إنّ مؤتـمر لندن الذي أتينا على خلاصة أبحاثه في عدد سابق، يُعدُّ أعظم عامل سلمي في أوروبة. فهو كان الـخطوة الأولى في سبيل الأبحاث السلمية التي أخذت مجراها في مؤتـمر جمعية الأمـم الأخير الذي انعقد في جنيف. ولكن لهذا الـمؤتـمر وجهة غير هذه عند بعض الـخبراء الاقتصادييـن الذين يرون في ما آل إليه ما يحملهم على التشاؤم، والـحقائق التي يستندون إليها حقائق جوهرية حريّة بالاعتبار.
أهم هذه الـحقائق ما يدركه الـمفكر من النتائج الاقتصادية الـمترتبة على عودة ألـمانية إلى دائرة الـجهاد الاقتصادي التي كانت فيها قبيل الـحرب، وهو ما لا بدّ من حدوثه بعد أن فتح مؤتـمر لندن الأسواق التجارية لألـمانية وجعلها حرَّة في صناعتها. فإذا تـم ذلك فعلاً، لا يكون الـخوف من تصادم سياسي واقتصادي مقبل بيـن بريطانية وألـمانية كالذي حدث قبل نكبة 1914 في غير محله. بل إنّ الزحام الاقتصادي الذي سيحصل في القريب العاجل بيـن دول أوروبة من جرّاء دخول ألـمانية حومة السباق الاقتصادية لَـمِن الشؤون الـمهمة جداً، وهو ما أصبح الآن حديث الأندية الاقتصادية والسياسية وشغل الاقتصادييـن الشاغل.
تنظر بريطانية إلى عودة ألـمانية إلى سابق عهدها في الصناعة والتجارة بعيـن القلق والاضطراب. وهي ترى وراء ذلك من الأخطار الكبيرة على حياتها الاقتصادية ما يجعلها تخاف شر الـمستقبل. وقيمة هذه الأخطار تستفحل جداً، وتصبح داء مستعصياً خطراً إذا سبق صناعيّو فرنسة صناعيي بريطانية إلى الاتفاق مع صناعيي ألـمانية. فإن اتفاقاً كهذا يضرب الصناعة البريطانية ضربة، إذا لم تقضِ عليها، زعزعتها من مركزها وأضعفتها كثيراً. ولقد كان من وراء تنبّه الثقات البريطانييـن إلى هذا الأمر أن تألفت لـجنة منهم تدرس هذه الـمسألة درساً دقيقاً، وتطلب أن يُسرع رئيس الوزارة إلى تسهيل سبيل الاتفاق التجاري مع ألـمانية قبل أن تسبق فرنسة إلى ذلك وتذهب الصناعة البريطانية ضحية صناعة تينك الأمتيـن التي تتألف إذ ذاك من حديد الألزاس واللورين وفحـم منـاجـم الـروهر، وهـو ما لا يعـود في طـاقة بريطانية الـمحافظة على مركزها الصناعي تـجاهه.
وما يقال عن قلق بريطانية من هذا القبيل، يقال عن قلق فرنسة أيضاً إذا فشلت هي في الاتفاق مع ألـمانية. ولا يـمكننا أن نقول إنّ هذا القلق في غير محله ما زالت سعادة الأمـم متوقفة على نـجاحها الاقتصادي. بل إنّ حياة الأمـم نفسها تتوقف الآن بالأكثر على ذلك، فإذا فشلت أمة ما في مجاراة الأمـم الأخرى في الاقتصاد فشلت في مجاراتها في الـحياة. وكل أمة تعدُّ نفسها من الطراز الأول يجب عليها مجاراة الأمـم الأخرى، التي هي من هذا الطراز في الشؤون الاقتصادية، لكي تتمكن من مجاراتها في الشؤون الـحيوية.
فـي هـذه الـحقيقة ما يبعث على تعليل عامل كبير من عوامل الـحرب الكونية. فالأمة التي ترى أنها آخذة في الضعف والتقصير في اقتصادياتها أمام قوة وتقدم أمة أخرى من طرازها، تعمد إذ ذاك إلى وسائل أخرى غير الاقتصاد لإضعاف الأمة الـمتقدمة وعدم تـمكينها من سبقها وتركها وراءها. ومن هذه الوسائل الـمعاهدات السياسية الاقتصادية التي من شأنها أن تعاكس الأمة الـمتقدمة. ونظن أنّ ما حمل الـملك إدوارد السابع[1] على الذهاب إلى فرنسة بقصد إيجاد علائق ودية بيـن الأمتيـن البريطانية والفرنسية، رغم ما أشيع من أنّ الباريسييـن سيتعدُّون عدم الاحتفاء به إلى ملاقاته بالصفير والصخب، كان خوفه مـما يراه من تقدم ألـمانية الاقتصادي السريع الذي خشي معه القضاء على حياة بريطانية الاقتصادية في الـخارج. والعبارة التي قالها هذا الـملك لولي عهد ألـمانية أثناء زيارته له هي أنه يخشى أنّ تزاحم ألـمانية وبريطانية الاقتصادي سيؤدي إلى تصادم بيـن هاتيـن الأمتيـن. ولقد شعر الألـمان بـما وراء اتفاق بريطانية وفرنسة من الأخطار الـموجهة إليهم، لذلك بنوا أسطولهم البحري الـحربي الضخم وجهزوه بأحدث الاختراعات الـحربية تأميناً على أسطولهم التجاري الذي كان على زحام دائم مع الأسطول البريطاني، وإنذاراً لبريطانية بعدم التفكير بالتصادم مع ألـمانية.
