إننا الآن على أبواب عصر جديد إذا ولـجناها دخلنا عالم النور ورقينا مرتبة الإنسانية الـحقيقية، أقول ذلك وأنا أعني الـمجموع لا الأفراد، وإذا لم نلجها بقينا حيث نحن، وإني أشفق على مجموعنا من نتائج بقائه حيث هو!
ليس كثيراً عليكم أن أضع أمامكم قضية حيوية تتناول مجموعنا كله، لأن حياة الفرد مستمدة من حياة الـمجموع، ولأن الأفكار الصادرة عن الأفراد لا تلبث أن تؤثر في أحوال الـمجموع إذا تناولتها الطبقة الـمتعلمة الـمتنورة. وهذه الـحقيقة تـجعلنا ندرك إدراكاً جلياً حقيقة العلاقة بيـن حياة الأفراد وحياة الـمجموع وأهمية الأفكار في جعل هذه العلاقة شيئاً مفيداً للفرد والـمجموع كليهما، فالتفكير مظهر من مظاهر الـحياة الراقية لأنه العمل الأساسي للعقل البشري.
إنّ قيمة عقل الإنسان تظهر في مقدار تفكيره ونوعه، والدليل على نوع هذه القيمة وأهميتها يظهر من نتائج التفكير الـمتجلية في الـحياة الاجتماعية. ومن معرفتنا حقيقة الـحياة القومية لشعب من الشعوب يـمكننا أن نحكم على مبلغ تفكيره وأن نعيّـن بالضبط الـمحل الذي يحلّه ذلك الشعب من بقية الشعوب. وهذا الـحكم وهذا التعييـن لا يقتصران على وصف الشعب بـمجموعه فقط، بل يتناولان طبقات الشعب وجمعياته والهيئات التي تـمثّله وكل فرد من أفراده، فكل فرد يُعرف في العالم بصفة شعبه لأنه جزء منه وأخلاقه من أخلاقه، ولأن الشعب ليس إلا مجموع أفراده فكما تكون حقيقتهم تكون حقيقته.
تـجاه هذه الـحقيقة نرى أنفسنا مضطرين إلى تخصيص الطبقة الراقية بأكبر قسم من الـمسؤولية في تقرير الـحياة القومية، لأنها عقل الشعب وقوّته التفكيرية. فعنها يجب أن تصدر الأفكار النيرة والآراء الصائبة، ومنها يجب أن تخرج الـمبادىء الصحيحة التي هي مصدر صحة الـحياة القومية. فإذا قامت الطبقة الـمتنورة بواجبها من تسديد مرامي شعبها وإعداد طرق حياته، كانت الـحياة القومية صحيحة وكان مطلب الأمة الأعلى جميلاً ذا قيمة عقلية عالية. الصحة البدنية جمال للبدن، والصحة العقلية جمال للنفس، وصحة الـحياة القومية وجمال الـمطلب الأعلى يدلان على صحة حياة الأفراد الداخلية وجمال نفوسهم.
إنّ صحة حياة الأفراد وجمال نفوسهم يظهران في أعمالهم اليومية وعلى وجوههم قبل أن يبدو أثرهما في حياة شعوبهم. ولـمّا كانت الشعوب يقسم كل منها إلى طبقتيـن: طبقة متنورة وطبقة قابلة للتنوير، فإن صحة حياة الـمتنورين وجمال نفوسهم يجب أن ينعكسا على بقية الشعب ليكسباه كله هاتيـن الصفتيـن. أما إذا لم تكن حياة الـمتنورين صحيحة فقلّما تكون حياة الشعب كذلك. وكل واحد منا يُعْمِلُ فكره قليلاً في هذه الـمسألة يدرك صحة هذه النظرية. وكل من أدرك ذلك وأتيح له أن يسوح في العالم أمكنه الوصول إلى نتائج عظيمة الأهمية في تقرير مراتب الأمـم الاجتماعية بالنسبة إلى فوارق التّنوّر الفكري الـمرتسم على وجوه مجاميعها، الظاهر في أعمالهم وتصرفاتهم العادية. ومن لا يتاح له القيام بسياحة في العالم لاختبار نتائج الفوارق الفكرية في حياة الأمـم يـمكنه أن يقوم بسياحة قصيرة بيـن أفراد الـمجتمع الذي يعيش فيه وهيئاته الاجتماعية، لأن ما ينطبق، في مثل هذه القضية، على الأفراد والهيئات الاجتماعية ينطبق على الأمـم أيضاً.
