(إنّ لهذه الـمحاضرة التي يرى الـمطالع نصها فيما يلي، رواية طريفة تـمثّل هذا الصراع الصامت الـمحتدم بيـن عصرين: الواحد منهما قد بلغ من الكبر عتياً، والثاني لا يزال في بدء حياته. الأول يتمسك بنظامه الـمحافظ القديـم، والثاني آخذ في إنشاء نظام حر جديد. الواحد منهما قوي يضعف ويتقهقر، والآخر قوّته تتزايد يوماً فيوماً.
أحدهما يقول «أنا دولة الفكر»، والثاني يقول «إنـما دولة الفكر هي الفكر الـحر نفسه». أولهما ينادي «أنا القديـم الذي كان»، وثانيهما يجيبه «إنـما أنا الـجديد الكائن والذي سيكون» - صراع صامت هائل هو صراع موت وحياة.
والـخبر أنّ الـمحرر بُعيْدَ عودته من أميركة منذ نحو سنتيـن ونصف أمَّ دمشق وهناك تعرّف إلى السيد محمد كرد علي رئيس الـمجمع العلمي العربي وهو حينئذٍ وزير معارف الـحكومة السورية الـموقتة. وتـمّ الاتفاق بيـن الاثنيـن في الـمقابلة الأولى على أن يعدّ محرر الـمجلة محاضرة يلقيها في الـمجمع العلمي. فأنشأنا هذه الـمحاضرة، ورغب السيد كرد علي في الاطلاع عليها، قبل تعييـن موعد إلقائها، فقدمناها إليه بواسطة الشيخ عبد القادر الـمغربي الذي اطّلع عليها أولاً ووضع علامات استفهام تـجاه بعض العبارات التي لم يتمكن من فهمها، والقارىء يرى الإشارة إلى ذلك في محله. ومع ذلك فالشيخ الـمغربي لم يرَ فيها ما يعترض مع إلقائها في الـمجمع. ولكن السيد محمد كرد علي أعاد الـمحاضرة وقد علّق عليها بقلم رصاص ما يأتي:
«في هذه الـمحاضرة عدة أماكن وقع فيها إبهام شديد أشير إلى محله والـمحصَّل من مجموعها قليل يحتاج صاحبها إلى درسها ثانية ونزع الأفكار التي يراها في الأتراك وهي مخالفة لـما عليه الـمنطق والواقع.»
لم نأسف لهذا التحكم الصادر من رئيس الـمجمع العلمي العربي ولكننا أسفنا للحقيقة التي وقفنا عليها، وكنا نـجهلها من قبل، وهي: أنّ الـمجمع العلمي العربي معقل «دولة الفكر التحكمية» ضد «دولة الفكر الـحر»، وإنْ كان بيـن أعضائه نفر يدينون بحرّية الفكر وكنا نود أن يحترم السيد محمد كرد علي الـحرية الفكرية ويضعها فوق «منطقه وواقعه» ولكنه أبى إلا أن يصدمها. أما نص الـمحاضرة فكما يلي:)
الأمة التي لا تظهر حيويتها القومية إلا في السياسة
أمة لا تعرف سبل النجاح
إنّ درسنا تاريخ تطور الأمـم الـحية يفيدنا أنّ كيان الأمة يتوقف على حياة الشعب قبل كل شيء آخر، مهما كان ذلك الشيء مهماً. فالشعب الـحي سواءً أكان مؤلفاً من عنصر واحد، أم من عناصر متعددة، مختلفة الأصول يـمكنه أن يكوّن أمة ذات شأن بفضل قابليته للتطور الراقي. فإذا كان مؤلفاً من عناصر متعددة امتزجت عناصره بعضها ببعض وأوجدت قومية مـمتازة بـمزاجها وطبائعها وعاداتها، لها وسائلها الـخاصة بها لاحتلال الـمركز الـمعدّ لها تـحت الشمس، لذلك كانت الـمبادىء الشعبية الـمادة الـحيوية للأمـم، وهي الأسس التي عليها يجب بناء التربية القومية.
إنّ أكثر الذين تكلموا في محيطنا عن القومية والتربية القومية جعلوا همّهم أن يبحثوا الـموضوع من وجهة سياسية بحتة، ولذلك رأيناهم يؤكدون لنا، أنّ الـحرية والاستقلال هما الغرضان الأسميان في حياة الأمـم، والـحقيقة أنّ الـحرية والاستقلال يقصران عن أن يكونا ذينك الغرضيـن.
