ما كادت الـحرب العالـمية تضع أوزارها وتختم بـمعاهدة فرساي[1] الـمشؤومة، حتى ابتدأت في العالم، أزمة سياسية هائلة لا مثيل لها في تاريخ الأزمات السياسية العامة السابقة. فقد خرجت أوروبة من مؤتـمر الصلح وهي لا تدري حقيقة ما قامت به فيه، ولا دليل على أنها قد أدركت ذلك الآن بعد مرور إحدى عشرة سنة على انعقاد مؤتـمر الصلح!
غيّر مؤتـمر الصلح خريطة أوروبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية تغييراً شوهها كل التشويه، وأفقدها التوازن الضروري لإيجاد حالة طبيعية ثابتة تتمكن فيها الأمـم من القيام بالأعمال العمرانية الـمفيدة التي تعود عليها بالـخير العام.
ولم يحسب الـحلفاء حساب روسية حيـن أخذوا يسوّون شؤون العالم على ما يهوون، فكان ذلك جريـمة سياسية من الطراز الأول لا يـمكن الباحث السياسي إغفالها حيـن درس العداء الـمستحكم بيـن روسية من جهة وفرنسة وبريطانية وإيطالية من جهة أخرى.
ففي مؤتـمر الصلح تشبثت فرنسة بفرض غرامة حربية عظيمة تقصم ظهر ألـمانية وتقضي على معنويتها إلى الأبد إذا أمكن، وإلى مدى بعيد على الأقل وقد ظن الـحلفاء، أنّ ذلك أفضل حل لـمسألة ديونهم للولايات الـمتحدة ولتحسيـن شؤونهم الاقتصادية الـخاصة. أما الآن فقد ظهر جلياً أنّ هذه الـمسألة تتضمن خطأ سياسياً كبيراً.
نشأ عن هذه التسوية الشاذة التي قام بها الـحلفاء في مؤتـمر الصلح معضلة سياسية عظيمة لعبت الدور الأكبر في التأثير على شؤون العالم الاقتصادية. وليست الأزمة الاقتصادية العامة الـحالية سوى نتيجة مباشرة للمعضلة السياسية التي خلَّفها مؤتـمر الصلح والـمؤتـمرات الأخرى التابعة له كمؤتـمر سانت جرمان[2] ومؤتـمر سان ريـمو[3].
إنّ في انفصال روسية عن أوروبة ووضع ما يزيد على مئة مليون نفس من الشعوب الأوروبية في حالة لا تتمكن معها من القيام بأود أنفسها، أسباباً كافية لإحداث أزمة اقتصادية مالية عامة. فإن روسية كانت تقوم، قبل الـحرب، بتموين نصف سكان أوروبة على الأقل، بالـحبوب مقابل ما كانت تستهلكه منها من الـمصنوعات، فانقطعت منذ انعزال روسية هذه الـمعاملات الاقتصادية الكبيرة، وبدلاً من أن تكون روسية عاملاً في سبيل تـحسين أحوال أوروبة الاقتصادية أصبحت عاملاً عظيماً على خرابها، وهي تدأب الآن ليل نهار للقضاء على نظامها الـمالي. وكانت ألـمانية والنمسة وبلاد الـمجر، قبل الـحرب أمـماً غنية، صناعاتها وتـجاراتها في ازدهار يجعلها تقوم بنصيب كبير من الأعمال الاقتصادية العامة، فضربتها التجربة السياسية التي أجريت في مؤتـمر الصلح بالشلل العام، حتى لم تعد تقدر على القيام بوظائفها. وكانت النمسة أولى هذه الأمـم التي اضطرت جمعية الأمـم أن تعقد لها القروض الـمستعجلة إنقاذاً لها من الـحالة السيئة التي صارت إليها حالاً على الأثر، ثم جاء دور ألـمانية التي عقدت لها قروض كبيرة في الولايات الـمتحدة.
كان ذلك من العلاجات الوقتية الطفيفة التي تُسكِّن معظم الألم ولكنها تترك أصل الداء على حاله، وحتى هذه الساعة لم تدرك أوروبة أنّ أسباب الداء منها هي. وأنّ البحث عن العلاج يجب أن يكون فيها لا بيـن النجوم. فإذا لم يعقد مؤتـمر يتناول الشؤون السياسية، قبل الشؤون الاقتصادية البحتة، ويسوي الـمشاكـل السياسيـة تسوية عامـة عادلـة تسمـح بالقيام بخطط تعاونيـة بيـن جميـع الشعـوب الأوروبيـة، يبقـى الـداء الـحقيقي متأصلاً فيها وتذهب جميع العلاجات الوقتية بلا جدوى.