ولكي أقرِّب نتيجة الفوارق الـمهمة بيـن الأفراد، وبيـن الأمـم، ألفت نظركم إلى اختلاف الـموقفيـن اللذين يقفهما كل من الإنسان الصحيح الـحياة الـجميل النفس، والإنسان السقيم الـحياة القبيح النفس. إنّ هذين الإنسانيـن إذا التقيا على طريق الـحياة أدرك كل منهما أنه يختلف عن الآخر كل الاختلاف. فالواحد منهما تبدو عليه سيماء النشاط والذكاء والـمروءة والآخر تظهر عليه دلائل الـخمول والكسل والذل. الأول سليم الطويّة، صافي النفس، صريح القول حرّ الفعل؛ والثاني خبيث القلب، مشوب النفس، مخاتل في القول، مستعبد في الفعل. وكل واحد منكم يـمكنه أن يقدِّر في نفسه نتيجة احتكاك هذين الشخصيـن حيـن تـجمعهما التقادير في مكان واحد، فالأول يشفق على الثاني ثم هو لا يلبث أن يزدريه ويشيح بوجهه عنه، والثاني يحسد الأول ثم لا يلبث أن يحقد عليه. وهذه النتيجة، التي تـحكم بسمو الأول وانحطاط الثاني، هي حق وعدل، ولكن الاختبار قد أظهر لنا أنّ مِن الناس مَن قد بلغ بهم الفساد حداً يعكسون معه الآية.
نأخذ مثلاً إنساناً شريفاً دخل مخزن إنسان غير شريف فاشترى حاجته بدون أن يساوم البائع على الثمن، وكان البائع قد طلب منه ضعفي القيمة الـحقيقية التي تكفل له ربحاً معتدلاً، فلما خرج الشاري من الـمخزن ضحك البائع سروراً وقصّ هذه الواقعة على جارٍ له وحكم الاثنان على الشاري بقلّة العقل، لأنه لم يكن خبيث النفس ليتصور الـخبث في مواطنه، تاجراً كان أو غير تاجر، أو بالـحري لأنه لم يكن ينتظر أن تبلغ الـحماقة ببعض مواطنيه حداً يقدمون عنده على إفساد الـحياة الاجتماعية والقومية بالغش، حتى يصبح أبناء الأمة الواحدة أعداء يضعون العقبات بعضهم في طريق بعض بدلاً من أن يكونوا إخواناً يشعرون برابطة الأخوّة التي تـجعلهم يخلصون النية بعضهم لبعض ويتعاونون على التغلب على صعوبات الـحياة، فضلاً عن الطامعيـن بهم.
إنّ الاختبار يضطرني إلى الاعتراف بنقص هذا الـمثل الذي ضربته من حيث إحداث التأثير الـمطلوب، فهو مثل عادي وإن كان خطير الشأن وعظيم الأثر في الـحياة الاجتماعية. إنّ في الـحياة أمثلة أبعد أثراً في النفوس وأعظم خطراً على الهيئة الاجتماعية، فبعض الناس لا يكفيهم أن يغشوا مواطنيهم وغير مواطنيهم في جيوبهم ومادياتهم، بل يجدون لذة فائقة في غشهم في نفوسهم ومعنوياتهم. وكم مرة في اليوم الواحد نسمع بحوادث الـخداع التي يقوم بها عدد غير قليل من الناس، مفتخرين بخبثهم وفساد طويتهم، مسرورين بـما يسببونه لغيرهم من العذاب، فيقضي هؤلاء الـخبثاء على معنويات الأشخاص الـحامليـن في قلوبهم مطالب عليا مرتكزة على أخلاق صحيحة ومبادىء خالصة ومحبة مخلصة، وهذا يعني القضاء على أمل الـمجموع بحياة صحيحة، هنيئة، راقية بأفكارها، راقية بأعمالها، راقية بلذاتها. وكما أنّ الفرد الفاسد، الـخامل الذي يلتذ بالإساءة إلى إخوانه في الهيئة الاجتماعية، جدير بالاحتقار لـحقارة نفسه، كذلك الأمة الفاسدة، الـخاملة، التي تسمم أكثريتها الـخبيثة أقليّتها السليمة النفس.