إنّ أغراض الأمـم السامية هي مطالبها العليا، أما الـحرية والاستقلال، فليسا سوى الوسيلتيـن، اللتين لا غنى للأمـم عنهما لتحقيق تلك الـمطالب. ومتى بطل أن يكون لأمة ما مثلٌ أعلى تريد تـحقيقه، لم تبقَ لها حاجة إلى الـحرية والاستقلال.
يتضح لنا مـما تقدم، أنّ كل مبدأ عام لا يكون الغرض منه خير الشعب وضمان وسائل تقدمه نحو مثله الأعلى يكون عديـم الفائدة، وفي التاريخ شواهد عديدة على ذلك.
على هذه النظرية قامت الروح الشعبية التي دفعت أمـم العالم الـحية إلى الارتقاء الذي هي عليه الآن، وأصبحت الـمحور الذي تدور عليه التربية القومية التي لا تفشل.
والأمـم الـحية التي أثبتت أهليتها للبقاء والاحتفاظ بكيانها القومي، هي التي تـمكنت من تنزيه مبادئها الشعبية عن الـمبادىء الدخيلة عليها، فإن من هذه الـمبادىء ما لو اختلط بالـمبادىء القومية الشعبية لكان وبالاً عليها وعلى الشعوب التي تعمل به. لنبحث الآن في بعض هذه الـمبادىء التي لها دخل في القضية القومية السورية والقضايا القومية القريبة منها كـ «الـمبادىء العنصرية» و«الـمبادىء الدينية»:
الـمبادىء العنصرية
إذا دخلت الـمبادىء العنصرية على الـمبادىء الشعبية لأمة لم تتمكن منها التربية القومية الـمتينة، وكان القصد من دخولها ضم الأمـم التي هي من عنصر واحد في الأصل في قومية واحدة وكيان واحد، اقتضت أن تتنازل تلك الأمة عن مثلها الأعلى وأن تفنى قوميتها في قومية تعمّ الأمـم التي تشترك معها في العنصر. وهذه عملية دقيقة من الطراز الأول قد يفوق خطرها على الأمة الواحدة، خطر تقسيم هذه الأمة إلى أقسام متعددة، لأنه ما دامت الأمـم الـمطلوب توحيدها، لا تشكّل وحدة اجتماعية شعبية، أو وحدة أخلاقية أو وحدة نفسية أو وحدة عقلية، فلا بد في هذه العملية من أن تذهب أمة ضحية لأمة وشعب ضحية لشعب. إذا اتـحدت الأمـم اللاتينية الآن في قومية واحدة، فقد تلتهم إسبانية البرتغال، وقد تلتهم إيطالية إسبانية. وما يقال في الأمـم اللاتينية يقال في غيرها.
ليس من أجل هذه النظرية فقط لا تقدِم الأمـم على التمسك بالـمبدأ العنصري تـمسكاً أعمى، بل لأنها تدرك أنه لا يـمكن القول بأمة خالصة العنصر. ليس في العالم أمة واحدة ليست خليطاً من أكثر من عنصر وعنصرين. لذلك كانت الأمـم الـحكيمة ولا تزال، تقدم على التعاون العنصري لا على الاتـحاد العنصري، متجنبة إثارة مسألة عنصرية في نفس الشعب الواحد تـمزقه تمزيقاً. وفضلاً عن ذلك فلا موجب لهذا الاتـحاد. فالعالم لا يشهد الآن تطاحناً عنصرياً تـجمع فيه العناصر صفوفها ليقوم بعضها على بعض مريداً فناءه، بل يشهد تسابقاً أمـمياً شعوبياً.
