أشرنا في عدد سابق (ص 262-263 أعلاه) إلى سقوط وزارة بروننغ الاولى بعد أن استعفى منها السيد كورتيوس وزير خارجيتها وقلنا حينئذٍ إنّ وجود بروننغ على رأس الوزارة يكفل تـمشيها على السياسة التي اختط طريقها السياسي الألـماني الـمتوفى السيد شتريزمن. وذكرنا موقف أحزاب اليميـن من الوزارة الـجديدة التي ألَّفها بروننغ (ص 267-268 أعلاه).
ولقد تقدمت الوزارة الـجديدة ببرنامجها إلى البرلـمان وحازت على الأكثرية التي تـمكِّنها من البقاء. ولكن العالم الـخارجي نظر إلى هذه الأكثرية بعيـن الشك والقلق لأنها أكثرية ضئيلة لا تكفي لتثبيت مركز الوزارة طويلاً.
مع ذلك فالـخطر الذي يخشاه العالم الـخارجي ليس قريباً جداً وإن يكن غير بعيد فالبرلـمان قد تأجل إلى شهر فبراير/شباط من السنة القادمة.
تقف ألـمانية في هذه الفترة، التي تأمن فيها الـحكومة الـحاضرة على سلامتها، بيـن عامليـن بلغا الآن حد التوازن، وفريقين لم يبقَ سبيل إلى التوفيق بينهما، والـمسألة التي تقلق بال العالم الآن ليست مسألة الأشخاص الذين يؤلفون الوزارة، بل مسألة الـمعركة الداخلية الـحامية بيـن الفريقيـن الـمشار إليهما.
وقد رأينا أن نلقي الآن نظرة إجمالية على حقيقة الأحزاب الألـمانية لكي نسهّل للقارىء فهم الـحقيقة الـمتقدمة.
فالأحزاب الألـمانية تختلف في مناهجها عن الأحزاب الفرنسية، وطريقة الانتخابات في ألـمانية تختلف عن طريقة الانتخابات في فرنسة وغيرها من الدول الأوروبية.
وكيفية هذا الاختلاف هي في عدم أهمية الأشخاص والأسماء، وإذا كان الـمطالع يسمع كثيراً بذكر هتلر وهوغنبرغ فذلك لأن هذين الشخصيـن زعيما حزبيـن قوييـن.
الأحزاب الألـمانية منظمة تنظيماً يجعل الشعب لا يهتم كثيراً للأشخاص، فالانتخابات تـجري في ألـمانية بعرض قوائم مرشحي كل حزب على حدة، والـمصوِّت الألـماني يصوِّت للأحزاب وقوائمها لا للأشخاص السياسييـن، وإذا كان بعض الـمصوِّتيـن يفضلون بعض مرشحي الـحزب على البعض الآخر فلهم أن يعربوا عن رغائبهم في الـمفاضلة بيـن الـمرشحيـن الذين يعرضهم الـحزب.
هذا من جهة الترشيح والتصويت. أما من جهة النواب والوزراء فكل منهم يجب أن يكون خاضعاً لـحزبه كل الـخضوع، فلا يأتي عملاً ما إلا إذا كان متفقاً مع برنامج الـحزب الذي ينتمي إليه، أو كان مـما حصل على موافقة الـحزب عليه.
وقد كانت الأحزاب الألـمانية مقسومة إلى ثلاث فرق: يسرى ويـمنى ووسطى، ولكن الـحالة الـحاضرة، التي قلّما رأى الشعب الألـماني مثيلاً لها في السوء، قضت بإزالة الفرقة الوسطى الـمستقلة وانقسام الأمة بيـن فريقي الـميمنة والـميسرة. والفريق الثاني هو الذي تعتمد عليه وزارة بروننغ الـحالية وخطته اتباع سياسة شتريزمن.
أما فريق الـميمنة فهو الفريق الثوري الناقم على الوضع الـحاضر والنظام البرلـماني القائل بوجوب إيجاد إرادة قوية تفتح طريقاً جديداً للأمة الألـمانية، وهو من هذه الوجهة يقول بالفاشستية والدكتاتورية.
وتقول جرائد هذا الفريق إنّ وجود الـحكومة الـحاضرة بالاعتماد على فريق اليسار ليس إلا إلى حيـن، وإنه إذا كانت أكثرية البرلـمان الـحالي تؤيد وزارة بروننغ الثانية، فإن فريق اليميـن سينصرف إلى تـحقيق مطالبه خارج الـمجلس.
إذا تـم لفريق اليميـن ما يريد فإن القضاء على سياسة الـمؤتـمرات والـمساومات يصبح أمراً أكيداً، ويكون مصير التفاهم والتعـاون بيـن فرنسة وألـمانية إلى الفشـل، إلا إذا قبل الفرنسيون بتغيير موقفهم من ألـمانية تغييراً جوهرياً يتناول التعويضات ومسؤولية الـحرب.
ومـما يجدر بنا ذكره هنا أنّ من الأسباب الرئيسية التي استند إليها الـحلفاء في وضع الغرامة الباهظة على ألـمانية إدعاؤهم أنّ ألـمانية الـمسببة الرئيسية للحرب.
وفرنسة لا تريد أن تتنازل عن هذا الادعاء مهما كلّفها الأمر. كما أنها لا ترضى بإحداث إنقاص كبير في التعويضات، لأن إنقاص التعويضات الألـمانية إنقاصاً كبيراً قد يؤدي إلى زعزعة مركز فرنسة الـمالي نظراً لـما عليها من الديون للولايات الـمتحدة. وهي لهذا السبب عينه لا تقبل بفصل قضية ديون الـحرب عن قضية التعويضات.
الـمرجح أن يظل السلام السياسي الداخلي سائداً في ألـمانية إلى فبراير/شباط - وإلى فبراير/شباط فقط.
ولا يدري أحد ما يكون بعد ذلك، لأننا الآن في عصر مفاجآت وانفجارات.