أيها الرفيق العزيز،
تسلمت كتابك الـمختص بالـمسائل الإدارية والنظامية وسحبت منه سنداً على «الـمصرف السوري اللبناني» بـمبلغ واحد وأربعيـن فاس بالعملة الأرجنتينية تعيدونها إليّ لأنّ الرفقاء لم يقبلوا أن أدفع أنا نفقات النزول في فندق في زيارتي الأخيرة لـخوخوي.
سررت كثيراً لهذه النتيجة من وجهتها الروحية لأنها تنقذ معنويات مديرية خوخوي عموماً، ومعنويات رفقاء تلك الـمديرية أفراداً من التدهور إلى حضيض نظرات واعتبارات لا تليق بنفوس تؤمن بـمبادىء النهضة السورية القومية الاجتماعية وتصبو إلى العمل بتعاليمها السامية. وزاد سروري تسلّم الـمديرية تبرّعي الزهيد بـمساعدة الـحركة في الوطن حيث الـمعركة حامية الوطيس وحيث رفقاؤنا الأبطال الـمجاهدون يتحملون الشدائـد ويعانون الـحـرب وحـرّها الـمصـلاة بلا شفقـة ولا احترام - حيث الـحرب بأنـواعها الـداخليـة والـخارجيـة وألوانها الفكرية والـجسدية قائمة على قدم وساق، نهاجَم ونهاجِم بالأرواح والأجساد، يدخل أبطالنا العظام السجون ويتلقون أحكام الـمحاكم العسكرية بصبر وشجاعة نادري الـمثيل، وتصطدم صفوفنا مع الـجند ومع الأحزاب الرجعية والأحزاب العاملة بإرادات أجنبية في وطننا كالشيوعييـن، فنقتل من الأعداء ويقتل الأعداء منا. إنّ أقلّ ما يـمكن الرفقاء في الـمغترب فعله هو أن يشعروا مع أبطالهم ورفقائهم في الوطن ويتنادوا لنجدتهم بـما أمكن من الـمال والعتاد، وإلا كانوا عديـمي الشعور والوجدان وكانت قوميتهم وعدمها سيان.
ذكرت، أيها الرفيق الكريـم، أنك قرأت كتابي الإداري الأخير «مستفهماً كل ما جاء فيه من الإرشادات والأوامر والتأنيب» ويسرّني أنك اهتممت بتفهّم كل ذلك كما يقضي به واجب الوعي للحقيقة ومعرفة الـمسؤوليات، إذا كنا نريد أن تكون لنا حقيقة وأن تكون علينا مسؤوليات. وأعتقد أنك بعد تفهّمك اقتنعت بأنّ ما ورد في كتابي من «الإرشادات والأوامر والتأنيب» كان واجباً وضرورياً، وخصوصاً التأنيب، لأنّ الـحالة الروحية في مديرية خوخوي ابتدأت تهدد بالتدهور نحو الـحضيض الذي تدهورت إليه مديرية بوينُس آيرس في سنة 1940 ومديرية توكومان ومديرية خونين وغيرها من الـمديريات في هذه البلاد. وقد أحسست ذلك من لـمحات من أحاديث الرفيق صدير ومن كتابات الرفيق يعقوب ناصيف.