إذا أمعنّا النظر في هذه القضية، ووفيناها حقها من الدرس، اتضح لنا أنّ مزج القضايا العنصرية بالقضايا القومية قبل أن تكون الأمـم العنصرية في حالة وحدة اجتماعية شعبية نفسية، عقلية، اقتصادية، الخ. منافٍ لخـير الشعوب، هادم لقومياتها لأنه يفقدها حياتها الـخاصة ومزاياها ومواهبها الـخاصة التي تدفعها نحو مطلب أعلى خاص بها. والشعوب التي تفقد هذه الـخصائص التي هي من مواهبها الطبيعية لا يعود يفيدها شيئاً شأن الدولة والـحرية السياسية ونسبها العنصري(2). والنسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
لا يعني ما تقدم، أنه يجب التخلي عن الـمبدأ العنصري بالـمرّة، لأن التخلي عنه، يضعف مواقف الأمـم التي تنتمي إلى عنصر واحد تـجاه مواقف الأمـم الـمنتمية إلى عناصر أخرى. ولكن ذلك يعني ضرورة التمييز بيـن الـمبدأ العنصري والـمبدأ القومي الشعبي، لكي لا يحدث بينهما تضارب مضرّ بالأمة والعنصر كليهما. إنّ الـمبدأ القومي الشعبي هو الـمبدأ الأساسي الضروري لـحياة الأمـم.
أما الـمبدأ العنصري فهو الـمبدأ الكمالي الذي يجب أن لا تتناوله الأمـم إلا بعد التثبت من رسوخها في الـمبدأ الأولي، بحيث تستطيع الأمة الواحدة الانخراط في قضية تعاون عنصري، بدون أن تعرّض نفسها لفقدان مطلبها الأعلى واستقلالها في مناحي حياتها، أي أنه لا يجوز أن تتضارب الـمصالح العنصرية والـمصالح الشعبية، فإذا حدث شيء من ذلك وجب تقديـم هذه على تلك لأن الشعوب قوام العنصر وليس العنصر قوام الشعوب. إنّ الـمبدأ العنصري يجب أن يخدم الشعوب، لا أن تخدم الشعوب الـمبدأ العنصري، فكل ما يقدِّمه هذا الـمبدأ من وسائل التضامن بيـن الأمـم لتحسيـن شؤونها عموماً هو الـخير، أما قضية التوحيد التي أشرت إليها فنتيجتها تكون، أنّ بعض الأمـم القوية تستأثر بالزعامة والقيادة لتحقيق ما هو أكثر انطباقاً على مطلبها الأعلى ومشيئتها. بناءً عليه أقول: إنّ التربية القومية يجب أن تكون من الشعب، في الشعب، للشعب.
إسمحوا لي أن آتي على وجهة أخرى من وجهات خطر التخلي عن الـمبادىء الشعبية والتمسك بالـميول العنصرية. هي وجهة خطر التواكل، أي الاتكال على الغير، بعكس ما لو كانت الـميول الشعبية هي الغالبة، فإن فيها قوة الثقة بالنفس العجيبة التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الـجبارة، ولها أمثلة باهرة في تاريخ الأمـم، فما من شعب يلجأ في حل قضاياه الـخاصة، كقضية حريته وإثبات وجوده في عداد الشعوب الـحية إلى الاعتماد على قضية عنصره، إلا كان شعباً خاملاً ليس له ثقة بنفسه وبـمزايا طبيعته الـخاصة ولا حياة مثلى يسعى إلى تـحقيقها كما يريد هو، بل كان عالة على عنصره وعلى البشرية.
إنّ الثقة بالنفس كانت ولا تزال وستظل العدة التي لا يقوم شيء في العالم مقامها في حياة الأمـم. إنّ ثقة الشعب بنفسه لا يـمكن أن تقوم مقامها ثقته بعنصره، فإن في العالم الآن شعوباً لها مراكز أولية فيه هي خليط من عناصر شتى. وقد قرأت مرة لكاتب مواطن نقل عن رينان هذه العبارة «إنّ الشعب الوحيد الذي يصح أن يقال عنه إنه خالص العنصر هو الشعب اليهودي، ومع ذلك فاليهود خليط من جميع الأمـم»، وهذا القول الـمبني على درس عميق في تركيب الشعوب يؤيد النظرية الشعبية كل التأييد، وفرنسة وبريطانية والولايات الـمتحدة وسائر الأمـم شواهد حية على ذلك.
لا تتضارب هذه النظريات والـحقائق مع ما هو ثابت من تأثير العنصر في الـمزايا الشعبية بفعل الوراثة، بل هي، على العكس من ذلك، تدل على مبلغ مرونة العنصر ومقدرته على اتخاذ الطبائع والـمزايا التي يقتضيها مختلف أحوال أمـمه، وكلما كانت روح القومية الشعبية في الأمـم قوية كانت برهاناً قاطعاً على جودة العناصر التي تنتمي إليها. وعكس الأسباب يقتضي عكس النتائج.