إذا لم تتوصل أوروبة إلى حل قضاياها الاقتصادية من وجهتها السياسية الـمعقدة أولاً، فالـمرجح أن تـجرّها الأزمة العامة إلى يأس ينتهي بكارثة أعظم من كارثة سنة 1914.
إننا نرجو أن يكون هذا الـخاطر قد مر ببال اللورد ردنغ، وزير خارجية بريطانية، بـمناسبة زيارته باريس منذ بضعة أيام ومقابلته فيها السيد بريان[4] والسيد لافال[5] رئيس الوزارة الفرنسية، ونرجو أن تكون أحاديث هؤلاء الوزراء الكبار قد تناولت أصل الداء الذي تتألم منه أوروبة بأسرها ألـماً مبرحاً، وأن يكون ذلك خير تـمهيد لزيارة لافال الولايات الـمتحدة ومحادثاته مع رئيسها السيد هوفر[6].
إننا نشعر مع أوروبة فيما يتعلق بـمخاوفها التي تـمنعها من التقرب إلى روسية البلشفية، وندرك مبلغ الـخطر الشيوعي الذي يهددها. ولكننا في نفس الوقت نعلم أنّ أوروبة نفسها قد ساعدت على توطيد الشيوعية في روسية، من حيث تدري ولا تدري، وأنها تتحمل قسماً كبيراً من الـمسؤولية في انتشار الشيوعية في العالم عموماً وتفشيها في الأمـم الأوروبية خصوصاً.
فهل بقي أمام ألـمانية والنمسة إلا الشيوعية؟
وهل بقي أمام طبقات العمال والصنّاع الرازحة تـحت أثقال الأزمة الاقتصادية العامة شيء تعلق عليه آمالها؟
وهل أبقت السياسة الأوروبية على شيء من الصداقة القديـمة التي كانت تربط الشعب الروسي بالأمـم الأوروبية؟
إنّ أوروبة تتراوح الآن بيـن السلم والـحرب، وهي تعلم ذلك، ولكنها حتى هذه الساعة لم تـجزم بترجيح إحدى الكفتيـن.
وسنرى ما يكون من الـمناورات السياسية الـجديدة.
[1] خسرت ألـمانية الـحرب العالـمية الأولى. وفي معاهدة فرساي عام 1919 فرضت القوات الـمنتصرة (الولايات الـمتحدة وبريطانية العظمى وفرنسة وغيرها من دول التحالف) بنوداً اقليمية وعسكرية واقتصادية على ألـمانية.
[2] معاهدة وُقّعت بعد إنتهاء الـحرب العالـمية الأولى في 15/9/1919 بين الدول الـمنتصرة والنمسة. نصّ الـجزء الأول من الـمعاهدة على أنه يـمكن للنمسة الإنضمام إلى عصبة الأمم بعد فترة كافية من حسن السلوك. بينما يـخفض الـجزء الثاني من الـمعاهدة مساحة النمسة من 297.800 كلم2 إلى 83.835 كلم2 فقط، وبذلك انخفض عدد السكان من 30 مليون إلى 6 ملايين.
[3] عقد مجلس الـحلفاء بين 19 و25/4/1920 مؤتـمراً، في مدينة سان ريـمو بإيطالية إنتهى بإقرار معاهدة «سيفر» التي رسمت-ضمن شروط الصلح مع تركية- مستقبل سورية الطبيعية الـمبني على التجزئة والإنتداب وعلى إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين بـحسب نص وعد بلفور.
[4] أريستيد بريان: سياسي وديبلوماسي فرنسي (1862-1932) تولى رئاسة الوزارة في الـجمهورية الفرنسية الثالثة ست مرات بين السنوات 1909 و1929.
[5] بيار لافال (1883-1945): سياسي فرنسي شغل منصب رئيس وزراء فرنسة لأربع مرات. كان من أبرز الوجوه التي تعاونت مع الإحتلال الألـماني، أُعدم رمياً بالرصاص بعد محاكمته في 15/10/1945 بعد أن رفض شارل ديغول العفو عنه.
[6] هربرت كلارك هوفر (1874-1964): هو سياسي أميركي جمهوري شغل منصب الرئيس الحادي والثلاثين للولايات الـمتحدة من عام 1929 إلى 1933 خلال فترة الكساد الكبير الذي أفسد برامجه الطموحة.