الـحقيقة التي لا مراء فيها أنّ روسية البلشفية قد أصبحت غولاً بالـمعنى الحرفي لا تدري الدول الأوروبية كيف تتقي خطره.
ولقد استفحل خطر روسية الـحمراء استفحالاً لا سبيل معه إلى إهماله. بل هو قد أصبح الشغل الشاغل لـمعظم رجال السياسة الأوروبية والكتّاب السياسييـن، حتى أنك لا تتناول صحيفة أوروبية إلا وترى فيها مقالاً واحداً على الأقل أو خبراً له قيمة الـمقال بشأن روسية وبلاشفتها.
ولا يتناول الـخطر الروسي منحى واحداً من مناحي الـحياة الأوروبية والـحياة العالـمية فحسب، بل أنه ظاهر بوضوح في أهم أسبابها، أي في الاقتصاد والسياسة والاستعداد للحرب.
وإذا حاولنا درس السبب الأول كان لا بد لنا من الإلـماع، في الدرجة الأولى، إلى خطة السنيـن الـخمس التي قام البلاشفة بتنفيذها منذ ثلاث سنوات ونيف. وهي خطة ظاهر فيها الإبداع لم تكد سنتها الثالثة تنتهي حتى شعر العالم بتأثيرها البالغ في اقتصاديات الأمـم الصناعية والتجارية الكبرى، وكانت هذه الأمـم تظن خطة السوفييت الـمشار إليها لعبة لا تقصد بها تلك الدولة أمراً جدياً ولا تبلغ بواسطتها شيئاً جسيماً.
درس البلاشفة خطة السنيـن الـخمس الـمشار إليها درساً وافياً منذ نحو خمس سنيـن، ولـما رأوا التأثير العظيم الذي يـمكن أن يولده تـحقيقها داخل البلاد وخارجها جزموا بتنفيذها حالاً وأعدوا الأهبة لها، حتى إذا تـمَّ لهم ذلك اندفعوا في العمل اندفاعاً يكاد يكون جنونياً. والـمعروف عن الروسييـن أنهم شعب له صبر وجلد عظيمان.
وقد رمى البلاشفة، بالـخطة الـمذكورة، إلى غرضيـن عظيميـن: الأول منهما إيجاد نهضة صناعية داخل البلاد تتمكن من تـجهيز الدولة بالـمعدات والعدد اللازمة لها والتي لا ضمان لسلامة الدولة إلا باستقلالها فيها. والثاني القيام بحملة اقتصادية عظيمة على دول أوروبة الرأسمالية والاستعمارية تقوم مقام الـحملة الـحربية التي لم تنجح في محاولة القيام بها يوم زحفت على بولونية ولـمّا تسمح لها الظروف بالعودة إليها.
والآن، بعد مرور ثلاث سنيـن على ابتداء تنفيذ خطة الـخمس سنيـن، يرى العالم أنّ الرياضييـن البلشفييـن لم يشذوا عن قواعد الـمنطق حين وضعوا جداول حساب الـخطة الـمذكورة، وأنه قد تـحقق منها حتى الآن ما لا يقـلّ عن خمسيـن بالـمئـة، وأنه لن يأتي ختـام السنيـن الـخمس إلا ويكون البلاشفة قد حققوا لا أقلّ من ثمانيـن بالـمئة من ذلك الـمشروع الـخطير.
يعني ما تقدم، في الـحساب الأوروبي، وجود دولة عظيمة الـمساحة، كبيرة الـجيش، كثيرة الـموارد، زائدة الإنتاج، مجهزة تـجهيزاً صناعياً يكفل لها الاعتماد على نفسها في اتخاذ الأهبة لـجيش لـجب ويجعلها بلاداً مصدرة، تزاحم أكثر الدول إنتاجاً بعد أن فاقتها في الـمحاصيل الزراعية. ومتى كانت دولة هذا شأنها معادية للدول الأوروبية على خط مستقيم، كان من البديهي أن تتحول اللعبة التي ظنتها دول أوروبة في بادىء الأمر هزلية مضحكة إلى لعبة جدية خطرة.
تـحاول أوروبة اليوم أن تقابل هذه الـمناورة الروسية الفعلية بـمناورة لها صفة «أدبية». فالأدباء القوميون الأوروبيون يحاولون، بكل ما أوتوه من منطق وحجة، تـحويل أنظار العالم عن استعدادات دولهم للحرب إلى الاستعدادات الروسية، راميـن إلى وضع كل مسؤولية في حرب قريبة لا يشك بقرب وقوعها إلا القليلون، على روسية البلشفية.
فيرى الباحث في اختلافات الدول مكافحة عظيمة تـجري منذ نحو اثنتي عشرة سنة بيـن روسية والدول الأوروبية، باستثناء ألـمانية، وتخصيص فرنسة وبريطانية وإيطالية. والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الدول لعبت دوراً مع روسية يعدّه الروسيون غير شريف، وأنها الدول الأكثر استعماراً. والبلشفيون قد وجهوا عناية خاصة إلى محاربة الاستعمار في الشرق.
فبعد انقضاء الـحرب ظهرت في الدول الـمذكورة رغبة واضحة في عدم حساب شأن روسية حيـن اجتمع مندوبوها ليقتسموا العالم اقتساماً شرعياً في مؤتـمر الصلح. بل يوجد من ينسب إلى بريطانية وفرنسة خصيصاً، السرور والارتياح إلى سقوط روسية في الفوضى البلشفية، بحيث لا تعود إلى مطالبتهما بالقسطنطينية والاشتراك في تسوية شؤون الشرق الأدنى. وقد رأى الروسيون في ذلك نكراناً للجميل الذي صنعته روسية لفرنسة بالقيام بهجوم جنوني على الـحدود الألـمانية، أتى على مئات الألوف من الـجيش الروسي بقصد إضعاف الهجوم الألـماني على باريس، وكان ذلك العامل الأكبر في انتصار الـحلفاء في معركة الـمارن الأولى - لو صح الانتصار. والروسيون، بلشفييـن كانوا أو غير بلشفييـن، لا ينسون هذه الـحقيقة.
تشتد الـمكافحة بيـن روسية والدول الـمذكورة، على طول خط الـمستعمرات، فلا يوجد في طول الشرق وعرضه مستعمرة كبيرة كانت أو صغيرة إلا وللبلاشفة عمال عديدون فيها يتلقون تعليماتهم من موسكو أو من برليـن، وينتهزون الفرص السانحة لتحريض الشعوب الشرقية على مناهضة مستعمري بلدانها، وهم لا يلتمسون ذلك بالـمناشير الشيوعية فقط بل بإثارة النعرات القومية أيضاً. وأعظم مساحات الكفاح الـمذكور الهند والصيـن حيث الأرض مترامية الأطراف والشعب غفير.