إلى الرفيق غسان تويني،كمبردج،ماستشوستس،
أميركانية
أيها الرفيق العزيز،
سررت سروراً بكتابك الأخير الـمؤرخ في 20 يونيو/حزيران الـماضي الذي عرّفك تعريفاً أولياً جلياً ضرورياً لتكوين فكرة واضحة عنك وعن إمكانياتك الفكرية والعملية في النهج والسياق الـمقبليـن.
أعود إلى ملاحظاتي في كتابي السابق إليك وجوابك في كتابك الأخير عليها، عملاً بقاعدة التدقيق الشديد في الـمسائل العقائدية والفكرية مع الرفقاء الـمؤهليـن لتناول شؤون الفكر العليا وتقوية التمازج الفكري ووحدة الفكر والقصد وزيادة في توافق الآراء والـمناهج في الـخطة الأساسية وفروعها، أي بجميع هذه الأمور الـجوهرية التي يتوقف كل نـجاح، في ما يعنيها، على مبلغ حصولها.
مـما لا شك فيه أنّ حداثة عهدك باعتناق العقيدة السورية القومية الاجتماعية وانضمامك إلى الـحزب لم تسمح لك بالاطلاع الـمباشر والـمعرفة الشخصية في نشر العقيدة وعمل الـحزب في عهده التأسيسي الذي استمر إلى الآن. مع ذلك فقد ساعدتك مواهبك الفكرية ونباهتك وتـحصيلك العلمي على إدراك أمور كان يقتضي لغيرك أضعاف الـمدة التي قضيتها لإدراك ما أدركت من قضايا النهضة القومية الاجتماعية وعوامل سيرها. ولكن مهما كان هذا الإدراك عالياً فإنّ قصر الـمدة ومحدودية الاختبارات يوجبان اتباع قاعدة التحفظ الـمعقول في الآراء الأخيرة أو النهائية أو الـجازمة في قضايا لم تنكشف كل نواحيها ولم تـحصل كل عواملها الـخفية والـمعلنة وأسباب الـحكم فيها. وإنّ من القواعد الضرورية لتفكيرنا القومي الاجتماعي الـحرص على إعطاء القضايا حقها من الرصانة والتقدير والتحفظ وأعمال الفكر الواقية من خطر الزلل والـمقلّلة له. وإني أقول هذا القول في معرض كتابي إليك، ليس لأني أستشف فيك ميلاً إلى عكس ذلك، بل لأني أرى فيك الاستعداد لوعي هذه القواعد والقضايا الهامّة، ولأني أحب أن أنشّط فيك هذه الناحية الضرورية للعمل السياسي العالي.
إنّ الوثائق والـمنشورات الـحزبية التي تيسّر لك الاطلاع عليها ليست كل ما يجب أن يقف عليه طالب معرفة نشوء حزبنا ومشاكل تاريخه. فإنّ أموراً كثيرة بقيت غير منشورة كما أنّ أموراً كثيرة لم تدوّن. ومن هذه الأمور ما هو حوادث هامّة من الوجهة التفصيلية، ومنها ما هو أفكار وآراء وقواعد حرمت من حظ أخذ محلها بين الـمدونات. ولا ننسى أنّ مدونات الزعيم هي قليلة بالنسبة إلى تعاليمه وأقواله وشروحه الشفوية في الـخطب العديدة، التي لم تدوّن، والـمحادثات الإفرادية والـمجموعية، وفي القضايا والأحكام التي تناولها أو أصدرها، وفي أعماله وتفاصيل سيرته. وإذا كان جزء من هذا النقص يكمل بـمرويات ومسندات الـمقربيـن إلى الزعيم ورفقائه الأُوَل وأعوانه ومعاونيه فإنّ قسماً كبيراً هاماً يبقى ناقصاً. ولا ننسى أيضاً أنّ رفقاء الزعيم الأُوَل ومعاونيه متفاوتون في الـمعرفة والإدراك والـمؤهلات. فبعضهم تفوتهم تفاصيل هامّة لا يدركون قيمتها التاريخية، وبعضهم يـميلون إلى الناحية الشعرية من الأمور، وبعضهم لم يتسنّ لهم عرفان أمور سابقة لعهد دخولهم، وغير ذلك.
