لا مشاحة في أنّ الأدباء والعلماء السورييـن كانوا السابقيـن إلى إحياء نشاط أمـم الشرق الأدنى بلا استثناء، ولا يزالون العامل الأكبر في النهضات الفكرية الـمنتجة الآخذة في رفع هذه الأمـم إلى الـمراتب التي هي أهل لها بيـن أمـم العالم، ومع ذلك فلم يبقَ من بيـن أمـم الشرق الأدنى إلا أمة واحدة لم تأخذ بنهضة قوية تكفل لها مجاراة من حولها من الأمـم هي الأمة السورية!
إنها لـحقيقة لا تكاد تصدق، ولكن نظرة فاحصة يلقيها الدارس على مجموعنا تكفي للتحقق من صحة ما نزعم، والباحث لا يحتاج لتعرّف الصواب في ما نقوله إلى أكثر من استقراء يتناول ناحية واحدة جامعة لنواحي حياتنا كلها هي ناحية الصحافة. ومن أقوال مؤسس الـمجلة في افتتاحية أول عدد من أعدادها ما يأتي نعيده هنا تثبيتاً لـما فيه:
«صحافة كل أمة مقياس ارتقائها، وصورة أخلاقها ومظهر شعورها وعنوان مجدها، فهي الـمرآة التي ترى بها الأمة نفسها، وتنعكس عنها صورتها، ويتجلى فيها تـمدنها كما هو، لا كما يرسمه الوهم أو يصوّره الـخيال.
«أجل، إنّ الصحافة الشعب مصغراً فهي لسان حاله ومحط رحاله ومعقد آماله ومهبط وحي رجاله.
«والصحافة الأمة أصابها الـجمود فوقفت في طريق الـحياة خاملة ذاهلة تعيش في عصر النور، وهي في ظلمات بعضها فوق بعض وفي عصر الـحرية وهي في قيود الاستعباد وأغلال الرق، وفي عصر العلوم وهي غائصة في بحار الأوهام يفكك التعصب الديني مفاصلها ويقطع التباغض الـجنسي أوصالها وينهك الـخنوع قوّتها ويقتل الذل حياتها، فتطير نفسها شعاعاً ويضمحل بأسها فَرَقاً.
«والصحافة الأمة نشطت من عقالها واستيقظت من خمولها وهبّت من ذهولها، فسارت في سبيل الـحياة سيراً حثيثاً، وجرت في مضمار الأمـم شوطاً بعيداً، فخفقت فوقها أعلام الارتقاء وأظلتها أجنحة الإخاء وتألقت في سمائها كواكب أدبائها وطلعت في شرقها بدور علمائها.»
إذا كانت الصحافة الأمة - وإنها لكذلك لقوم يعقلون - وألقينا نظرة فاحصة على الصحافة السورية وقابلنا بينها وبيـن الصحافة الراقية في ما حولنا وفي ما بَعُدَ عنا، وجدنا الفرق ظاهراً لكل ذي عينيـن، ولا بد لنا هنا من التصريح بأن الـجرائد والـمجلات السورية التي تهتم بتقديـم ما له قيمة حقيقية في حياة الأمة للشعب يكاد لا يكون لها وجود في محيطنا، والقيمة الـحقيقية الضئيلة الـموجودة في بعض صحفنا يتلاشى أثرها أمام الثرثرة الثائرة الـمالئة أعمدة الـجرائد وصفحات الـمجلات كلاماً سداه الأنانية الفردية أو الطائفية ولـحمته الباطل أو ما هو شبيه بالباطل.
عند هذه الدركة وقفت الصحافة السورية إجمالاً حتى اضطر مدير مكتب شركة «اليونيتدبرس» الأميركية عندما زار سورية في جملة الأقطار التي زارها بغية الوقوف على أحوالها الصحافية إلى التصريح بـما مؤداه:
«إنّ الشعب الذي انتظرتُ أن أرى فيه أرقى صحافة في الشرق الأدنى لم أجد فيه صحافة حقيقية قط!»
إنّ الأمة التي تقتصر صحافتها على شَغل عقل الشعب بالـمشاغب السياسية اليومية ليست بالأمة التي تريد أن تـحتفظ بـمكانها ومكانتها بيـن الأمـم الـحية.
والأمة التي لا يتناول أدبها إلا الأسلوب الغيبي والوجهة التقليدية أمة لا تنظر إلى الأمام، بل إلى الوراء. والأمة التي تنظر دائماً وأبداً إلى الوراء تتقدم دائماً وأبداً إلى الوراء!
