فرنك |
ليرة |
دولار |
آخـــر 1928 |
6990 |
8813 |
401,2 |
4406 |
آخـــر 1929 |
9016 |
11336 |
402,5 |
4392 |
آخـــر 1930 |
10400 |
14682 |
417,1 |
4792 |
آخـــر 1931 |
9722 |
20200 |
423,5 |
5255 |
يوليو/تموز 1931 |
10807 |
18201 |
429,6 |
5149 |
يناير/كانون الثاني 1932 |
9887 |
21348 |
430,1 |
5236 |
أبريل/نيسان 1932 |
9956 |
21937 |
432,3 |
5258 |
يوليو/تموز 1932 |
9717 |
22250 |
437,2 |
5253 |
أغسطس/آب 1932 |
9733 |
|
438,5 |
|