إنّ أحاديث جرت في صدد رحلات الزعيم إلى خوخوي، وماذا يفعل بأي مبلغ مالي يتسلمه، وغير ذلك من الكلام الـمستوحى من شعور وأفكار لا قومية، مليئة بالشكوك والظنون السيئة، القاضية على الروحية القومية الصحيحة، التي أقلّ ما ينتظر ويطلب من القومييـن الاجتماعييـن الصحيحي العقيدة أن ينزّهوا على الأقل، مقام زعامتهم منها ويصونوا زعيمهم ومؤسس نهضتهم ومعلم عقيدتهم من أن تلتّ الألسن حرمته وسمعته بها. لأنه إذا كان يجوز أن يُرمى زعيم القومييـن الاجتماعييـن بـمثل هذه الظنون والشكوك فماذا يقال في من هم دونه، وعلى أية روحية يـمكن أن تشاد نهضة قومية اجتماعية سامية؟
إنك أنت، أيها الرفيق، بصفة كونك مدير مديرية خوخوي، أكثر أعضاء تلك الـمديرية مسؤولية عن إجازة جر مثل هذه الأحاديث الانحطاطية والإصغاء إليها أو الاشتراك فيها، وعن معرفة ما تـجرّه هذه الأحاديث السيئة الكريهة من العواقب الوخيمة على روحية البيئة التي تتولد وتنتشر فيها. هكذا ابتدأت الظنون والشكوك والأحاديث السيئة في مديرية توكومان فقضت على روح الثقة والنظام والواجب وعلى الشعور بقداسة النهضة السورية القومية الاجتماعية في تعاليمها ونظامها وحرمة منشئها، وانتهت بتلك الـمديرية إلى العودة، تدهوراً، إلى حضيض اللاقومية الذي كانت قد ارتفعت عنه قليلاً، فمزق فساد النظرات والعادات اللاقومية وحدة صفوفها، وتفرّق أفرادها تفرقاً لا اجتماع بعده. ولو كانوا بشكوكهم وظنونهم السيئة طلبوا الـحق ووجدوه لكان الـحق أبقاهم مجتمعيـن ورفع شأنهم بدلاً من القضاء عليه، ولكنهم طلبوا الباطل الذي تعوّدوه في حياتهم اللاقومية وتعلّموا منه تلك الشكوك والظنون السيئة الفاسدة فأصابهم ما يصيب كل جماعة أخذت بالباطل. فما اجتمعت جماعة على باطل إلا مزقها وأهلكها الباطل الذي اجتمعت عليه.
إنه ليحق لكم أن تشكّوا وتظنوا الظنون بـمن هم من أهل الفساد والظنون، ولكنه عيب كبير وخطة منكرة أن تشكّوا وتظنوا الظنون بـمن هداكم إلى قوميتكم، وجاء يعلّمكم الـحق والعدل والـمناقب السامية والأخلاق الراسخة، برسولكم في القومية الاجتماعية ومحجتكم في اليقيـن بها وقدوتكم في مكارمها ومرجعكم في مسؤولياتكم وفي كل ما أشكل عليكم وحصنكم ومعتصمكم كلما اشتدت عليكم الشدائد.
أود كثيراً أن تنعم النظر في هذه القضايا الـخطيرة وتقدّر خطورتها، وتـحمل من حولك من الرفقاء النابهيـن على إنعام النظر فيها وتقدير خطورتها، وتهيب جللها وخشية عواقبها. إنّ نهضتنا القومية الاجتماعية ليست حادثاً اعتيادياً بسيطاً حتى يجوز أن تبتذل الألسن مقدساتها وحرماتها، كما تبتذل وتلوك الـحوادث الاعتيادية الـمألوفة من عهد الذل والانحطاط والوساوس.
لا تـجعلوا قضيتكم صغيرة لئلا تدلّوا على أنّ نفوسكم صغيرة. لا تنزلوا قيمة نهضتكم ومؤسساتها إلى درك القضايا الصغيرة الـحقيرة التي لا تتعدى نطاق: من يدفع هذا القرش وماذا يفعل الزعيم بهذا «الـمال» ولـماذا التبرعات ومن سيتولى عليها؟ الخ.
