أيها الرفيق العزيز،
تسلمت كتابك الأخير الـمؤرخ في 14 يوليو/تـموز الـماضي. وكان سروري كبيراً بالصراحة الصادقة التي وجدتها في جميع سطوره، وبـما اشتمل عليه من الوصف الدقيق لـحالتك وموقفك الـخاصيـن، ولـحالة الرفقاء الـجدد في سانتياغو دي شيلي ونوعيتهم. وما دمت قد فتحت لي قلبك وبدأت بأمرك فسأتناول هذا الأمر، في جوابي.
أولاً إني أشعر بـمقدار ما يدفعك ضميرك الـحي إلى الشعور به والاهتمام له من ظروفك وشؤونك العائلية والبيتية وأقدّره حق قدره، والبنون بهجة العائلة، والـحركة القومية الاجتماعية مبدئياً، لا ترغب في تقليل نسل القومييـن الاجتماعييـن خاصة وبقية السورييـن عموماً. وإذا كانت لك رغبة في زيادة البنين فأتـمنى لك الهناء بهم. أما إذا كنت ستجد الزيادة موقرة ومانعة لك من الفوائد الاجتماعية والأدبية التي لك رغبة كبيرة في تأديتها، وأحببت الاكتفاء بـما أعطيت فقد لا تعدم إمكانية الاكتفاء من غير إهمال الـحياة الزوجية الـحبية.
إستوقف نظري في هذا الصدد، وبصرف النظر عن الشأن الـمخصوص الـمتقدم، ما ورد في وصف شؤون أخرى تـحتاج لتدقيق وتـمحيص. وقد جمعت العبارات التالية من كلامك: «وهذا التصور مصدره الـملل نوعاً، وتراكم الـمسائل والواجبات الناتـجة عن الوظائف العديدة التي أشغلها في جمعيات وأندية كثيرة، وأكثرها ذات مسؤولية عدا ما تقتضيه من العمل والـمواظبة، فهذه الـحالة وحدها تـجعلني قاصراً عن القيام بأقل حركة سواها.»
«ولا أريد أن أكون الـمتدخل في الشؤون الداخلية لعدم مقدرتي على العمل والاهتمام.» «ولسوء الـحظ أنا لست بحالة أن أعمل أو أشغل مركزاً في الـحزب للأسباب الـمشروحة.» هذه العبارات، عدا أنها تـمثّل حالة نفسية معيّنة، تكوّن مجرى فكرياً كاملاً فيما يختص بنظرتك إلى الـحركة السورية القومية الاجتماعية التي صرت أحد أعضائها. ومن التدقيق في الـمجرى الفكري الـمذكور بالاستناد إلى العبارات الـمثبتة فوق، يتضح أنّ الـمنظمة القومية الاجتماعية ليست لك إلا جمعية جزئية أو نادياً آخر من الـجمعيات والأندية التي أنت من أعضائها وتشغل وظائف عديدة فيها. وبـما أنّ هذا هو السبب الرئيسي الذي حملك على التردد بادىء بدء في أمر دخول الـحركة السورية القومية الاجتماعية، والذي يدفعك إلى تـجنّب الدخول في الـمسائل الـحزبية الداخلية والعمل فيها وشغل مركز إداري في الـحزب، فلا بد لي من وضع التعليق الآتي:
إنك لم تصب الـحقيقة بنظرتك إلى الـحزب السوري القومي الاجتماعي كما لو كان واحدة أخرى من الـجمعيات. فالـحزب السوري القومي الاجتماعي هو حركة لها غاية كبرى يرى القوميون الاجتماعيون أنها تأتي قبل جميع الغايات، وأنّ، قيمتها فوق القيم الأخرى، لها يهبون نفوسهم بإيـمان كلي، وبها يصهرون مواهبهم، وبغيرها لا يجدون استقراراً لقلق وجدانهم.