ومع ذلك فإنّ مجموعة مرويات هؤلاء الرفقاء ومذكراتهم، إذا كانت لأحد منهم مذكرات، تكون مستنداً هاماً من مستندات تاريخ حركتنا القومية الاجتماعية. خذ مثلاً الرفيق رجا خولي، فهو من أوائل الذين حدّثتهم في فكرتي ووجهت إليهم تعاليمي. ولكن وعيه كان ضعيفاً ومؤهلاته العلمية بعيدة عن صلب القضية، وكانت قوّته في حسن إدراكه الشخصي وفي استعداده الروحي الـجيد. وكان دائماً يكرر قوله لي في بدء عملنا: «إني مؤمن بهذه التعاليم ومعتقد بصحة القضية. ولكني لا أرى كيف يـمكننا التقدم في مجموعنا الـمستولية عليه نزعات وعوامل مختلفة، وأنا شخصياً لست أرى في نفسي كفاءة ومقدرة على مجادلة من يأتون بـمعتقدات أخرى كالعروبييـن وإقناعهم، ولست أرى غيري من الـمنضميـن أقدر مني في هذا الصدد»، فكنت أشجعه وأوصيه بالصبر وأبيّن له فضائل الثبات والـمثابرة، وكان ذا أخلاق تؤهله لذلك.
وقوي وعيه القومي فيما بعد وظهر ذلك في رسائله وهو في طريقه إلى إنكلترة حين ذهب ليكمل دروسه واختصاصه في الهندسة وفي أول عهد وجوده في إنكلترة. وهو أول من استعمل في رسائله: لتحيى سورية ورأيت تعميمها. ولكنه بعد مدة على وجوده في إنكلترة وحصول الاعتقالات الأولى وانقطاع اتصالاته بي وبدائرة الأعوان حصل له فتور وبرودة إنكليزية جعلاه يعود القهقرى إلى معظم حالات الـموقف الشخصي الفردي السابق للموقف القومي الاجتماعي. وبعد عودته من إنكلترة ظل متجنباً العمل الـحزبي وكل شأن من شؤون الـجهاد القومي الاجتماعي مع احتفاظه بـمودته لي وبصحة القضية. واضطررت لبذل جهود كبيرة لإقناعه وإقناع ابن عمته الرفيق [نديـم] الـمقدسي للعمل في فرع حزبي غير معلن ومكتوم عن فروع الـحزب التي أصبحت معلنة. وبعد لأي جمعته هو والرفيق الـمقدسي والرفيق جورج صليبا ورفيقاً دخل حديثاً في أواخر سنة 1937 أو أوائل سنة 1938 ويعمل معاوناً في معمل الدكتور رئيف أبي اللمع ورفيقاً آخر هو ابن «الشيخ حسن» التاجر في مكان قرب ساحة البرج، وأظن أنّ اسمه محسن، وغيرهم من غير الراغبيـن في العمل العلني وإحراق مراكب الإنقاذ، وتـمكنت من أن أعقد لهم عدة اجتماعات وأعيّن لهم أعمالاً تـحضّهم على تـحقيق الغاية الكبرى وتـحيي العقيدة والقضية في نفوسهم.
والأمين الـجزيل الاحترام عبدالله قبرصي دخل في الـحزب في أواخر سنة 1934، وعلى الرغم من دروسه الـحقوقية بقي ذا ميل شعري ظاهر في نظره إلى الأمور، ولكنه اتقد بروح النهضة وجاهد واختبر اختبارات عديدة. والرفيق موسى سليمان كان ضعيفاً جداً في إدراكه الأول لقيمة التعاليم وحقيقة القضية، وظهرت منه في بادىء الأمر تصرفات الـمشككيـن الذين لا قيم عليا ولا إيـمان راسخ في نفوسهم. فلما فرضت أول جباية شهرية على الأعضاء للقيام ببعض النفقات الضرورية امتنع عن الدفع وأظهر شكوكاً في مصير الـمال، وبقي مدة طويلة لا يدفع ولا يواظب على الاجتماعات حتى قارب أن يسقط بالـمرّة من الـحركة كما سقط الأستاذ كنعان الـخطيب.
وعندما ذهب مع طلبته في سياحة إلى أوروبة أرسل مقالات أظن أنها نشرت في النهار أو صوت الأحرار مدح فيها النهضة الألـمانية وغيرها، ولم يشر إلى شيء من ابتداء نهضة في وطنه قد تكون أفضل في تعاليمها ومراميها من النهضة التي رآها في ألـمانية. ويـمكن القول إنّ تلك السياحة أفادته وجعلته يرى أخذ الأمور بجد ويقيـن.
الأمين الـجزيل الاحترام نعمة ثابت والرفيق الـموقّف فخري معلوف كانا أكثر الرفقاء اطلاعاً على خطط الزعيم وأفكاره، ويأتي بعدهما الأمناء الـجزيلو الاحترام جورج عبدالـمسيح، مأمون أياس، عبدالله قبرصي، والرفقاء رجا خولي، ويوسف صايغ، وجبران جريج، ورشدي معلوف، وغيرهم.
