عاد مفوض الـجمهورية الفرنسية في سورية من رحلته الأخيرة إلى فرنسة. ولم تطل به الإقامة بعد عودته حتى أعلن لنا انتهاء أجل الـحكومة الـموقتة وضرب موعداً للانتخابات شهر يناير/كانون الثاني القادم.
يحملنا الـحدث الـجديد على درس موقف فرنسة من سورية، لنعلم الأساس الـحقيقي الذي يرتكز عليه كل بناء سياسي شيّدته أو ستشيّده فرنسة في ربوعنا، ولكي لا نغتر بـمختلف الصور التي تـمثلها هذه الدولة على مرسح سياستنا في الـخارج كما في الداخل.
إنّ جميع الأدوار التي مرت بالقضية السورية، منذ انكسار السلطنة العثمانية وعقد مؤتـمر الصلح، تبرهن لنا على أنّ فرنسة تشبثت بوجود حقوق تاريخية لها في سورية تـجعلها حامية الـحق في وضع هذه البلاد تـحت حمايتها. ولـما رأت فرنسة أنّ مسألة «الـحقوق التاريخية» مسألة هراء ادَّعت أنّ سورية تطلب حماية فرنسة.
ويعود عهد اهتمام فرنسة بسورية الكاملة إلى ما قبل الـحرب، حيـن كانت السلطنة العثمانية تدعى «الرجل الـمريض» وكانت فرنسة وبريطانية تنتظران دخوله في طور النزاع لتستوليا على تركته. وكانت فرنسة تؤمل أن تنال، على ساحل الـمتوسط الشرقي، قطعة كبيرة من الأرض تـجعلها موازية في الـمركز لندّتها العظيمة بريطانية. ولكي لا يحدث بيـن هاتيـن الدولتيـن الـمتحالفتيـن في الـحرب الكبرى نزاع وصدام من أجل هذه القطعة الـخطيرة وضعت معاهدة سايكس - بيكو الشهيرة سنة 1916. فقررت هذه الـمعاهدة سلخ فلسطين عن سورية وجعل بقية سورية وكل كيليكية من نصيب فرنسة.
فلما وضعت الـحرب أوزارها بعد أن دخلت الولايات الـمتحدة فيها، وجاء ولسن أوروبة حاملاً بنوده الأربعة عشر قاصداً وضع حد تقف عنده سياسة التوسع الإمبراطوري، التي كانت أعظم مظاهر القسم الأخير من القرن الـماضي وسياسة القسم الأول من القرن الـحالي، وجدت فرنسة نفسها تـجاه عقبة كبيرة قائمة في سبيل مطامحها في سورية. فادَّعت في مؤتـمر الصلح أنّ السورييـن يطلبون حمايتها وأيّدت ادعاءها بتقديـمها الأديب السوري الـمتفرنس، شكري غانـم، شاهداً على ما تقول.
وكان شكري غانـم، الذي توفي منذ بضع سنيـن في باريس، على ما أظهره من البراعة في ترجمة رواية عنترة للمرسح الفرنسي، أحد بقايا العقلية العتيقة التي نـمت تـحت تأثير دواعي التعصب الديني وعوامل قتل الـمبادىء الـحرة التي لازمت العهد التركي القديـم. فوضع نفسه تـحت تصرف فرنسة الـمطلق، وألّف في باريس جمعية «الاتـحاد السوري»، وادّعى التكلم باسم مئات الألوف السورييـن الذين يطلبون حماية فرنسة، واتخذه كليمنصو حليفاً له في مؤتـمر الصلح.
كانت فرنسة، في ذلك الوقت، تدَّعي عدم قابلية تـجزئة سورية، مجيبة بهذه الـحجة على الـمناورة الإنكليزية التي أيّدت فيصلاً في الشمال ورمت إلى حصر الـمنطقة الفرنسية في لبنان فقط. ولكنها لـمّا رأت نـجاح قضية استقلال شمال سورية تشبثت بلبنان وصبرت على مضض.
كادت الـمناورة الفرنسية في ادعاء طلب السورييـن حمايتها تنجح لولا الـجهاد العظيم الذي قامت به الأحزاب السورية الـحرة في الـمهجر، وعلى الـخصوص الـحزب الديـموقراطي السوري في الأرجنتيـن. فإن هذه الأحزاب طيّرت البرقيات العديدة إلى ولسن ومؤتـمر الصلح مكذبة ادعاءات غانـم مؤيدة استقلال سورية، فلما فتح كليمنصو محفظته وفيها وثائق شكري غانـم فتح ولسن محفظته وأراه برقيات احتجاج الأحزاب السورية الـحرة فسكت كليمنصو.
كان من وراء التضارب بيـن ما تقوله فرنسة وما تقوله الأحزاب السورية، أنّ الولايات الـمتحدة اقترحت إرسال لـجنة مختلطة تستفتي أهل البلاد في تقرير مصيرهم، فأبت فرنسة الاشتراك في لـجنة من هذا النوع، ورأت بريطانية من مصلحتها أن تكون في جانب فرنسة. واضطرت الولايات الـمتحدة إلى إرسال لـجنة أميركانية بحتة وقفت على آراء السورييـن التي كانت أكثريتها الساحقة في جانب الاستقلال وأمر هذه اللجنة مشهور.