إنه قوة وحركة تتناولان حياة أمّة بأسرها، إنه دولة السورييـن القومييـن الاجتماعييـن الـمستقلة التي يحافظون عليها ويدافعون عنها صيانة لـمثلهم العليا التي لا تقوم إلا بها. فهو مركز الثقل والـجاذبية لشعورهم وفكرهم، وجميع الـجمعيات والـمؤسسات والأعمال الأخرى ليست سوى قطرات في بحـر هـذه الـمنظمـة الكبـرى ووسائـط لغاياتهـا وأجـزاء من حقيقتها.
هذا هو الـحزب السوري القومي الاجتماعي بالنسبة إلى الـمؤسسات التي ذكرتها، وإلى ما هو من نوعها، وما أنتظره منك بصفتك أديباً ومثقفاً وكاتباً مفكراً هو أن تنظر إلى فوق - إلى سمو غاية الـحزب السوري القومي الاجتماعي التي تصغر دونها جميع الغايات الأخرى، وأن تفتح كل قلبك لـموحيات هذه الـحركة العظيمة التي تنشىء تاريخاً جديداً لأمة عظيمة. فإذا فعلت ذلك فإنك ستقول إني بكليّتي للحزب السوري القومي الاجتماعي، وإني أضع جميع مواهبي وجميع ما أملك رهن مشيئة سلطته العليا، وأتبع في كل ما أعمل التوجيهات الصادرة عنها لـمصلحة القضية القومية الاجتماعية الـمقدسة.
وإذا قلت ذلك بكل اليقيـن والإيـمان فأنت قد صرت قوة فاعلة في هذا العمل الإنشائي العظيم، وحينئذٍ تدرك أنه لا يـمكن لأية مؤسسة من الـمؤسسات التي أشرت إليها أن تـحول بينك وبيـن أي عمل يعهد به إليك، ولا بينك وبين تـحويل قواك ومواهبك إلى خدمة قضيتك القومية الاجتماعية التي جعلتها، بـمطلق اختيارك، إيـماناً لك ولعائلتك، بهذا الإيـمان وبهذه العزيـمة الصادقة ندكّ حصون الصعوبات وننتصر. أما الصعوبـات التقنيـة فتذلل بالـحلول وبالتوجيهات التقنية وبالدرس وبالاختبار في نور الـحلول والتوجيهات والأعمال الـممارسة.
من هذه الصعوبات الأخيرة ما شرحته لي من حالة معظم الذين انضموا إلى الـحزب السوري القومي الاجتماعي في سانتياغو دي شيلي. فقد ذكرت لي أنه من الـخمسيـن عضواً لم يحضر الاجتماع الأول الذي حضرته أنت، وقد يكون أول اجتماع على الاطلاق، غير عشرة أعضاء فقط. ومن سياق كلامك يظهر أنك تـجعل السبب كله في بساطة الأعضاء وأمّية معظمهم.
والذي أراه أنّ هذا القول يفتقر إلى تدقيق أكثر قبل إعطاء حكم نهائي. كيف جرى تبليغ الدعوة إلى الاجتماع، وفي أية مدة جرى، وما هي الأسباب التي حالت دون حضور كل عضو من الغائبيـن بـمفرده؟ هذه الأسئلة وغيرها تفتح دائرة جديدة للدرس. وهنالك أسئلة أخرى أو افتراضات لا بد منها في كل عمل تأسيسي، وهي وجوب إعطاء فرصة للأفراد لينتقلوا من حالة تعوّدوها إلى حالة سيتعودونها. فكثير من الذين دخلوا، ويدخلون الـحزب، يظنونه مثل ما عرفوا من الـجمعيات، ويأتون بالـمقاييس التي اعتادوا القياس بها. والذين ليس ذنبهم وصلاحهم، أو عدم صلاحهم، يتبيّـن من الدروس التي تلقى عليهم وامتحاناتهم العملية فيها.