فترى، أيها الرفيق العزيز، كم هي شاقة مهمة جمع الـمعلومات الأولية الكافية لـمعرفة حوادث تاريخ نشأة حزبنا والقضايا التي اكتنفت هذه النشأة. ونقص هذه الـمعرفة ينعكس على فهم «سياسة الـحزب» وخططه السياسية الأولى. ومهما يكن من عناية بعض أوساط منفذية الطلبة بهذه الناحية من التراث الـحزبي فإنّ نقصاً كبيراً في هذه العناية يبدو في الـمظاهر الفكرية الـجديدة في أوساط الـحزب العليا. ولذلك قلت في كتابي السابق، إنّ رأيك أو تعبيرك عن حالة الـحزب في عهده الأول بالعبارة التي سببت ملاحظتي قد يكون مشتركاً مع رأي غيرك، على الأقل في توافق الاستنتاجات، كما هو الواقع الذي يجعل لعبارتك قيمة التعبير عن «آراء مشتركة بيـن عدد من أشخاص الإدارة الـمركزية الـجدد» ويحتمل أن يكون منهم بعض أشخاص الإدارة الأوليـن الذين لم يتمكنوا من إدراك مراتب التخطيط السياسي في تفكير الزعيم وطريقته في معالـجة الأمور.
قد تكون جرت، وقد لا تكون جرت لك محادثات مع مسؤوليـن وغيرهم من الـمطّلعيـن بشؤون القضية الفكرية ومن أصحاب الآراء فيها في صدد «تـحجر الـحزب الأكاديـمي» في نهجه السابق و«موقفه السلبي من السياسة القائمة». ولكن الواقع هو أنّ عدداً من الـمسؤوليـن جديداً ومن الـمفكرين في قضايا الـحزب يستعمل تعابير متفقة في شكلها وأساسها مع عبارتك التي جعلتها موضوع ملاحظتي وكلها تريد أن ترى للحزب نهجاً جديداً أو أن يقوم أصحابها بوضع هذا النهج الـجديد واستنباط أساليبه ووسائطه وتعييـن أهدافه.
في رسالتي الـماضية أشرت إلى ما لاحظته في فاتـحة نشرة عمدة الثقافة وفي «بيان عميد الثقافة والفنون الـجميلة الأساسي». وقد دافعت في كتابك الأخير عن عمدة الثقافة في صدد هذه الـملاحظة، ومع أنّ ملاحظتي على بعض تصريحات هذه العمدة مع ملاحظتي على عبارتك الأولى ليست ناشئة عن «خشيتي» من نهج عميد الثقافة والفنون الـجميلة ونهجك، فلا بد من ضبط هذا النهج بالـملاحظات والتوجيهات، حرصاً على كمال الـحقيقة واستقامة بنائها ورسوخ أساسها، وعلى شمول الفكر في أساس نهضتنا ووحدة حقيقتها ووحدة غايتها العظمى. وبعد فإني أعرف الرفيق فايز صايغ شخصياً، وقد وجّهته بنفسي لدرس العلوم السياسية والاجتماعية، وأعرف أمانته وإخلاصه، كما أنه لا شك عندي بأمانتك وإخلاصك. ولكي لا يبقى كلامي، عرضة لتأويلات غير متفقة تـماماً مع ما يقصد به، أرى أن أعرض لـما رأيت أن ألاحظ عليه في تصريحات حضرة عميد الثقافة والفنون الـجميلة:
في الصفحة الأولى من العدد الأول من نشرة عمدة الثقافة والفنون الـجميلة، وتـحت عنوان «إلى القارىء» يقول حضرة العميد:
«بقي أن نشير إلى أنّ هذه النشرة - وهي مشروع من مشاريع عمدة الثقافة - تنطبق عليها سياسة العميد الأساسية، تلك السياسة الـمعبّر عنها في بيانه الأساسي الـمصدّر به هذا العدد: وبصورة خاصة فيما يتعلق بالـمفكرين خارج الـحزب... إنّ العمدة يسرّها أن ترحّب بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالتها الثقافية، وتضمن له في نشرتها منبراً حراً للتعبير عن فكره أو فنه.»
هذه التصريحات مدعومة بـما ورد في الفقرة الأولى من باب «مبادىء أساسية في سياسة هذه العمدة» من بيان العميد الأساسي:
«فالعمدة - إخلاصاً منها للمسؤولية الـمطلقة تـجاه القيم العليا، وحرصاً منها على مصلحة الأمة التي تخدمها - لن تسمح باعتبارات خارجة عن نطاق قيم الـحق والـخير والـجمال، أن تتدخل في شؤون إنتاج ثقافي يتوخى التعبير عن الـحق والـخير والـجمال. وستترك هذه القيم تفرض نفسها، وتوجيهها بحريّة.»