أيها السادة،
إذا درسنا نواحي حياتنا القومية وأعملنا فكرنا جيداً في بعض شؤوننا العامة، وجدنا أنّ حياتنا إجمالاً ترتكز على شيئيـن أساسييـن نراهما بأعيننا في مظاهرنا ونسمعهما بآذاننا في أحاديثنا، هما: التقليد القديـم والتقليد الـجديد. وتـحت هذين الأساسيـن من الفساد وأسباب الفساد ما ليس بالشيء اليسير. أما الفساد فلا يحتاج إلى برهان سوى الواقع الذي يـمدنا كل يوم بأمثلة وخّازة من مثل ما أشرت إليه ومـما يفوقه أهمية. وأما الأسباب فهي معقدة نوعاً لأن منها ما تغيب أصوله في الأعصر القديـمة جداً، وفيه عوامل الـمعتقدات الدينية والتقاليد الـمتوارثة، ومنها ما هو حادث، وفيه يدخل الاقتباس الـجديد الفجائي الذي لا أثر فيه للاستقلال الفكري والإرادة الـمقصودة.
في الـمحاضرة التي ألقيتها في شهر ديسمبر/كانون الأول الـماضي في حفلة جمعية «العروة الوثقى» في الـجامعة الأميركية قلت «إنّ أولى منافع الدين كانت خدمة الشعوب وإنقاذ مطالبها العليا من التلف وإنعاش معنوياتها» (ص 386 أعلاه)، ولكننا نرى الآن أنّ الدين قد تـحوّل في سوريانا الصغيرة الـجميلة إلى مجرّد معتقدات ليس لها غرض سوى إقامة الـحواجز الاجتماعية بيـن فئات هيئتنا الاجتماعية الواحدة، حتى إننا نعيش شعوباً ضمن شعب وأمـماً ضمن أمة.
أما التقاليد الـمتوارثة فإذا كنتم لا تقدِّرون عظيم تأثيرها في تكييف حياتنا الاجتماعية فستقدِّرون هذا التأثير متى وجد كل واحد منكم حياته الـخاصة والعامة قد أصبحت على مفترق الطرق. إنّ تأثير هذه التقاليد يترك في حياتنا أثراً يشبه، من وجوهٍ، الأثر الذي كانت تتركه القوالب الـحديدية التي كان الصينيون يضعون أرجل بناتهم فيها، إذ كانت تـمنعها من النمو وتشوه طبيعة الـجسم من أجل أغراض فاسدة من الوجهتيـن الـحياتية والـحيوية، مهما أيّدها الذوق الصيني القديـم. إنّ تقاليدنا الـمتوارثة تـمنع نفسيتنا وعقليتنا من النمو وتشوّه تركيبنا الاجتماعي وتـجعلنا عاجزين عن تـحقيق ما قد نرى فيه مطلباً أعلى جميلاً.
وأما الاقتباس الـجديد الفجائي فظاهرة جديدة تدل على ضعف أخلاقي واضح فينا. والأثر البارز فيها هو الـجبـن النفسي الذي يدفع صاحبه إلى الهرب على غير هدى وبدون تبصر بالعواقب. وهذا الضعف هو، على ما أذهب إليه، نتيجة فساد نظامنا الاجتماعي التقليدي من جهة، وفقدان الـمطلب الاجتماعي الأعلى والهدف القومي الأسمى في حياتنا من جهة أخرى.