الـمبادىء الدينية
أعتقد أنّ ما أوردته بشأن الـمبدأ العنصري كافٍ لإيضاح وجهة مضارّه ووجهة فوائده بالنسبة إلى الـمبادىء الشعبية التي يقصد منها خير الشعوب وارتقاؤها. والآن ننتقل إلى البحث في «الـمبادىء الدينية» التي إذا تدخلت في مبادىء الشعب، حيث لا قضية روحية بحتة، كانت خطراً عظيماً على كيانه وعلى معنى وجوده.
إذا درسنا تطور الشعوب في الغرب وجدنا أنّ بلوغها الشأوَ الـحاضر في الـحضارة والعمران لم يتسنَّ لها إلا بعد أن تـمكنت من التغلب على كل ما ليس من الـمبادىء الشعبية، والانتصار على قوة عظيمة كانت دائماً تقاوم الروح الشعبية جهدها وتضغط عليها ضغطاً شديداً، وهذه القوة هي قوة الكنيسة التي كانت تعتمد على الدين لاستخدام الشعوب في مصالـحها الـخاصة. ولقد قبضت هذه القوة، في الـماضي، على أساليب التربية والتهذيب كلها، فكان التهذيب الديني أحد الأسلحة القاطعة التي حاربت تقدُّم الشعوب بتدخلها في شؤونها الدنيوية والـمادية بدلاً من الاهتمام بشؤونها الروحية. ولولا مجيء العرب إلى أوروبة واشتغالهم فيها بالعلوم والفنون لكان الـجهل أبقى الشعوب الأوروبية تـحت رحمة الكنيسة إلى زمن لا ندري أمده.
يجب أن لا يفهم من هذا، أنّ الـمبادىء الشعبية القومية منافية للدين. كلا. ولكن الـمسألة مسألة أمرين يستقل كل منهما بخصائص ومزايا لا يـمكن إدغامها بخصائص ومزايا الآخر بدون أن يؤدي ذلك إلى نتائج سيئة في حياة الشعوب، ولهما وظيفتان متنوعتان وكلاهما يجب أن يكون غرضهما العناية بالشعب وتوفير أسباب نـموّه، ولا يحدث بينهما تضارب إلا إذا تدخل أحدهما في شؤون الآخر تدخلاً يفسد عليه عمله.
الـحقيقة أنّ أولى منافع الدين كانت خدمة الشعوب وإنقاذ مطالبها العليا من التلف وإنعاش معنوياتها، وهكذا نرى أنّ الدين أعاد الأمل والإيـمان إلى الشعب اليهودي وأخرجه من عبودية مصر إلى الـحرية، وهو الذي جعل الشعب السوري يتمسك بـمبادىء السلام مع الـحرية ويقوم بخدمات كبيرة للإنسانية، وهو الذي استفز الشعب العربي إلى نفض غبار الـخمول وإنشاء ذلك الـمجد الباذخ على الكيفية الـمدوّنة في التاريخ. بيد أنه إذا فقد الدين صفته الروحية وأمسى أداة مادية يستغلها أهله استغلالاً في سبيل مصلحة سلطتهم على حساب حرية الشعب ومصالـحه الـحيوية، تـحوّل من نعمة مُنِيت بها الشعوب إلى نقمة شريرة تـجلب عليها الكارثات، وتكون سبباً في انحطاطها فتضعف روحها القومية وتفقد ثقتها بنفسها ويستولي عليها الـخمول وتـمسي مطايا للشعوب الأخرى التي تتمشى على الـمبادىء الشعبية ذاهبة دائماً إلى الأمام - إلى التقدم والفلاح.