في هذا الكلام وهذه التصريحات مواضع للنظر تدعو إلى التدقيق والـملاحظة. وقد علّقت عليها فور قراءتي لها بـما يأتي:
«في هذا الكلام صبغة شخصية فردية قوية لم تأخذ بعين الاعتبار نشأة العمدة ووجود الفكرة الثقافية الأساسية في العقيدة القومية الاجتماعية وشرحها، وهذه النزعة الفردية البارزة تـجعل العمدة مستندة، في الأساس، إلى «بيان العميد الأساسي وسياسته الأساسية» لا إلى الغاية الأساسية من إنشاء «عمدة الثقافة» وإكسابها صفة مؤسسة من مؤسسات الـمنظمة السورية القومية الاجتماعية، الأساسية، وبالنتيجة نرى العمدة تستغني، بـموجب استنادها إلى «سياسة العميد الأساسية الـمعبّر عنها في بيانه الأساسي» عن اعتبار نفسها منفّذة لإرادة الـحزب العليا العامة في الثقافة ومحققة الفكرة الثقافية الـموجودة في تعاليم النهضة ومتكلمة باسم الـحزب في الشؤون الثقافية، وعن الـحاجة إلى ذكر ذلك وإظهار هذه الصفة، خصوصاً في ما يختص بـما هو خارج نطاق الـحزب ومن هم خارجه من مفكرين. بل نرى، علاوة على ذلك، أنّ العميد جعل مسؤولية العمدة الأساسية «الـمطلقة» تـجاه «القيم العليا» وحرصها «على مصلحة الأمة التي تخدمها» بالاستناد إلى «الـمسؤولية الـمطلقة تـجاه القيم العليا»، لا تـجاه العقيدة القومية الاجتماعية ولا تـجاه غاية الـحزب من إنشاء عمدة الثقافة باعتبار أنّ العقيدة القومية وغاية الـمنظمة القومية الاجتماعية تشتملان تصريحاً أو تضميناً على «الـمسؤولية الـمطلقة» تـجاه القيم العليا وباعتبار أنّ سياسة عمدة الثقافة وأهدافها منبثقة من سياسة الـمنظمة العليا وأهدافها الأساسية وجزء من هذه السياسة وهذه الأهداف. فلو أنّ العمدة قالت في فاتـحة نشرتها: «إنّ العمدة يسرّها أن تعلن أنّ الغاية الثقافية للمنظمة القومية الاجتماعية تـجعلها ترحّب باسم هذه الـمنظمة بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالة النهضة القومية الاجتماعية، الثقافية، وتضمن له، الخ.» بدلاً من قولها «إنّ العمدة يسرّها أن ترحّب بكل مفكر مخلص يود أن يشترك في أداء رسالتها الثقافية، الخ.» ولو أنّ العميد قال في «بيانه الأساسي»: «فالعمدة - إخلاصاً منها للإرادة العليا التي أوجدتها، وللتعاليم السامية التي بعثت النهضة القومية الاجتماعية، ولغاية الـمنظمة القومية الاجتماعية من وجودها، وشعوراً منها بالقيم العليا الـمتضمنة في تعاليم نهضتنا وبـمصلحة الأمة التي تقوم الـمنظمة كلها بخدمتها، الخ.» بدلاً من عبارته الأصلية، لكان أقرب إلى الـحقيقة والصواب.»