إنّ لـحزبكم تاريخه. وهو تاريخ جهاد وبطولة وعظمة وارتفاع نحو الـمثل العليا الـجميلة. وإنّ لزعيمكم سيرة تعليمه وجهاده وبطولته. فلا تـجعلوا للشكوك والظنون سبيلاً إلى تـحقير هذه القيم الأساسية الـجوهرية في نهضتكم القومية الاجتماعية الـمباركة، بل آمنوا وثقوا أنه لو شاء الزعيم نوال مال ووسائل بذخ وترف لنال من ذلك شيئاً كثيراً في الوطن وفي أوروبة وفي الأرجنتيـن. إنّ أموالاً كثيرة ووسائل بذخ وترف ومناصب عالية في الباطل وضعت عند قدمي وأنا في السجن وأنا خارجه وأنا في أوروبة وأنا في بوينُس آيرس الأرجنتيـن، ولو كانت نفسي عالقة بهذه الأمور لكان لي منها كل ما يـمكن أن تشتهيه نفس محب الباطل. عشرات ألوف ومئات ألوف الفاسات الأرجنتينية عرضت عليّ من الـجانبيـن الـمتحاربيـن وأنا في بوينُس آيرس، وكان يـمكن أن أتناول مبالغ جسيمة من الـمال، وأنتم لا تعلمون، وكنت أكون في غنى عن تناول شيء من الأموال الـحزبية لنفقتي، وعن النزول إلى ميدان التجارة لأصون مقامي وأحفظ كياني. وإذا كنت قد تناولت مالاً لنفقتي حين لم أكن تاجراً أفليس ذلك مشروعاً؟ إسأل نفسك هل إذا عرض عليك الزعيم أو أية هيئة حزبية إدارية عليا أن تترك عملك الكسبي وتخصص وقتك لعمل مكتبي أو إداري في الـحزب أيـمكنك أن تقوم به من غير أن يعطيك الـحزب نفقة، إلا إذا كنت غنياً مالياً كبيراً؟
إفحصوا سجلات الدول من ألـمانية إلى إيطالية إلى بريطانية إلى فرنسة إلى روسية إلى اليابان إلى غيرها فإنكم تـجدون قيوداً لأموال كثيرة أنفقت على دعاة وعملاء سورييـن، ولكنكم باطلاً تبحثون عن إسم أنطون سعاده بين أسماء من تسلّموا شيئاً من تلك الأموال. فهل امتنع أنطون سعاده عن تناول شيء من الأموال الأجنبية لأنها لم تعرض عليه، وقد عرضت على من هم دونه بطبقات ومراحل عديدة؟ أم ترك تلك الأموال طمعاً بالـمبالغ الطائلة التي تدرّها عليه فروع الـحزب السوري القومي الاجتماعي الغبية؟
إني أسوق هذا الكلام ليس دفاعاً عن حقيقتي التي أعرفها ويعرفها التاريخ، بل مساعدة لكم لترفّع نفوسكم عن الـمسائل الصغيرة وتطهير مجتمعكم من أدران الفكر اللاقومي الـمنحط الشائنة.
إرفعوا نفوسكم عن الدنايا من كل نوع، وعن جميع الـمسائل الـحقيرة الشائنة، لتكونوا جديرين بنعمة النهضة السورية القومية الاجتماعية وبالـحياة الـمثالية الـجميلة العزيزة التي تؤهلكم لها تعاليمها ومناقبها ونظرتها السامية إلى الـحياة والاجتماع والكون.
إني، من أجل أن أكلّمكم وأكلّم غيركم من الرفقاء، كلما اقتضى الأمر، بـمثل هذه الصراحة وهذه الشدة، رغبت في الإقدام على العمل التجاري وإعادة استقلالي الـمالي والاقتصادي إليّ. فلو كنت لا أزال أتناول أموالاً حزبية منكم ومن الفروع الأخرى لنفقتي الـخاصة لتبدّى لكثيرين من ضعفاء النفوس أني أتكلم طمعاً في ما يردني من الأموال الـحزبية، فكنت أتـجنب ذلك ما أمكن حتى ضعفت سلطة الزعيم عند غالب أعضاء الـحزب في الأرجنتين، وهانت كلمته واستبيحت حرمته، وأجاز أكثر الأعضاء لأنفسهم أن يتناولوا جميع خصوصيات الزعيم، كأن يبحثوا في هل يجوز للزعيم أن يتزوج، وكم من الوقت يجوز أن يصرف مع عائلته، كأنّ الزعيم شيء مستأجر منهم استئجاراً أو مباعاً لهم بيع العبيد.
قد يكون كبر عليك، أيها الرفيق، تأنيب الزعيم فعزمت على الاستعفاء من وظيفة الـمدير، فلا بأس أن تشعر بألم التأنيب إلى هذا الـحد بشرط أن يدفعك ذلك إلى الشعور بألم الإهانة لـخرق حرمة الزعيم بـمثل الأحاديث السخيفة التي ذكرتها لك آنفاً والتي يجب أن ينزّه شخصه عنها كل التنزيه، فلا يؤتى على ذكره إلا بـما يليق بعلو منزلته وسمو رسالته وما يجدر بعظم جهاده وكبر تضحيته وقداسة آلامه في سبيل أمته وتعاليمه.
