كان دخول الولايات الـمتحدة الـحرب العظمى، خرقاً أكيداً لشريعة منرو الشهيرة القائلة ببقائها على الـحياد في جميع ما يتعلق بالشؤون الأوروبية. ولكن الولايات [الـمتحدة] وجدت مبرراً لذلك الـخرق في اعتداء الغواصات الألـمانية على الباخرة الأميركانية «لوزيتانيا»، حتى إذا وضعت الـحرب أوزارها وجاء ولسن أوروبة حاملاً بنوده الأربعة عشر: شريعة جديدة لإقرار سلام العالم، وكان من أمره في التداخل في شؤون أوروبة خصوصاً وشؤون العالم عموماً ما كان، خشي قسم كبير من الأميركانييـن عاقبة وضع الولايات الـمتحدة تـحت مسؤولية كبيرة تـجاه سياسة أوروبة التي تختلف كثيراً عن روح السياسة الأميركانية، خصوصاً السياسة التي اتّبعها ولسن وأدغم فيها الشرف والأخلاق، وقام هذا القسم بـمعارضة سياسة ولسن وطلب العودة إلى شريعة منرو. فأدى ذلك إلى سقوط ولسن وانسحاب الولايات الـمتحدة من أوروبة. وكان انسحاباً يخالف أمنيات أمم كثيرة كانت ترى في الإبقاء على سياسته تأميناً لها، وفي عداد هذه الأمم سورية.
إحتفظت الولايات الـمتحدة، بعد انسحابها من جمعية الأمـم، بخطة عدم الـمداخلة في الشؤون الأوروبية، التي تنص عليها شريعة منرو، اللهم إلا حيث وجدت مساساً مباشراً بـمصالـحها، وظلت محتفظة بهذه الـخطة إلى هذه الساعة. ولهذا الـموقف الذي اتخذته الولايات الـمتحدة أهمية كبيرة تتعلق بسوء الـحالة السياسية والاقتصادية، فإن اعتزالها شؤون السياسة الأوروبية جعل أوروبة تعود إلى تخبطها السابق ومناوراتها السياسية القديـمة، فضلاً عن أنّ ذلك أدى إلى إبقاء انقسام الـمصالح العالـمية انقساماً لا يعود بالـخير العام.
إنّ من أكبر العوامل التي حدت بحكماء السياسة الأوروبية أن يحاولوا الوصول إلى نوع من الاتـحاد الأوروبي وجود مصالح أميركية مستقلة تزاحم الـمصالح الأوروبية، مزاحمة شديدة لا تستطيع أوروبة التفوق فيها وهي منقسمة على نفسها.
ولو كان الأمر يقتصر على مجرّد الـمزاحمة الاقتصادية لهان مع فداحته، ولكن شؤون العالم الاقتصادية أصبحت اليوم مشتبكة بعضها ببعض اشتباكاً يجعل حالة قسم من العالم يؤثر في حالة قسم آخر مهما بعدت الـمسافة. ومتى كانت الـمسألة مسألة قسم مهم كأوروبة فإن تأثيره يكون عظيماً بالغاً.
كانت الأزمة الاقتصادية الـحاضرة في بدء أمرها أزمة اقتصادية أوروبية وكانت الولايات الـمتحدة تتفرج من بعيد، وأحياناً كانت تتلهى بإرسال بعض خبرائها الـمالييـن والاقتصادييـن للاشتراك في وضع خطط للتعويضات، كخطة داوز وخطة يونغ، وفي سوى ذلك لم يكن لها شأن فعال.
أخيراً ثقل كاهل أوروبة كثيراً فلم تعد ألـمانية قادرة على دفع تعويضات باهظة، بينما الـملاييـن من عمالها العاطليـن يتضورون جوعاً، وامتدت أزمة البطالة في إنكلترة وزاد في طينها بلة قيام الهند بـمقاطعة أثَّرت في صناعتها تأثيراً بالغاً. وفرنسة التي ملأت صناديقها بالذهب لا تدفع فلساً من ديونها للولايات الـمتحدة، إلا مـما يأتيها من التعويضات الألـمانية، فاضطرت الولايات الـمتحدة، تـجاه هذه الـحال، إلى إعلان النسبة الـحالية للديون التي لها على الدول الأوروبية بشرط أن تـمدد الدول الـمذكورة النسيئة إلى التعويضات.
ولكن ظهر أخيراً أنّ نسيئة سنة ليست كل ما تـحتاج إليه أوروبة للتخلص من أزمة عامة آخذة بخناقها، وأنّ بقاء الأحوال الأوروبية على ما هي عليه الآن زيادة التأثير على الولايات الـمتحدة نفسها لا في مسألة الديون فقط بل في مسألة الـمصالح العديدة التي لها في أوروبة، فإن الولايات الـمتحدة تصدّر من مصنوعاتها إلى أوروبة قسماً كبيراً لا يـمكن الاستغناء عنه طويلاً.
تفاوض الولايات الـمتحدة الآن الدول الأوروبية لوضع تسوية عامة لـمسألة ديون الـحرب وتعويضاتها، فزارها مؤخراً رئيس الوزارة الفرنسية، ويزورها الآن وزير خارجية إيطالية، ومخابراتها مع لندن دائمة.
كل ذلك يدل على أنّ شريعة منرو القائلة بعدم الـمداخلة في شؤون أوروبة لم تعد تصلح من الوجهة الاقتصادية، وعما قليل تصبح غير صالـحة من الوجهة السياسية، فهي شريعة أصبحت تـحتاج الآن إلى الإلغاء أو التعديل. وسندرس شريعة منرو بإسهاب أكثر في عدد مقبل.