هذا كان تعليقي الأول وهو ليس كل ما ألاحظه وأريد قوله في صدد هذا «البيان الأساسي» وأسلوبه ونسقه. فقد استوقفت نظري عدة عبارات في البيان الـمذكور منها هذه العبارة: «لن تسمح (العمدة) باعتبارات خارجة عن نطاق قيم الـحق والـخير والـجمال، أن تتدخل في شؤون إنتاج ثقافي يتوخى التعبير عن الـحق والـخير والـجمال!» فما هو الداعي لهذه العبارة ومن أين ينتظر أن يأتي «التدخل في شؤون إنتاج ثقافي» وما هو «نطاق قيم الـحق والـخير والـجمال» الذي تريد العمدة أن تـحميه ببيانها الأساسي وسياسة عميدها، وما هي مقاييس هذه القيم وموازينها؟ هل هي شيء راجع إلى استبداد العميد أم هي مستمدة من تعاليم النهضة وغايتها؟ وإذا كان الوجه الأول هو الصواب، أي أنّ العميد هو مرجع مقاييس الـحق والـخير والـجمال، فما يكون رأي الرفيق فايز صايغ حين يتولى هو مهمة أخرى ويعهد إلى رفيق آخر القيام على عمدة الثقافة ويضع بياناً آخر غير بيانه ويستعمل مقاييس وموازين للحق والـخير والـجمال غير مقاييسه وموازينه؟ وما هي «رسالة عمدة الثقافة» هل هي رسالة خاصة بها أم هي رسالة مقررة من قبل، أُوجدت لها وكلّفت بأدائها؟
إنّ الرفيق فايز صايغ يعود في باب «رسالة شخصية» وفي «مقدمة الرسائل» الـمنشورة في فاتـحة هذا الباب إلى الطريقة الصحيحة التي كان يجب، وبالأوْلى، أن يلزمها في «بيانه الأساسي» الذي يعتبر حجر الزاوية في عمله. وقد وجدت تشابهاً كثيراً، إذا لم أقل متابعة تامة، بين ما أورده الرفيق فايز صايغ في باب «مبادىء أساسية في سياسة عمدة الثقافة، وعبارتك التحفظية أو الاحتياطية في ختام كتابك الأخير، إذ تقول في مقال الطالب القومي الذي نذر نفسه لـخدمة قضية بلاده وخدمة الإنسانية من خلالها: «على أن لا يعني هذا تعصباً على الـحق والـخير والـجمال أينما وجدت، لأسباب تخرج عن نطاقها، ولا قياس الـحق والـخير والـجمال بغير قيمها الـمجرّدة» فما هو الداعي لهذه الاحتياطات والشروط، وكم تنطبق هذه التحفظات على تعليم الـمبدأ السابع من مبادىء نهضتنا القومية الأساسية القائل بتأسيس الاستقلال الروحي للسورييـن واكتشاف عامل النفسية السورية الأصلية الـمستقلة، والداوي بهذه العبارة: «إننا نستمد مثلنا العليا من نفسيتنا ونعلن أنّ في النفسية السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم.» أيـمكن أو يجوز أن نعتقد أنّ تأسيس استقلالنا الروحي وإيجاد مثلنا العليا في نظرتنا القومية الاجتماعية إلى الـحق والـخير والـجمال سيعمياننا عن معرفة الـحق والـخير والـجمال أينما وجدت؟ أيجوز أن نشك في نفسيتنا السورية الأصلية إلى هذا الـحد؟ أيـمكن أن يكون إيـماننا بتعليم نهضتنا بهذا الـمقدار؟ أيجوز أن نعتقد أنّ الـحق والـخير والـجمال تـحتاج إلى تـجرّدنا من نفسيتنا الأصلية ومن نظرتنا إلى الـحياة والكون ومن مثلنا العليا الراسخة في نفوسنا لندركها؟ وأية فائدة لنا من ربح العالم كله وخسارة نفسنا؟ وماذا يبقى من قوميتنا حين نـجرّدها من عناصرها النفسية؟ وماذا تعني بالـحقيقة هذه التعميمات والـمطلقات؟
وأي حق أو خير أو جمال يخشى أن «نتعصب عليه»؟ أهو حق الأرنب في رعاية الكلأ والبقول، أم حق الأسد في افتراس الغزال؟ وإذا وُجدنا، أنا وأنت، في قفر أو برية بعيدة وكنا نتضور جوعاً ومر بنا غزال نافر يتبعه نـمر أو ببر خاطف وكانت معنا بندقية فأي حق هو الـحق الـمطلق، هل حق الغزال في السلامة أم حق السبع في الفريسة أم حقنا نحن في السبع والفريسة معاً؟
إنّ مثل العبارات الاحتياطية التي عرضت لها آنفاً يصح في الشعوب التي رمت بنظرتها إلى الانعزال عن العالم وعن الاشتراك في الاجتهاد والإنتاج والإبداع الإنسانية العامة، وفي الأمـم التي أغرقت في قوميتها وسلاليتها إلى حد الـجنون. أما نحن فإننا في بداءة وعينا القومي وفي أشد الـحاجة لإدراك شخصيتنا وجمال نفسيتنا الأصلية ولتوليد ثقتنا بنفسنا ولـمعرفة حقنا وفهم خيرنا، ولا خوف علينا من الانعزال لأن خطط نفسيتنا الأصلية ليست في هذا الاتـجاه.
إنّ وعينا لقوميتنا ونفسيتنا الأصلية وتولّد نظرتنا إلى الـحياة والكون والفن وحصول مثلنا العليا السامية الـجميلة هي خير ضامن لقيم الـحق والـخير والـجمال الـمطلقة والـمقيدة والـمجرّدة والـمصاحبة.
