نفي الآن بوعدنا للقراء ونعود إلى النظر في المؤتمر البلقاني الثاني والبحث في أهميته السياسية والاقتصادية.
إنعقد المؤتمر المذكور في اليوم العشرين من الشهر المنصرم في الآستانة وحضره نحو مئتي مندوب يمثِّلون الدول البلقانية الست. وقد اهتم العالم السياسي كثيراً لانعقاد هذا المؤتمر، نظراً للدور الكبير الذي تلعبه الدول البلقانية في المصالح الأوروبية الكبرى وفي إبقاء التوازن السياسي في أوروبة أو ترجيح إحدى كفتي ميزانه. ورأت جامعة الأمم أيضاً أن تقف على أعماله، فأرسلت السيد كومنغس لمراقبة تطور الأبحاث والمناقشات التي تدور فيه.
ومع أنّ المسائل الخطيرة التي تهمّ جميع الدول البلقانية كثيرة بقدر ما هي عظيمة الشأن، ومع أنّ المسائل تستدعي حلاً سريعاً لجلاء موقف الدول البلقانية بعضها تجاه بعض، فإن المؤتمر البلقاني الثاني لم يكن ذا صفة رسمية تخوِّله إيجاد الحلول النهائية، واقتصرت صلاحيته على محاولة تقريب وجهات نظر الدول البلقانية بعضها من بعض، وإيجاد تقارب في الأفكار والميول يمكن الدول المذكورة أن تثمّره في سبيل المصلحة المتبادلة.
ومهما يكن من الأمر فلا يمكن القول إنّ المؤتمر البلقاني الثاني كان عديم الجدوى بالمرّة، فهو قد نظر بصفة تمهيدية في أعظم القضايا التي تقلق راحة الدول البلقانية وتبعد عنها الطمأنينة. وجمع من هذه الوجهة معلومات قيِّمة ووقف على الاعتبارات الخاصة والعامة التي تحتفظ بها كل دولة من الدول المشتركة فيه.
وأهم القضايا التي تشغل بال أكثر الدول البلقانية والتي تناولها المؤتمر في أبحاثه قضية الأقليات، وهي قضية نشأت بعد الحرب في البلقان وغيره ويعود الفضل فيها إلى التسوية النهائية التي أقرّها مؤتمر الصلح وسجّلتها معاهدة فرساي.
والدولتان البلقانيتان اللتان تهتمان لقضية الأقليات اهتماماً عظيماً يدل على أهميتها الحيوية لهما هما: بلغارية وألبانية. فتكلم في المؤتمر مندوب ألبانية طالباً النظر في اعتبارات بلاده المتعلقة بما يزيد على مليون ألباني هم الآن أقلية في بلاد الصرب. وتكلم المندوب البلغاري بهذا المعنى في مسألة مئات ألوف البلغاريين الموجودين في مكدونية الصربية ومكدونية الإغريقية «اليونانية».
ولقد حمي وطيس الجدل بين المندوب البلغاري والمندوب الألباني من جهة ومندوب يوغوسلافية من جهة أخرى، وبلغ ذلك حداً خشي عنده على مصير المؤتمر، ولكن مكتب المؤتمر تلافى الأمر بالنظر في هذه القضية وتقرير إحالتها على لجنة خاصة تدرسها وتضع تقريراً وافياً بها.
ومع أنّ مسألة الأقليات المشار إليها مسألة بلقانية بحتة، فقد يلذ للمطّلع الوقوف على الأهمية العظمى التي تعلّقها عليها بعض الدول الأوروبية الكبرى، فإن من الدول الأوروبية الكبرى من تهتم لهذه القضية أكثر من اهتمام الدول البلقانية نفسها، وفي مقدمة هذه الدول إيطالية وفرنسة وروسية في الدرجة الأولى. والمناقشة الحادة التي دارت حول القضية المتقدم ذكرها بين مندوب بلغارية ومندوب ألبانية من جهة ومندوب يوغوسلافية من جهة أخرى لا تقتصر على الخلاف بين هذين الفريقين البلقانيين، بل تتعداه إلى تمثيل تضارب وتصادم المصلحتين الإيطالية والفرنسية. فيوغوسلافية حليفة فرنسة وهي لذلك شوكة في جنب إيطالية، وألبانية حليفة إيطالية وتحت حمايتها الفعلية وكل خلاف يقع بين هذين البلدين يمثّل الخلاف الكبير والعداوة المستحكمة بين فرنسة وإيطالية.
أما قضية بلغارية فهي من القضايا التي تهمّ إيطالية وروسية وتركية.
وقد أشرنا في مقال سابق (ص 270 أعلاه) إلى الأهمية التي تعلّقها روسية على تطور الأحوال البلقانية، وتبيّن لنا الآن أننا لم نكن مخطئين في تقديرها. فما كادت وفود المؤتمر البلقاني الثاني تحط رحالها في أنقرة حتى قَدِم السيد لتفينوف وزير خارجية روسية البلشفية وعقيلته، وقد قال وزير خارجية تركية بصدد زيارة الوزير الروسي ما يأتي: «إننا نُعِدّ وصول السيد لتفينوف إلى أنقرة أكبر حادث سياسي في هذه السنة.»
والظاهر من مجرى الأحوال أنّ تركية تتبع في البلقان سياسة هي على تفاهم مع روسية بشأنها، وذلك مما دعا الجرائد الإيطالية تتساءل ضد من يوجه هذا الحلف البلقاني.
وخلاصة القول إنّ صفة المؤتمر والظروف المحيطة به لم تمكنه من البتّ في قضية هامّة أو مسألة خطيرة، فاقتصرت أعماله على «تقريب الأفكار والميول» في سبيل إيجاد ميثاق بلقاني يضمن السلام في تلك البقعة التي ظلت ردحاً من الزمن مخزن بارود أوروبة المهدد بالانفجار لأول شرارة تصيبه.
أما نحن فنرى أنّ هذه الأمنية لا تزال بعيدة التحقيق لأن العداوات القائمة بين بعض الدول البلقانية لها أصل جوهري يتوقف عليه مستقبل تلك البلدان. أضف إلى ذلك مصالح الدول الأوروبية المتضاربة والدور الكبير الذي تلعبه السياسة البلشفية ودعوتها الواسعة النطاق.
وسنرى ما يكون من المؤتمر البلقاني الثالث الذي سيعقد في السنة القادمة في مدينة بخارست.