والأمة التي لا ترى صحافتها الغرض العام ولا تشعر بالـحاجة الضرورية إلى معالـجة قضاياها بالعلم والـمعرفة والعقل، بل تقدم لها الـمواضيع البعيدة عن شؤون حياتها وحاجاتها النفسية والعقلية، أمة تلهو بينما هي تـحترق!
والأمة التي إذا ظهرت فيها صحافة ترمي إلى خدمتها خدمة مخلصة تستند إلى العلم، وإمداد فكرها بغذاء عقلي مفيد ومعالـجة قضاياها الـحيوية بكل ما أوتيته من فهم واطِّلاع فنبذتها وراءها ظهرياً ولم تهتم بالاستفادة مـما تقدمه لها ولم تسهّل لها أسباب النمو لتعمّ منافعها، أمة ضربتها الآلهة بالـجنون أولاً.
الأمة السورية من أقدم أمـم العالم وأول أمة ابتدأت فيها الـمدنية الـحديثة، وهي الأمة التي أعطت أسس الـمدنية للعالم ونقشت اسمها في تاريخ العمران والـحضارة بأحرف من نور، ومرت بها حوادث التاريخ البشري ودروسه منذ نشأ الإنسان خارجاً من العصر الـحجري الأول إلى العصر الـحجري الأخير إلى فجر الـحضارة إلى ابتداء الـحضارة الـحديثة إلى عصر الـمدنية الـحالي.
والـحريّ بأمة هذا قدمها أن تكون راسخة في الـحياة جديرة بـمجاراة الأمـم الـحية في مضمارها، تقدِّر ما مرَّ بها في أدوار التاريخ من عِبرَ حق قدره، وتعرف كيف تستفيد من دروسه البالغة فتترك ما رثَّ وهرىء من تقاليدها الـمزمنة، وتأخذ بـما تراه أفضل لبقائها وأفعل في مقاومة أعدائها، لأن البقاء على القديـم الرث جمود لا يغفل عن وخامة عاقبته إلا الـحيوان غير العاقل أو الأحمق الـجاهل الـمساوي له في الـمنزلة، والأخذ بالأفضل للحياة حياة للإنسان العاقل البصير بشؤون البقاء العارف قدر نفسه الضنيـن بها أن تنزل دركات العار إلى الفناء.
ولكن ذلك أمر لا يستتب إلا بواسطة صحافة راقية رشيدة تضع عِبرَ التاريخ أمام الشعب وتقدّم له أمثلة تفيده في مضمار الـحياة. وهو مضمار لا يُطلب فيه من الأمـم أن تسابق فقط، بل أن تعارك وتنازع أيضاً، وكل ذلك يحتاج إلى معرفة بـمواطن الـخطر وعلم بفنون الـمسابقة والتعارك والوقوف على كل جديد مستحدث. فالعلم قوة والـمعرفة سلاح وعدة.
وليس أدلّ على ذلك من الدرس الأخير الذي ألقته سنـن الـحياة على أمـم العالم أجمع، ألا وهو الـحرب الكبرى، فلم تبقَ بعد الـحرب أمة خاضت غمارها إلا بواسطة الـمعرفة والعلم الـمنتشرين في صحافتها وأدبها، ولم تبرز أمة إلى عالم الوجود بعد أن كانت في عالم الغيب إلا بـما كان لها من تنبه فكري امتلأت به جرائدها ومجلاتها وكتبها.
ولقد كان الـمنتظر أن تخرج الأمة السورية من الـحرب العالـمية إلى مصافّ الأمـم الـحية لـما أنها أمة عريقة في الـمدنية، ولكن النتيجة خيّبت الآمال وبرهنت على أنّ الانتظار لم يكن مبنياً على حقيقة أو علم بحقيقة، فالتنبه الفكري كان معدوماً في جسم الأمة قبل الـحرب ولم تكن الـمناورات السياسية التي انخرط فيها فريق من رجالات سورية في تلك الأثناء سوى غرور كبير يحاول البعض أن يبدّل وشاح الباطل الـمتسربل به بوشاح من الـحق مصطنع، ولكن الواقع أمر لا جدال فيه وحقيقة لا تـحتاج إلى برهان.
وكان الـمنتظر أيضاً أن يترك الدرس القاسي الذي ألقته الـحرب الكبرى على الأمة السورية أثراً في نفسها، فتنفض عنها غبار الـخمول وتسارع إلى تغيير الأساليب القديـمة التي أفسدت حياتها الفكرية وتعمد إلى الاعتماد على نفسها والانتباه إلى علمائها ومفكريها والاهتداء بنور علمهم وهداية تفكيرهم. ولكن ها الصحافة السورية اليوم: إنها قد تضخمت نوعاً، ولكن شتان ما بينها وبيـن الصحافة الراقية في العالم، وما بينها وبيـن ما يجب أن تكون الصحافة ليكون منها نفع للأمة التي تعيش في كنفها. والصحافة السورية أوضح دليل على الفائدة التي نالتها الأمة من درس الـحرب الـمر.