إني رأيت متابعة بحث هذه النقطة خلافاً لقولك في كتابك الأخير: «كما أنّ بحث هذه النقطة الآن لم يعد له أهمية أولى بعد تـمام الاتصال الـمباشر وانتهاء مهمتي كمفوض اتصال»، لأني أرى علاقة هذه النقطة ببناء نفسك وزيادة وعيك القومي الاجتماعي أكثر مـما هي بالـمهمة التي كنت منتدباً لها. وهذه كانت طريقتي في تأسيس النهضة: بناء النفوس الـمؤهلة في العقيدة والنظام. ولـمّا كان العمل في بدئه إفرادياً ولا يزال قسم كبير منه إفرادياً حتى الآن، فإني كنت أُعنى كل العناية بتثقيف الأفراد الـمؤهليـن لكي تـحصل وحدة النظر والاتـجاه وكمال الوعي والفهم اللذين هما أساس كل تعاون مفلح.
أقف عند هذا الـحد في التعليق على ملاحظاتي وجوابك لأتناول بكلمة موجزة رأياً آخر من آراء إخراج الـحزب من «تـحجره الأكاديـمي» ووضع نهج جديد له:
وردني مؤخراً كتاب من الرفيق أسد الأشقر من مصر يخبرني فيه عن أغلاط العمل التي وجدها في الـحزب وسعيه لإصلاحها، وأنه قال للمجلس الأعلى: «إنّ القومية السورية تكاد تـمسي عند القومييـن وثناً يعبدونه ونحن لسنا عبّاد أوثان بل رجال إصلاح.» وفيه يقول تـحت باب «الـحزب السوري القومي والعالم العربي»:
«عندما أرجع بفكري أدراج الـمراحل التي قطعها الـحزب وأفترض: لو كان الزعيم أسس في لبنان سنة 1932 «حزب الإصلاح اللبناني» وفي سورية «حزب الإصلاح السوري» وسيّر الـحزبيـن في انسجام واتـجاه متوافقيـن ماذا كان حدث؟ أجيب نفسي: كان الزعيم اليوم زعيم لبنان بدون منازع، وكان الزعيم اليوم موجّه السياسة العربية العامة في «جامعة الدول العربية». إنّ الزعيم كان على صواب علمياً وعقائدياً وفلسفياً ولكنه لم يكن ناجحاً سياسياً وإذاعياً.»
سوف لا أجيب الرفيق الأشقر في آرائه لأني لا أريد صرف أوقات طويلة في مجادلة آراء كثيرة، ولولا ما قصدته من كلامي إليك لـما كنت توسعت كل هذا التوسع.
وختاماً لهذا البحث الـمختصر أقول إنّ رأيك في الانتقال من التشديد العقائدي إلى التشديد السياسي هو صحيح إلى حد ويقرب هذا الرأي من كمال الصحة إذ تقول:
«...ومنها ما هو داخلي يرجع إلى أنّ بعض الأعضاء قد أساء تقدير التشديد على العقيدة» فتحجر «في تفكيره السياسي»، ورأيي في هذه الـمسألة هو:
إنّ خطط الـحزب السوري القومي الاجتماعي، كما هي في فكر الزعيم وتخطيطه وتوجيهه وعمله، لم ترمِ قط إلى إنشاء كتلة عقائدية متحجرة، بل إلى منظمة عقائدية تفعل إدارة وسياسة وحرباً لتحقيق غايته. ودستور الـحزب وتشكيلاته كلها تدل على اتـجاهه العملي مع تأميـن أساسه العقائدي. ولكن تطبيق هذا التخطيط لم يكن مـمكناً بـمجرّد إرادة الـمؤسس الـمخطط، بل كان متوقفاً على تطور الـحركة نحو تهيئة أسباب التطبيق. وهذه التهيئة كانت تقتضي عدة شروط:
1 - إكتمال مرحلة التأسيس والنمو التي هي مرحلة إرساخ العقيدة واكتساب العناصر الفاعلة على أساسها، وهو أمر لا يـمكن تعيينه بـمرسوم أو قانون من حيث مدته وعدّته.
2 - حصول عدد كاف من الأعضاء الـمتنوعي الـمواهب للقيام بالأعمال الـمتنوعة التي يقتضيها التخطيط الـمذكور.
3 - حصول ظروف سياسية مؤاتية.