يدلنا التاريخ على أنّ الشعوب كانت تضطر، في كل حادث من هذا النوع، إلى إجراء عملية استئصال، لا للدين نفسه، بل للفساد الذي يطرأ عليه، مصيّراً إياه مادة دنيوية - متاعاً للإتـجار والـمضاربة، والـمزاحمة على السلطة والقوة. فلما قويت سلطة الكنيسة الرومانية، إلى حدٍّ سوَّلت لها نفسها عنده تصريف شؤون الشعوب كما تريد، حتى صارت هذه مجرّد قطعان بشرية لا تكاد تفرق عن القطعان البهيمية إلا بخاصة النطق فقط، ساءت أحوال هذه الشعوب إلى حد خطر. حينئذٍ ظهر لوثر الـمصلح الـخالد الأثر، الذي كان إصلاحه الديني إصلاحاً شعبياً من الطراز الأول، إذ بواسطته استعاد الشعب الألـماني حريته النفسية واستقلاله القومي، والعبارة الألـمانية الـمشهورة إلى هذا اليوم القائلة «لوس فن روم» أي «الإفلات من رومة» تدل دلالة واضحة على ذلك. وفي الثورة الفرنسية لتحرير الشعب اضطُرَّ الشعب الفرنسي إلى القيام بجميع أعمال الإرهاب للتخلص من معاكسة إكليرسه الفاسد لـمصالـحه الـحيوية.
()إذا كنتم تريـدون شاهداً أقـرب على النظرية الـمتقدمة، فإنكم تـجدون هـذا الشاهد
في القرون العديدة التي سيطرت في أثنائها الـخلافة التركية على الشعوب الإسلامية. فقد استعمل الأتراك سلطة الـخلافة ضد مصالح الشعوب الـمذكورة، وفي جملتها الشعب السوري، فاضطرت هذه الشعوب إلى الانتقاض على الـخلافة التركية فيما يختص بأمر الـجهاد الديني، الذي أصدره الـخليفة التركي إبّان الـحرب الكبرى لـمصلحة شعبه الـخاص وبلاده والقيام بثورة دموية ضد تركية. ولقد أدرك الأتراك مؤخراً أنّ الـمبادىء الشعبية هي الـمبادىء الوحيدة التي تـمكنهم من التقدم نحو مثلهم الأعلى، فاضطروا إلى إجراء التعديلات التي تعرفون أمرها بحيث بقي الدين سالـماً منزَّهاً عن الأمور الدنيوية، وانفسح الـمجال لنمو الروح الشعبية ونشوء التربية القومية الصحيحة. فعل الأتراك كل ذلك دون أن يكون لأي شعب إسلامي آخر أن يقول إنه أكثر إسلاماً من الشعب التركي. فالإصلاح الذي قام به مصطفى كمال باشا في الإسلام سيكون له نتائج شبيهة بالنتائج التي كانت للإصلاح الذي قام به لوثر في الـمسيحية. وإن كان لم يتخذ شكل الإصلاح الديني العام كهذا.
كما كانت الـجامعة الدينية وبالاً على الشعوب الـمسيحية في الغرب، كذلك كانت الـجامعة الدينية وبالاً على الشعوب الإسلامية في الشرق، فرومة هناك كانت تتصرف بـمقدّرات الشعوب وتصرّف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها الـمختلفة وعقلياتها الـمتنوعة ورغباتها الـمتعددة، متشبثة بـمبدأ فاسد يقول: إنّ الـحياة التي تريدها رومة يجب أن تريدها الشعوب الأخرى، وإنّ ما تراه رومة جيداً يجب أن يكون جيداً للشعوب التي تبسط هي سلطانها عليها. والقسطنطينية هنا كانت تتصرف بـمقدّرات الشعوب التي كانت تبسط سلطانها عليها وتصرّف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها الـمختلفة وعقلياتها الـمتنوعة ورغباتها الـمتعددة، متشبثة بـمبدأ فاسد يقول: إنّ الـحياة التي تريدها القسطنطينية يجب أن تريدها الشعوب الـمذكورة، وإنّ ما تراه القسطنطينية جيداً يجب أن يكون جيداً لها. ولكن كما أفلتت الشعوب الغربية من قبضة رومة لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها، كذلك أفلتت الشعوب الشرقية من قبضة القسطنطينية لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها. والويل للأمـم التي تلتفت إلى ورائها لترى ما حلّ برومة والقسطنطينية فإنه يصيبها ما أصاب امرأة لوط حيـن التفتت إلى ورائها لترى ما حل بسدوم وعمورة!
