(يسرّنا أن ننشر فيما يلي الـمقال الشائق الذي بعث به إلينا أحد أدبائنا الـمجددين، وهو يتناول موضوعاً من أهم الـمواضيع الأدبية العصرية التي تشغل عقول مفكري النهضة التجديدية في سورية ومصر، ويبحث فيه من وجهة جديدة نلفت إليها نظر الأدباء والدارسيـن.)
حضرة محرر الـمجلة الـمحترم
قرأت في عدد ديسمبر/كانون الأول الـماضي من مجلة الهلال الغرّاء النقد القيّم الذي دبّجه يراع الكاتب الـمصري الكبير الدكتور طه حسين في الشاعرين الـمصرييـن الـخالدين حافظ وشوقي، فأعجبت كثيراً بالأمانة التي صوّر لنا بها حياة كل من الشاعرين الـمذكورين ونفسيته وأخلاقه وأدبه وشعره. ثم قرأت في عدد يناير/كانون الثاني من الـمجلة الـمشار إليها رد الأستاذ سامي الـجريديني على الدكتور طه حسيـن، ورأيت أنّ بيـن هذين الأديبيـن نقطة خلاف في وجهة النظر هي من الأهمية بـمكان. ورأيت أنّ البحث في هذه النقطة واجب، لأنها تتعلق بفهمنا الـمثل الأعلى في الـحياة وحقيقة الأدب والشعر. وإذا كنت أميل إلى الانتصار لـما ذهب إليه الدكتور طه حسيـن فليس لأني أريد تأييد أديب كبير قد لا يحتاج إلى تأييد، بل لأني أعتقد أنّ مذهبه أقرب إلى الفكر الصحيح مـما ذهب إليه الأديب الكبير سامي الـجريديني.
والذي دلّني على وجود شقة خلاف عظيمة الـخطر بيـن وجهتي نظر هذين الأديبيـن، هو أنّ الدكتور طه حسيـن نظر إلى الشعر نظره إلى فن متطور قابل الاكتساب الـمعنوي والاستزادة من الثروة النفسية والعقلية بـما يكتسبه الشاعر من بواعث الشعور ومرامي الفكر الـجديدة. وهو ما جعله يأسف لأن شوقي اكتفى من تثقيف نفسه بالاطّلاع السطحي في الأدب الغربي عموماً والأدب الفرنسي خصوصاً، ولذلك قصّر عن الإبداع الذي كانت تؤهله له فطرته الغنية بـمواهبها.
أما الأستاذ سامي الـجريديني فيعتقد أنّ من الواجب علينا: «أن نأخذ الشعر العربي كما وصل إلينا ونكيّفه مع عقليتنـا وبيئتنـا على عصرنا فنعيش ويعيش معنا. وإذا نحن أصحاب أدب عربي كما أنّ التليان أصحاب أدب تلياني والألـمان أصحاب أدب ألـماني.»
ونرى شقة الـخلاف بيـن هاتيـن النظريتيـن تزداد اتساعاً، متى علمنا أنّ الـجريديني نظر في الشعر العربي عامة من حيث هو وحدة، بينما نظر حسيـن في الشعر العربي من حيث هو أجزاء تعمل في كل جزء منه نفسية وعقلية تختلفان عن نفسية وعقلية سائر الأجزاء. فالـجريديني يردّ على حسيـن الذي أراد أن يكون «مؤرخاً للشعر الـمصري الـحديث» من وراء نظرية «الشعر العربي» القديـم، ولذلك نراه يشدد النكير على طه حسيـن لأن هذا كان يود لو أنّ شوقي اتصل بالأدب الغربي أكثر مـما وقف عنده ليتمكن من إكساب الأدب العربي «شعراً مصرياً» جديداً في أسلوبه ومعانيه، يـمثّل نزعة جديدة في الـمثل الأعلى الـمصري.
ولست أدري كيف غاب هذا الـمرمى الـخطير عن الـجريديني الواسع الاطّلاع في الأدب العام. ولست أدري كيف أنه لم يذكر أنّ الأدب الطلياني يستند إلى أصول ليست كلها طليانية وليس معظمها طليانياً. أوَليس دانتي خليفة فرجيل؟ أوَليس فرجيل ناسجاً على منوال هوميروس؟
ولست أدري كيف غاب عنه أنّ الأدب الألـماني ليس شيئاً ألـمانياً صرفاً، وأنه لم يرتقِ إلى مثل أعلى يستحق أن يُنظر إليه بعيـن الإكبار والإعجاب إلا بعد أن كانت أوروبة كلها قد اضطرمت بنهضة البعث الأدبي، وبعد أن اقتبس من شكسبير وهوميروس خططاً جديدة، وبعد أن ابتدأ الفن الطلياني والفلسفة الإغريقية يؤثران عليه.