وكانت مرحلة التأسيس صعبة جداً. فيجب أن لا نرى الـمدة التي مرت في هذه الـمرحلة أطول مـما هي في الـحقيقة. فإنّ أحزاباً عقائدية نشأت في أمـم كبيرة، لها وعي قومي سابق، وثقافة حية، استغرقت مثل مدة حزبنا وأطول منها. وما اعترض عمل حزبنا من اصطدامات مع القوة الأجنبية الـمحتلة وفزاعاتها وتـماثيلها وألاعيبها من الـمواطنيـن - تلك الاصطدامات الـمتكررة - قطعت على الـحزب تطوره الطبيعي وتطبيق تخطيطه. وقد أقصت هذه الاصطدامات الزعيم عن الـحزب في أشد أوقات الـحاجة إلى وجوده. وبعد انتهاء الاعتقالات الثالثة ببضعة أشهر احتاج الزعيم إلى السفر إلى الـمغترب، ويبلغ بعده الآن عن أعمال الـحزب الرئيسية مدة نحو ثمان سنوات. وفيما يختص بالشرط الثاني نـجد أنّ الـحزب كان يفتقر إلى عدد من الأشخاص مؤهليـن ومخلصيـن، وقد تعرّض بسبب افتقاره هذا إلى اختبارات مرة ومحزنة.
وكان السبب في غالب هذه الاختبارات: ضعف العقيدة، وعدم رسوخ التعاليم الـمناقبية، وضعف الأخلاق. ويـمكننا أن نذكر حوادث مؤامرة الـخائن شارل سعد الذي كان منفّذاً عاماً لـمنفذية بيروت، وإساءة تصرّف فؤاد يعقوب مفرج بـمشروع إنشاء «الشركة السورية التجارية» وتلاعبه بالأموال الـمجبية لها، وإساءة تصرّف صلاح لبكي في الـمهمات والوظائف التي انتدب لها حتى أنه حين كان يشغل وظيفة «رئيس الـمكتب السياسي» كان «يلعب على الـحبليـن» لأنه كانت له مآرب نفعية خصوصية.
وتبعه في هذا السبيل إميل خوري الذي عيّـن مدة لعمدة الإذاعة، وتآمر ودسائس جورج حداد الذي شغل الـحزب في عدة قضايا من دسائسه.
وتأخر بعض العناصر الـمخلصة الـمثالية عن التعاون في الـمسؤوليات منهم الرفقاء جورج حكيم، رجا خولي، عفيف فاخوري، [نديـم] مقدسي وغيرهم. فلم يكن بد من انتظار حصول الـجهاز الشخصي لتوزيعه على الأعمال الـمختلفة ليسير العمل باستمرار. ومـما وصفته لي من حالة الإدارة الـمركزية والتحقيق في الـمجلس الأعلى في أعمال الرئيس ثابت هو مثال من حالة الـحزب الشخصية في الدوائر الرئيسية. وكانت الظروف الـماضية دائماً غير مؤاتية فالـملاحقات والسجون والـمحاكمات والإشاعات والأراجيف في هذا الطور لم تسمح للإدارة الـحزبية العليا من القبض على أعنّة الأمور.
ولا تزال مشكلة الـجهاز الشخصي لإدارة الـحزب وسياسته غير محلولة، وفي هذا الظرف يسقط شخص كان مفيداً جداً بإخلاصه وإدراكه هو فخري معلوف. وأنت بعد أن عملت مدة أتيت أميركانية للتخصص العلمي، والرفيق أسد الأشقر سيعمل أعمالاً خصوصية في مصر، والرفيق كريـم عزقول ابتعد بداعي السفر. وقد كنت مسروراً جداً بظهور الرفيق عزقول وظهورك وظهور الرفيق فايز صايغ وحلمي وفوزي معلوف ويوسف صايغ في ميدان العمل.
بعد انتهاء مرحلة التأسيس - إذا كانت قد انتهت - تصبح الـمسألة مسألة أشخاص وظروف وتـحول في التشديد أو تطبيق الـخطط السياسية العملية بأوسع شكل مـمكن.
فتطبيق الـخطط السياسية العملية يحتاج ليس فقط إلى «تـحويل التشديد» بل إلى أشخاص مؤهليـن للأعمال السياسية. والـمواهب السياسية لا يـمكن إحداثها بالـمراسيم أو بتقرير تـحويل النهج من جهة إلى أخرى، وقد رأينا نتيجة قيام العقائدييـن بأعمال سياسية في مثال وفد الـحزب لـمقابلة الـمرحوم الدكتور عبدالرحمن شهبندر، فمع أنّ الـمهمة كانت سياسية بحتة فإنّ أعضاء الوفد حوّلوها إلى جدل عقائدي لا طائل تـحته، مع أنّ محادثة الزعيم الأولى مع الشهبندر في الـمقابلة السرية في الـجرجانية كانت على أساس سياسي بحت.