ترون مـما تقدَّم أنّ مسألة التربية القومية مسألة دقيقة جداً، إذا لم يستوفَ درسها لـمعرفة ما يحيط بها من الـمعاثر والأخطار لم تأتِ بالنتائج الـمطلوبة، وقد تأتي بنتائج معكوسة إذا أهمل أمر دخول الـمبادىء اللاشعبية عليها، فيكون الـخطر كل الـخطر حيث يظن أنّ هناك السلامة كل السلامة. وهذا هو السر في عدم حصول أمتنا على الـمركز الذي تؤهلها له مزاياها ومواهبها السامية. فبينا نحن نرى أنّ تـحرير الشعب الألـماني من ربقة رومة وتنزيه تربيته القومية عن كل ما يعاكس الـمبادىء الشعبية، أدَّيا إلى نشوء روح شعبية قوية فيه كانت باعثاً على النهضة الألـمانية الـحديثة، وإيجاد تلك الثقة العظمى بالشعب التي كان من ورائها ظهور الفلسفات التي تـجعل الشعب الألـماني محور أمل العالم بارتقاء البشرية(3)، حتى أصبح كل ألـماني وألـمانيَّة يعتقدان يقيناً بـمستقبل شعبهما ويؤمنان إيـماناً ببلوغه مناه - وهذا هو سرّ القوة الألـمانية التي ترهبها الشعوب الأخرى - أقول: إنه بينا نحن نرى ذلك، إذا بنا يبلغ من ضعف تربيتنا القومية وإهمالنا أمرها أن تنشأ بيننا اعتقادات غريبة كالاعتقاد بأن الضعف مقدرة.
نأخذ مثلاً القول الشائع بأن للسورييـن مقدرة عظيمة على تقليد الشعوب الأخرى ومجاراتها في أساليبها وطرق تفكيرها، تقليداً ومجاراة لم يكونا لغيرهم من الأمـم. أقول: إنّ هذه الـمقدرة الدالة على بعض مزايا الفهم الـحسنة هي الضعف بعينه، فهي دليل بيـّن على عدم وجود تربية قومية سورية تـحمل الشعب على الاحتفاظ بنفسية وعقلية سوريتيـن صحيحتيـن. فالسوري، أينما وجد، يتبع غيره، فهو في الـجامعة الأميركية، مثلاً، يقلد الأميركان وفي الـمدارس الفرنسية يقلد الفرنسييـن. وقلَّ أن ترى سورياً يسير على طريق خاصة به، وهذا عيب من أكبر عيوبنا القومية.
لقد آن الأوان للضرب بـمثل الاعتقاد الـمتقدم عرض الـحائط، وأن ننشىء لأنفسنا تربية قومية مؤسسة على الـمبادىء الشعبية الصحيحة التي تقوي فينا روح احترام النفس والثقة بالنفس، وأن نوجد لأمتنا مركزاً محترماً بيـن الأمـم القريبة والبعيدة، وأن نحقق نحن بأنفسنا مطلبنا الأعلى الذي نفتخر بأنه يـمثّل مزايانا الـخاصة بكل ما فيها من الروح السليمة والـمدارك العقلية العالية ونـجعله منارنا الـخاص الذي يهدينا إلى ما فيه فائدتنا وفائدة البشرية جمعاء.
إنّ في الـحياة السورية مثلاً أعلى هو العمل للخيـر العـام في ظـل السلام والـحرية.
وإنّ تـحقيق هذا الـمثل واجب مقدس يدعو كل واحد إلى القيام بنصيبه منه. فلنجمع قلوبنا حول مطلبنا الأعلى وحذار من الالتفات إلى الوراء.
الأمة التي تنظر دائماً وأبداً إلى الوراء لا تستطيع السير إلى الأمام وإذا هي سارت فإنها تعثر. فلننظر دائماً إلى مثلنا الأعلى - إلى الأمام!
(1) الـمحاضرة التي ألقاها مـحرر الـمجلة في حفلة جمعية «العروة الوثقى» في الـجامعة الأميركية في شهر ديسمبر/ كانون الأول الـماضي [1932]. ننشرها نقلاً عن مـجلة العروة الوثقى.
(2) تـجاه هذه العبارة وضع الشيخ الـمغربي علامة استفهام وهي من جملة ما قال السيد كرد علي عنه إنّ فيه إبهاماً شديداً.
(3) وهذه الـجملة أيضاً كانت مـما عسر على الشيخ الـمغربي فهمه وتأكد للسيد كرد علي إبهامه!