ترون، أيها السادة، أني قد خطوت بكم خطوة واسعة نحو التفكير، بطريقة عملية، في شؤون الإصلاح الاجتماعي في حياتنا. وقد يود غيري أن يكتفي بذلك، ولكني أرى أنّ ما ذكرته حتى الآن لم يكن إلا تـمهيداً للمسائل التي تـحتاج إلى التفكير العملي الـحقيقي، لأنها مسائل واقعية عملية عظيمة الـخطورة. وإني أريد أن أطرح بعض هذه الـمسائل عليكم، لكي تشتركوا في حلّها بالتفكير العملي لا بالتفكير النظري، وأقصد بالتفكير العملي التفكير الذي يكون من ورائه قصد وإرادة يدفعان صاحبهما إلى العمل. وهذا النوع من التفكير هو الوحيد الذي يرجى من ورائه عمل نظامي يؤدي إلى تـحقيق الغايات التي يحوم حولها، وإليكم بعض الـمسائل الـمشار إليها:
أ - نرى أنّ الـمعتقدات الدينية، أو بالـحري التقاليد الناشئة عن هذه الـمعتقدات، تقيم حواجز بيـن الـمسيحييـن والـمسلميـن وتـمنع من اشتراكهم إشتراكاً فعلياً في الـحياة القومية. وأريد بالـحياة القومية الـحياة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية للأمة الواحدة. فهل يجب أن نترك هذه الـمسألة جانباً، وهي أهم مسائلنا الاجتماعية التي تعرقل تقدمنا الشعبي وارتقاءنا في سلّم الـحياة، لأننا مسيحيون أو لأننا مسلمون؟
ومن هذا السؤال ترون أني لا أقصد حصر بحثي في ناحية واحدة من نواحي حياتنا الاجتماعية، لأني أعتقد أنّ كل النواحي مترابطة بعضها ببعض، فلا يـمكن حل مسائل إحدى النواحي بدون مسّ سائرها. ويـمكن وضع السؤال الـمتقدم في هذه الصيغة: ألا يـمكن الشبيبة الـمفكرة أن تـجد طريقة لإزالة الـحواجز بيـن أقسام الشعب الواحد لكي يصبح في الإمكان القيام بعمل إصلاحي اجتماعي ينفذ بيـن جميع السورييـن؟
ب - إنّ النظام الاجتماعي العائلي الذي يتمشى عليه مسيحيونا ومسلمونا قائم على مبادىء فاسدة تؤدي إلى قهر النفس، وقهر النفس قد أصبح مرضاً نفسياً فينا يقعدنا عن الـمطالب العليا التي نراها في اليقظة ونتوهم أننا نراها في الـحلم.
نرى من مظاهر هذا النظام الفاسد أنّ الأب يقهر ابنه في بعض رغباته الفنية أو العلمية بدلاً من أن يجتهد في تقويـم ما اعوج منها وتسديد خطواته في السبل الـمؤدية إلى تـحقيقها. ونرى الأب يقهر الأم في كثير من الأمور الـحسنة التي ترغب فيها. ونرى الأب والأم يقهران الإبنة في أعظم رغباتها شأناً في حياتها ويقرران مصيرها تقريراً يسحق عواطفها ويجرّدها من كل إرادة في الـحياة، فتصرف بقية حياتها منكسرة القلب حزينة النفس. قولوا لي، أيها السادة، هل يـمكن هذه الآنسة متى أصبحت أماً أن تغذي أبناءها بروح الثقة بالنفس والاعتماد على النفس وحرية الفكر وحرية التصرف وسائر الفضائل التي بدونها تكون الـحياة عديـمة الـجدوى، عديـمة الارتياح، عديـمة السعادة، عديـمة الـمعنى، اللهم إلا معنى الـخمول والذل والانحطاط والعبودية؟ وهل يـمكن الأطفال الناميـن تـحت ضغط القهر وإذلال النفس أن يخرجوا رجالاً ونساء أحراراً؟
ج - وهوذا ظاهرة ثالثة من ظواهر فساد نظامنا الاجتماعي العام تظهر في وجه هيئتنا الاجتماعية ظهور الـجدري في وجه الإنسان. هوذا الذين نـمت نفوسهم في قوالب حديدية من التقاليد والـمعتقدات يتزعزعون ويسقطون عند أول احتكاك وأول صدمة. إنهم لم يتمكنوا من مقاومة الأهواء لأنهم كانوا عديـمي الإرادة ولم يتمكنوا من اختيار السبيل، لأنهم كانوا فاقدي الـحرية الفكرية، ولم يجرؤوا على الإقدام على الأغراض العالية، لأنهم كانوا مجرّدين من الثقة بالنفس. فلما أتتهم التجارب الـجديدة بزخارفها والتباساتها أسرعوا إلى اقتباس هذه الزخارف والتورط في هذه الالتباسات. وها هم لا منفعة ترجى منهم لقومهم أو لعائلاتهم أو لأنفسهم.