ولا تنسَ أنّ معظم الشعوب، مع جميع الفوارق الثقافية بين شعب وشعب، تـجد عامتها تصح أن تسمّى بالنسبة إلى قضاياها الكبرى وإلى غاياتها الأخيرة، عمياناً، فلا بأس أن يكون هنالك عميان كثار، أو قلائل، بشرط أن يوجد لهم قواد مبصرون في القضية وفي شؤون العميان، وبشرط أن يكون لهؤلاء حسن النيّة. وأغلب الـجهلة يـمكن أن يصيروا جنوداً جيدين إذا وجد لهم قواد صالـحون. فيجب ألا يرفض منهم إلا من كان سيئ الـخلق فاسد الطوية متمرداً على النظام.
ولـما كنت تعترف في كتابك، بأنّ أكثرية الذين انضموا إلى الـحزب هي من ذوي الـخصائل الـحسنة الأولية فهو يدل على إمكان التأثير على هذه الـجماعة وقيادتها. والـحقيقة أنّ هذا النوع من الناس أسهل معاملة وأسلس قيادة من الـمتنورين والـمثقفين ثقافة ناقصة. فمعظم هؤلاء كثيرو الـمجادلة شديدو الإدعاء وصعوباتهم كثيرة ومعقدة. إلا الذين أصابوا من الفهم قسطاً كبيراً وعرفوا قيم الأمور.
ومعظم البسطاء يعرفون سذاجتهم، وإذا استأنسوا من قادتهم بالإخلاص والنزاهة والغيرة على مصالـحهم القومية الاجتماعية إنقادوا إليهم بكليتهم. وهذه ليست نظرية غير مختبرة، بل جرى عليها الاختبار في أوساط واسعة. يبقى صحيحاً سهولة تعرّض السذّج للانخداع. ولكن ذلك يكون في مثل علمنا، بالأكثر من إهمال القادة أو ضعفهم وسوء فهمهم الـحالة وسوء تدبير الأمور. وفي الأخير هؤلاء معظم شعبنا، وبينهم يجب أن نعمل، ولا مفر لنا من ذلك. فعسى أن لا تـجوروا على الضعفاء وأن تترفقوا بهم وأن يكونوا معنا أفضل دائماً، من أن يكونوا أو يتعرضوا ليكونوا في يد غيرنا.
قد تأخرت بإرسال هديتي إليك بسبب وعكة اضطرتني للبقاء ما يزيد على أسبوع في الفراش. ولكني أرسلتها مؤخراً من نحو أسبوع. وأرسلت مع الكتاب الـمهدى بعض مطبوعات حزبية هامّة، وبينها نسخة من دستور الـحزب، فأحب أن تقرأ الدستور والقوانيـن وتتمعن فيها جيداً، وستجد فيها الـحل التقني لـمسألة البسطاء.
فنظام الـمديريات التي تضم عامة الأفراد، لا يسمح بحصول التشويش والفوضى. ليس هنالك انتخابات تقسم الأعضاء إلى فرق متزاحمة متخاصمة، والأعمال الهامّة تقرر من قِبل الـمدير وحده بعد سماع الآراء من أعضاء هيئة الـمديرية الذين هم معاونوه في الإدارة وهم عدد محدود جداً، أربعة عدا عن الـمدير، والاجتماعات العمومية مقصورة على تعليم النظام، وتوضيح القضية ومسائلها وقراءة أهم الـمقالات التي تصدر في الزوبعة وسماع كلمة الـمدير أو الـمذيع حول الـمسائل الـمحلية، وكيفية مقاومة الأعداء والدفاع عن الـحزب، وسماع آراء الأعضاء التي يحبون إبداءها، فتجيب الإدارة في الـحال أو بعد حيـن على ما هو من صلاحيتها الإجابة عليه، وتـحوّل ما ليس من صلاحيتها إلى مرجع أعلى، وتهمل ما لا ترى فائدة من النظر فيه ومن هذا ينتج أنه يـمكن إيجاد جسم قومي اجتماعي من جماعة بسيطة بتعليمها الأوليات الضرورية من النظام والطاعة والاتـحاد مع شرح بسيط عما يهم هذه الـجماعة.