إنّ من الأشخاص من هم مؤهلون للمسائل العقائدية فقط، وتـحوّلهم إلى السياسية يصيّرهم سياسييـن ولا ينتج أعمالاً سياسية ودبلوماسية باهرة أو مجدية، وإنّ منهم من لا يصلح لغير الإدارة أو النظام أو الـجندية فيجب أن لا نحمّلهم أعباء قضايا لا يحسنون معالـجتها ويـمكن أن يرتكبوا فيها أغلاطاً كبيرة كما حدث في الـماضي. ويجب أن يكون هنالك رجال مؤهلون للمسائل السياسية يكلفون القيام بها. وهؤلاء كانوا قلائل في الـماضي ولا يزالون قلائل الآن. وإكساب الـحزب كله مرونة سياسية من غير تهور في عقائده يحتاج إلى وقت وجهاز شخصي ضابط. وأكتفي الآن بـما تقدم في هذا الصدد.
منفذية أميركانية العامة: فيما يختص بإعادة تنظيم هذه الـمنفذية أطلب أن يكون مرجع ذلك إليّ نظراً لقربي واطلاعي السابق. وبعد إتـمام التنظيم تصبح الـمنفذية، بصورة ذاتية، تابعة لـمكتب عبر الـحدود حسب التنظيم القانوني في جميع ما يختص بأعمالها النظامية العادية والقانونية. لذلك أنتظر نتيجة درسك واقتراحك لإصدار الـمراسيم اللازمة.
عودة الزعيم: حتى الآن لـمّا أباشر تصفية أعمالي التجارية بانتظار الـمعلومات الأخيرة الوثيقة عن إمكانيات عودتي إلى الوطن. فقد طلب الـحزب من الـحكومة إصدار جواز سفر لي للتنقل بحريّة وللعودة إلى الوطن إذا شئت. وقد يكون تغيير الوزارة في لبنان أحدث تأخراً في حصول النتيجة. وبعد رسالة صادرة عن الـمركز في 12 مايو/أيار الـماضي لم أعد أتسلّم شيئاً جديداً، وكان يجب إطلاعي على بعض ما يجري.
يجب وصول الـمعلومات النهائية لأجزم بالـخطة. فقد لا ترغب الـحكومة اللبنانية أو ما فوقها بعودتي وتختلق الأعذار، وقد تريد أن لا أعود إلا بعد انتهاء الـمعركة الانتخابية الـمقبلة في السنة القادمة. فهل يحسن تصفية أعمالي التجارية في هذه الـحالة والـحزب لا يقدر أن يقوم بنفقتي وحفظ كرامتي في هذا الـمهجر الغريب؟
إذا وردتني أخبار إيجابية موافقة فسأبدأ التصفية التي قد تكون سريعة وقد تكون بطيئة بسبب حالة الأرجنتيـن الداخلية الـحاضرة، وأقدّر أنه يـمكن أن تنتهي في آخر السنة الـحاضرة، وطريقة سفري تتقرر حينئذٍ حسب الضرورات الـحزبية، فإما أن أعود رأساً إلى الوطن من أجل الـمعركة الانتخابية الـمقبلة في لبنان، وإما أن أزور الفروع الـحزبية في الأميركتيـن زيارة قصيرة فأبدأ بالبرازيل، ثم بأميركانية والـمكسيك، ومن ثم إلى الشاطىء الذهبي إذا سمح الوقت. والسفر يـمكن أن يكون بالطيارة إذا توفرت النفقة واشتركت فيها الفروع أو بالبحر، وهو بطيء، وعلى نسبة مبلغ مساهمة الفروع الـمادية تتقرر طريقة السفر.
ولست أبغي في تصفية أعمالي التجارية غير تأميـن الأمور التالية:
1 - تسديد حسابات الدائنيـن من التجار.
2 - وفاء قرض ابن حمي.
3 - تـحصيل ما أمكن من ديون لتأميـن الأمرين الأوليـن.
فإذا تعرضت في التصفية لـخسائر كثيرة يبقى عليّ دين صغير لابن حمي يكون عليّ إيفاؤه. وفي حالة زيارتي الفروع يكون سفري وحدي وتبقى عائلتي عند بيت حماتي إلى أن أشير عليها بـموافاتي إلى الوطن، وفي الـمراسلة التالية نبحث هذه الأمور.
لم تعطني خلاصة الـجلسة الأخيرة مع الرفيق الـموقّف فخري معلوف قبل تنفيذ الـمرسوم بإيقافه، فأحب أن أعرف ذلك.
إقبل سلامي القومي ولتحيى سورية.