ترون أني أخاطبكم في الأمور التي تـحسون بها يومياً، لأني أعتقد أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة التي تكفل توجيه عنايتنا إلى مسائل عملية وانصباب فكرنا على النقط الـجوهرية في الـحياة التي نحياها.
لقد كان في وسعي أن أكلمكم بغير هذه اللهجة، وأن ألقي على مسامعكم كلاماً يتناول العموميات من الشؤون فقط، وأن أحشوه بطائفة من أسماء العلماء والفلاسفة، ولو كنت أقصد مجرّد وضع نظريات عامة لفعلت، ولكني أريد تـحويل الفكر عن مجرّد الاطّلاع والإلـمام بعموميات القضايا الفكرية التي تبقى فائدتها في عالم النظريات، أما من الوجهة العملية فإنها تستفز روح الشباب استفزازاً عديـم الـجدوى، لأنها لا تعيـّن مسائل خاصة تستدعي استضمام الفكر للبدء بحلّها بالتفكير العملي الذي يقودنا حتماً إلى العمل.
ولو اتسع الوقت لـخاطبتكم في شؤون كثيرة غير ما ذكرت ولكنت توسعت في الناحية الاقتصادية أيضاً، وهي ناحية عظيمة الأهمية في توفير الأسباب التي تؤدي إلى هنائنا العام، ولكني اكتفيت بـما تقدَّم واخترت الابتداء به لأنه هو الأساس الذي يجب أن يقوم عليه مطلب الهناء العام. إنّ الارتباط العام والقرابة العامة والـمحبة العامة هي التي تكوّن مطلباً أعلى عاماً وأساساً حقيقياً للهناء العام، وهي ما هو مطلوب من الطبقة الـمتنورة من الشباب أن يفكروا فيه تفكيراً تتحفز وراءه إرادة العمل التي تـحدو به إلى استنباط الوسائل الآيلة إلى تـحقيقه.
إنها لـمسائل يجب علينا أن نواجهها بجرأة وثقة بالنفس نولّدها من أنفسنا في أنفسنا، لا أن نهرب منها مقتدين بالنعامة التي تزج رأسها في الرمل متى أدركها الصياد، ظانّة أنها إذا لم تره لم يرها.
وثقوا أنّ ما نـجبـن عن مواجهته نحن سيجبـن عن مواجهته الـجيل الآتي بعدنا، لأنه سينظر إلينا ويقتبس كثيراً من الـميراث النفسي الذي نتركه له، كما ننظر نحن إلى الذين تقدّمونا ونقتبس كثيراً من الـميراث النفسي الذي خلّفوه.
وأول ما يجب أن نبدأ به هو أن نحوِّل التفكير النظري، الذي لا يحقق شيئاً بذاته، إلى تفكير عملي يدفعنا إلى العمل على تـحقيق ما نؤمن به ونعتقد بصلاحه.