لم تستفد الأمـة السوريـة كثيراً من دروس الـحرب الكبرى، لأن الذكـاء السوري العالي لم يجرّب تغيير الأساليب العتيقـة التي عمل بها زمنـاً طويـلاً إختبر فيه عقمهـا، فما نلاحظه من حركة شبيهة بنهضة فكرية لا يتناول إلا موضوعاً واحداً هو أهون الـمواضيع وأقلّها جدوى في حياة الأمـم، هو الـموضوع السياسي. ونحن إذا وضعنـا السياسـة تـحت نور العلم وجدنا أنها فن كمالي تـحتـاج إليه الأمـة في تسديـد مراميهـا بعد أن يكون غرضهـا قد أصبح واضحـاً وإجماع القلوب عليه أكيداً، ولكن العمل السياسي في زمن تتخبـط فيه الأمـة في ديجور من العقائـد والأنظمـة والـمذاهب أمر يكثر فيه الغرور والتورط، ويزداد الطيـن بلة وتقع الأمة مواقع صعبة، كما هي الـحال في أمتنا التي تراها كريشة في مهب الريح، إن هبت الريح جنوباً مالت إلى الشمال وإن هبت غرباً اندفعت إلى الشرق. وإنّ الأشكال الغريبة الـمتعددة التي لبست هذه الأمة وغيّرت أحوالها عدة مرات في مدة لا تتجاوز العقد الواحد من السنيـن لأعظم دليل على وهن الروابط النفسية والعقلية التي تـجمعها في محيط واحد وتـحت سماء واحدة، وكان من وراء ذلك أن نشأ في العقول مذهب فاسد قال به أحد كبار كتّاب الزمن السالف، هو الطيب الأثر جمـال الديـن الأفغـاني، والـمذهب الـمذكور قوله «قـد اتفق الشرقيون على أن لا يتفقوا!» وهذا القول صحيح متى دلَّ على عرض واقع وحادث زائل، ولكنـه فاسد متى قصـد منه الدلالـة على جوهر ثابت وأصل راسخ.
ولو كان صحيحـاً في كل الأحوال لوجب أن تتقطع الأوصـال وتـموت الآمـال وتبطـل الأقوال والأفعال وتسلّم أمـم الشرق نفسها إلى الأقدار وتقنع بـما يبقيه لها من مرتع ووجار. بيد أنّ التخبـط الذي شمـل الأمـة وزاد وطأتـه استفـزاز الـمستفـزين جعـل الكثيريـن يظنـون أنه مذهب أصلي صحيح ويحتجـون به في عـدم وثوقهم بإمكانيـة نـجـاح مسعى الـمفكرين لـحل أزمتها، وهذه الروح آفة إذا لم تعمد الأمة إلى القضاء عليها لا تلبث أن تقضي هي على الأمة.
تـجاه هذه القضية الـخطيرة التي نرى عظيم أثرها في حياتنا الـجامعة ننظر في أهمية الصحافة وندرك الـمسؤولية الكبرى الـملقاة عليها، فهي مصدر النور الفكري في حياة الأمة، فإن كانت مصدراً صحيحاً هدت أمتها إلى الفلاح، وإن كانت مصدراً فاسداً أفسدت على الأمة جهودها.
ونحن إذا نظرنا في أهمية الصحافة والـمسؤولية العظيمة الـملقاة على عاتقها لم نرَ بداً من النظر في أهمية عناية الأمة بالصحافة والـمسؤولية الـملقاة على طبقتها الـمتنورة في معاضدة الصحف التي وقفت نفسها على خدمة التنوير الفكري خدمة خالصة مجدية، ونبذ الصحف التي لم تتوخَّ من وجودها سوى استثمار الفوضى الفكرية الـمتفشية في كل ناحية، فهي لا تتعرض لرأي شائع مهما كانت الأسباب الدافعة إلى التعرض له ضرورية وحيوية، مخافة تقليل نفع مادي تتوخاه، ولا تشير إلى رأي جديد ليس له عند العامة قيمة أو محل كبير خشية أن تعرّض نفسها لإهمال الـمتحمسيـن الـمندفعيـن وراء معتقداتهم الفاسدة، فيفوتها الغرض الشخصي أو الإقليمي أو الطائفي الذي تكون قد وضعته نصب عينيها.