إني لا أقبل الآن استعفاءك. بل أطلب منك التشمير عن ساعد الـجد لضبط أحوال مديرية خوخوي ورفع معنوياتها. وإذا رأيت في الـمستقبل أنّ كثرة أسفارك تـحرمك من تعهّد الـمديرية بالعناية اللازمة لتعزيز شأنها وتقوية فاعليتها وجعلها مورداً من موارد القوة الـمعنوية والـمادية للحركة السورية القومية الاجتماعية في الأرجنتيـن بوجه عام، فحينئذٍ يـمكن النظر في استعفائك وفي من يحسن أن يخلفك على الإدارة.
أما الآن فإني، نظراً للروحية النظامية الـجيدة التي ظهرت منك ومن بقية الرفقاء بعد اطّلاعكم على كتابي الإداري الأخير إلى الـمديرية، أطلعكم على ما كتمته عنكم إلى الآن من ورود أخبار من الوطن بعدة طرق تصف امتداد حركتنا القومية الاجتماعية ونـموها وتعاظم شأنها في جميع الـمناطق، في لبنان والشام وفلسطيـن وشرق الأردن وجبل الدروز، وفي جميع الـمدن والقرى والدساكر. ويسرّني أن أخبرك وجميع الرفقاء الـمخلصيـن في خوخوي أني تسلمت أمس أحسن معايدة وردتني، وإن لم يكن مقصوداً منها الـمعايدة، ألا وهي أول رسالة واردة إليّ بالبريد الـجوي من مركز الـحزب الإداري في الوطن. وقد يكون حسناً أن أنقل إليكم هذه العبارة الواردة فيه:
«قدّمت لكم في الرسالة الأولى (هذه الرسالة لا أزال أترقب وصولها) تـحية رجال النهضة القومية الذين تغلّبوا على مصاعب السجن والتشريد والاعتقال بفضل الـمناقب السامية التي غرستموها فينا. ثم أنبأتكم عن وصول الزوبعة (هي نسخ من آخر عدد صدر من الزوبعة كنت أوعزت إلى بعض الرفقاء في بوينُس آيرس بإرسالها إلى عدة عنوانات في الوطن)، كما أننا استطعنا أن نصدر جريدة جديدة صدى النهضة ستصل أعدادها في البريد.» وفي كتاب إليّ من البرازيل أنّ أحد أعضاء السفارة اللبنانية صرّح بأنّ «انتصار النهضة القومية حقيقة راهنة.» ولا تسل، أيها الرفيق، كيف أمكن إصدار صدى النهضة. إنه صار مـمكناً بالـمساهمة. فقد أصدرت إدارة الـحزب عدة أسهم وجعلت ثمن السهم في الوطن 25 ليرة سورية، وفي المغترب 3 ليرات استرلينية. وقد وردني من منفذية الشاطىء الذهبي في أفريقية الغربية أنها تسلمت 250 قسيمة أو سهماً نفدت كلها، وأنه يطلب منها ثلاث مئة قسيمة أخرى. وعدد أعضاء منفذية الشاطىء الذهبي لا يتجاوز الآن الثمانين!
وإني أجيز للرفيق يعقوب ناصيف إطلاعكم في أول اجتماع على فقرات أول كتاب تسلمته من الشاطىء الذهبي وقد نقلتها في كتاب إليه.
فبادروا أيها الرفقاء إلى مساعدة حركتكم العظيمة بسرعة. فاجمعوا ما أمكن من التبرعات واستعدوا للمساهمة في صدى النهضة وللاشتراك فيها حالـما تصل أوّل أعدادها.
أما ما تطلب مني من عنوان «دار النهضة» فليس عندي غير ما وقفت عليه في مطبوعاتها، فليس فيها إسم شارع معيّـن، والظاهر أنه يكفي أن يُكتب «دار النهضة للطباعة والنشر - بيروت» أو «دار النهضة للطباعة والنشر، بواسطة مطابع صادر ريحاني، بيروت، الـجمهورية اللبنانية»، وأعتقد أنه صار مـمكناً الآن توجيه رسائل إلى جريدة صدى النهضة بيروت بطلب أسهم وأعداد الـجريدة ولتقديـم الاشتراكات، وفي الأخير أبلغك شعوري العميق بالبرقية التي أرسلتها إليّ تهنئة بـميلادي وتيمناً بنجاح حركتنا، واقبل شكري وسلامي القومي.
ولا تنسوا فلسطين والإسكندرونة ولتحيى سورية.