أكرر القول بوجوب اعتمادنا على التفكير العملي لأن العصر الذي نعيش فيه عصر عمل وتـحقيق مطالب عليا. وقد قلت في محاضرتي التي ألقيتها في حفلة جمعية «العروة الوثقى» أنّ الـمثال الأعلى الظاهر في الـحياة السورية هو «العمل للخير العام في ظل السلام والـحرية» (ص 388 أعلاه) وهو أجمل الـمثل العليا للحياة الإنسانية، ولكن تـحقيقه يحتاج إلى تفكير عملي مجموعي. أقول تفكير عملي مجموعي لأجعل منه ما يقابل التفكير العملي الفردي. والأول يتناول الـمجموع وينعكس على الفرد، والثاني ينحصر في الفرد وقد يؤول إلى أذيته من حيث لا يدري، لأن ما لا يعود على الـمجموع بالـخير لا يعود بالـخير على الأفراد، وإذا ظهر أنّ بعض الأفراد استفادوا منه ففائدتهم إلى حيـن، ثم ينقلب الـخير إلى شر عليهم أو على أبنائهم، وفي حياتنا أمثلة كثيرة على ذلك تظهر لنا كل يوم.
إنّ الذين غشّوا أبناء أمتهم لأجل فائدتهم الفردية لم ينعموا طويلاً بتلك الفائدة، لأن الغش الذي شلَّ حياة مواطنيهم شلّ حياتهم هم أيضاً في الأخير. وإنّ الشلل الذي يصيب الـحياة العامة لا يعفو عن الـحياة الـخاصة.
لقد تعلّمنا فيما مضى أن نهتم كثيراً بحياتنا الفردية وأن نحافظ كثيراً على جلودنا، وكانت نتيجة ذلك أننا أهملنا حياتنا العامة حتى دبّ فيها الفساد وملأها غلاً وغشاً وحقداً وبغضاً وحسـداً ونـميمـة وريـاء، وأصبـح محيطنـا كلـه يعـج بالفساد ويضج. وكان الغرض الذي نضعه نصب أعيننا حيـن نذهب إلى الـمدارس لتعلُّم الطب والهندسة والـمحاماة أن نتعلم فنّاً ننتفع به شخصياً. فجرّب طبيبنا أن ينتفع من العليل، وجرّب مهندسنا أن يستفيد مـمن يعتمد عليه، واجتهد محامينا في الكسب مـمن يولونه أمورهم. ثم أخذ طبيبنا ينفق عن سعة على أغراضه الفردية مهملاً الأغراض القومية، وحذا مهندسنا ومحامينا حذوه. وقد استفاد الطبيب والـمهندس والـمحامي إلى حيـن وتنعّموا إلى زمن قصير، حتى إذا كثر الأنانيون الـمستفيدون على حساب الـمجموع أصيبت الأمة بالشلل ووقع الأنانيون من أطباء ومهندسيـن ومحاميـن وسواهم في حيص بيص، وما أدري ما كانت تكون حالة الأطباء والـمهندسيـن اليوم لولا مشروع مد أنابيب نفط الـموصل والعراق إلى الساحل السوري، وهذا أيضاً إلى حيـن.
لا أبوح بسرّ إذا قلت إنّ أكثر مصائبنا هي من فقدان الهدف الـمجموعي في هيئتنا الاجتماعية. والذي أراه أنّ أقدس واجبات الشبيبة السورية هو أن تـحلّ الـمصلحة العامة محل الـمصلحة الـخاصة، وأن تبتدىء في العمل الإصلاحي الكبير لتنقية حياتنا القومية من الأدران النفسية والصدأ العقلي، فتعود الصحة والنشاط إلينا ويصبح في إمكاننا بذل الـجهود الصادقة لتحقيق مطلبنا الأعلى، وإلا فإننا مهما اجتهدنا في تـحسين أحوالنا الفردية نظل معروفيـن بيـن شعوب العالم بالصفة الـملازمة لنا، وهي صفة الـخمول والأنانية الـخائفة على ذاتها الـمُحِبَّة للأخذ الكارهة للإعطاء. وليس للآخذ كرامة الـمعطي.
تـجـاه هذه القضية الـخطيرة التي بها تقاس نفسيتنا وعقليتنا نشعر بالـحاجة الشديدة إلى التفكير العملي. وقد سمعتم أنه قيل «إنّ الأعمال بالنّيات» أما أنا فأقول «إنّ النّيات بالأعمال».
(1) الـمحاضرة التي ألقاها مـحرر المـجلة في جمعية «الاجتهاد الروحي للشبيبة» في 29 يناير / كانون الثاني الـماضي [1933].