أعود إلى ما بقي لأنّ الشؤون التي تظن أنها تعترض إقدامك على حمل مسؤولية إدارية، أو على العمل الـمجدي في كل ما تتطلبه الـحركة السورية القومية الاجتماعية، أعني ولعك بالتفكير والكتابة، فأنا أرى هذا الولع صالـحاً جداً لـما تتطلبه الـحركة، وصلاحه في تـحويله من تفسيخ الروحية وتـجزئة النفس في مطالعات تتعلق بأفكار صادرة عن نفسيات أجناس متعددة وغايات كثيرة ومتباينة، إلى التئام الروحية وتوحيد النفسية في جمع الشعور والفكر ضمن قضايا الـحركة السورية القومية الاجتماعية التي تفتح آفاقاً جديدة للمفكرين والفنانين.
تقول إنه لا يكفيك أقل من عشرين كتاباً في الشهر. وهذا يعني، من وجهة نظري أنّ أكثر الكتب التي تطالعها هي من الأدب الـجاري. وأستصوب لك أن توطد نفسك على حقيقة أساسية تعدّها ثابتة وتطبّق الأدب الـجاري عليها، ولا تطلب منه إلا ما يبنى عليها، فتصبح أحد تلامذة مدرسة فكرية واضحة لها طابعها الـخاص في عالم الثقافة والأدب.
وإني أعدّ اختيارك العقيدة السورية القومية الاجتماعية اهتداءً منك إلى هذه الـحقيقة الأساسية التي ستحاول أن تـمزج شخصيتك بها بجعلها مدار شعورك وتفكيرك وغاية درسك ومرمى إنتاجك. وقضيتنا تـحتاج لدرس واسع وإنتاج كثير وأدب غزير يتناول جميع نواحيها الروحية والـمادية. ولا أتوقع أن تكون دخلت هذه الـحركة القومية الاجتماعية الباهرة وتركت نفسك خارجاً. ونحن نطلب وجدانك نفسك قبل كل شيء ويـمكنك أن تبدأ بالعمل منذ الآن.
فقد ذكرت لك أنه يـمكنك الـمساهمة في أعمال كتابية كثيرة من ترجمة وإنشاء. فهنالك مسألة ترجمة مبادىء الـحزب إلى الإسبانية، وترجمة بعض الأبحاث والـخطب التي لها قيمة دراسية أو توجيهية. وقد صدر في عدد الزوبعة الأخير، التاسع والأربعيـن، بتاريخ أمس، مقال في موضوع هامّ أيضاً لأبنائنا الذين لا يقرأون لغتنا. عنوان الـمقال «النزعة الفردية في شعبنا» الذي يصح أن يترجم. فإذا راق لك أن تترجم هذا الـمقال لينشر في الزوبعة فعلت حسناً.
يـمكن التحدّث إليك كثيراً عن العمل القومي الاجتماعي. وإذا كانت الظروف مؤاتية لزيارة تشيلي فيمكن أن ينتج عن مقابلاتنا واجتماعاتنا تفاهم أعمق وأوسع. وسأنتظر تقرير اللجنة التي عهدت إليك تأليفها لدرس الـموضوع.
بقي أن ألاحظ على تلقيبك أياي «دكتور»، وهو لقب أجراه عليّ بعض الـمحبيـن، قد يكون سببه أني كنت أستاذاً في الـجامعة الأميركانية في بيروت، ولكني لست حائزاً على دكتوراه. وأخشى أن يؤدي الاستعمال إلى التباس.
إقبل سلامي القومي. ولتحيى سورية.