إنّ التزاحم الاقتصادي كان العامل الأكبر في ذلك السلم الـمسلح الذي أرهق أوروبة زهاء نصف قرن، وانتهى بنكبة سنة 1914. فهل يشهد العالم في السنيـن الـمقبلة تزاحماً اقتصادياً آخر يكون من ورائه سلم مسلح ينتهي بحرب أخرى لا تنكب أوروبة بأقلّ مـما نكبتها به الـحرب السابقة؟
هذا سؤال يشغل الآن محلاًّ كبيراً في السياسة الأوروبية. وبينما مؤتـمر جمعية الأمـم يبحث في منع الـحروب، ابتدأت مسألة التزاحم الاقتصادي تتجلى بصورتها الـخطرة الـمخيفة. ولكن لا يـمكن الآن التنبؤ بالشكل الذي ستتخذه. فلا يدري أحد ما هي الأفكار العميقة التي تـجول في مخيلة سياسيي بريطانية وفرنسة وألـمانية.
خطر التزاحم الاقتصادي خطر عظيم. ودول أوروبة آخذة الآن في التأهب له، وكـل واحدة منها تسير في الوجهة التي تراها أوفق لها. وسوف لا يـمضي وقت طويل إلا ونرى التنازع على أسواق العالم قائماً على قدم وساق، مـما يعيد إلى الأذهان صورة الـحالة الـحرجة التي كانت فيها أوروبة قبل سنة 1914 . فإذا رأينا سياسات الدول الأوروبية تتغير الآن وتتبدل، فلا نعجب ولا ننذهل. فنحن لا يـمكننا أن ننتظر من السياسة الدولية في أوروبة ثباتاً ما زالت وجهة النظر مختلفة فيها. وقبل أن توقِّع الدول الأوروبية كلها اتفاقاً اقتصادياً سياسياً عاماً، تظل التقلبات السياسية آخذة مجراها إلى ما شاء الله.
حسب الـموقف السياسي الـحاضر، يوجد في أوروبة أمور كثيرة مـمكنة. فلا يبعد مطلقاً أن نرى العداء يتولّد بيـن بريطانية وفرنسة بسبب الاقتصاد. قد لا يحدث شيء من ذلك، ولكن الـموقف الـحالي يحتمل حدوث كل شيء. فالـميزان السياسي في أوروبة تارة في صعود وطوراً في هبوط. وإذا لم يكن في إمكاننا أن نعلن الآن ماهية النتائج الـمترتبة على الـمسألة الـجديدة، ففي إمكاننا أن نعلن نتيجة عامة هي التضاد بيـن الدول الأوروبية، لأن هذه الدول لا تزال تعتبر التضارب النوع الأساسي في الـمباراة الاقتصادية. وفي هذه الـحقيقة يكمن الـخطر الـمقبل.
يسمي بعض ساسة أوروبة التزاحم على امتلاك أسواق العالم التجارية «مباراة». وفي هذه التسمية خطأ فاضح، لأن التزاحم الـمشار إليه هو في الغالب مـمزوج بحب السيادة والسيطرة الذي يقود بعض الأمـم إلى تضحية أمة أو أمـم أخرى في سبيل ذلك. والـمباراة بـمعناها الـحقيقي لا تكون من هذا النوع. ولكن يصعب جداً على الرجعييـن والعسكرييـن في أوروبة أن يفهموا هذه الـحقيقة، فهم لا ينظرون إلى الـحالة الأوروبية إلا من وجهة واحدة هي تلك الوجهة القديـمة الـمبنية على العداوات والضغائن، التي بها وحدها تظهر مواهب هؤلاء النوابغ الذين تكلِّف مواهبهم الأمـم راحتها وسعادتها.
يجب على أوروبة، إذا كانت تريد أن ترى طريق الـخلاص من الورطة الـجديدة الـمهددة هي بالوقوع فيها، أن تتخلص من هؤلاء النوابغ العظام قبل أن يخمدوا البقية الباقية من الـحياة الـحرة فيها. ففي إمكان الدول الأوروبية كلها أن تتبارى في الشؤون الاقتصادية دون أن تلجأ إلى «امتلاك» الأسواق التجارية في العالم بطرق غير اقتصادية. ويـمكِّن هذه الدول أن تنقذ أوروبة مـما هي فيه بأن تضحي قليلاً من تلك الـمطامح والـمطامع التي هي سبب كل شر يحدث، وهي لا تكون قد خسرت بذلك شيئاً بل تكون قد تخلصت من الأخطار التي تهددها.
هل تبقى أوروبة غافلة عن هذه الـحقيقة إلى أن توقظها حرب أخرى؟ من يدري! فأوروبة التي تـحاول الآن أن توجد السلام، قد تتحول عن هذا القصد بعد حيـن إلى امتشاق الـحسام والـمناداة بالـحرب. وحتى الآن لم تظهر حكومات الدول الأوروبية أنها تعمل بروح السلام الـحقيقي الذي تتوق إليه شعوبها.
أنطون سعاده
[1] إدوارد السابع (1841-1910): خلف الملكة فكتوريا على عرش انكلترة (1901). عقد اتفاقاً ودياً مع فرنسى (1904) وآخر مع روسية (1907).