كان استعفاء وزير خارجية ألـمانية ثم استعفاء الوزارة الألـمانية كلها، بعد زيارة رئيس الوزارة الفرنسية الـمسيو لافال ووزير خارجيتها لبرليـن، من الـحوادث السياسية الـمهمة التي لا يجب أن تبقى من غير درس وتعليق.
فقد ذكرنا في عدد متقدم أنّ حل الأزمة الاقتصادية العامة يتوقف على حل الأزمة السياسية أولاً (ص 259 أعلاه). وما زال حبل السياسة مضطرباً فالأزمة الاقتصادية لا تعرف مستقراً. ومعظم الشؤون السياسية التي تؤثر في وضع أوروبة الـحالي يتوقف على نوع العلاقات السياسية بيـن فرنسة وألـمانية.
وقفت ألـمانية بعد نكبتها في الـحرب بيـن عامليـن تنازعا خطتها السياسية طوال السنيـن التي تلت الـحرب ومازالا يتنازعانها. وهذان العاملان هما: عامل اعتناق الشيوعية والارتباط بروسية البلشفية ارتباطاً نهائياً مكيناً، وعامل البقاء على النظام الرأسمالي ومحاولة إزالة أسباب العداء مع بقية الدول الأوروبية. ولو كانت ألـمانية جزمت باتِّباع العامل الأول في سنة 1920 حيـن كانت الشيوعية تنمو في ظلال الفوضى والاضطراب بعامل الدعوة البلشفية الـمنظمة لكانت غيّرت خريطة أوروبة.
والـحق يدعونا إلى الاعتراف بأن الفضل في إنقاذ النظام الرأسمالي والإبقاء على ديـموقراطية أوروبة يعود إلى ألـمانية التي لم تـحاول انتهاز قيام روسية الـحمراء بحملتها الـحربية على بولونية، من السنة الـمشار إليها للقيام بحملة أخذ الثأر التي كان ينتظرها قسم كبير من الألـمان بفارغ الصبر.
أخيراً ظهر شتريزمن الذي سار بأمته على خطة إزالة سوء التفاهم بينها وبيـن الـحلفاء. ومع أنّ سياسته قوبلت بانتقاد شديد من أندية سياسية خطيرة الشأن في وطنه، فقد نـجح في تنفيذ قسم كبير من خطته واستعاد لبلاده الشيء الكثير مـما كانت قد خسرته. ظل شتريزمن يعمل ليل نهار في سبيل خطته غير مكترث بنصائح أطبائه القلقيـن على صحته إلى أن سقط صريعاً وهو على قنة النجاح.
تغيَّرت العلاقات السياسية بيـن ألـمانية وفرنسة بعد قيام شتريزمن بسياسته الـمذكورة تغيّراً محسوساً. ولم يقتصر هذا التغيُّر على الوقوف عند حد إزالة التضارب في السياسة بل تناول فكرة التقريب بيـن البلادين والاقتراب بهما من خطة تعاون لا راحة لأوروبة بدونها.
وقد قابلت فرنسة سياسة شتريزمن بـموقف ودي اتخذه السياسي الفرنسي الكبير بريان، وقد أدرك أنّ القضاء على ألـمانية قضاء مبرماً ليس في مصلحة فرنسة نفسها.
مع كل ذلك لا بد لنا من الاعتراف بأن نتيجة سياسة شتريزمن وبريان ليست النتيجة الأخيرة الـمطلوبة لإقرار الـحال على أساس مكيـن، والسير بأوروبة نحو عهد جديد من السلام والتقدم العمراني، فإن مسائل كثيرة مهمة لم تشأ فرنسة التنازل عنها، ومسائل أخرى تشبثت بها ألـمانية تشبث الغريق بخشبة طافية. فمن الـمسائل الأولى مسألة التعويضات ومسألة إبقاء القيود الـحربية والاقتصادية على ألـمانية، ومن الـمسائل الثانية مسألة تصحيح مسؤولية الـحرب، ومسألة تنقيح معاهدة فرساي على شكل يعيد إلى ألـمانية مركزها الـحر.
خلف شتريزمن في منصبه الـخطير السيد كورتيوس، الذي كان يجاريه في سياسته وكان عوناً له في بعض الـمؤتـمرات الـخطيرة، ولكن العلاقات بيـن ألـمانية وفرنسة لم تتقدم عن الـحد الذي بلغته في زمن شتريزمن حتى رأت ألـمانية نفسها مضطرة إلى القيام بـمناورة سياسية خطيرة بالاعتماد على علاقاتها الـحسنة مع روسية، كان من ورائها إعلان توصلها إلى الاتفاق مع النمسة على الوحدة الـجمركية بيـن البلادين. ومع أنّ مشروع الوحدة قد انتهى بالفشل فهو لم يفشل في تنبيه أوروبة إلى وجوب اتخاذ أساليب جديدة لـحل الأزمة السياسية التي طال أمدها.
ولقد تضاعفت في هذه الأثناء الأزمة الاقتصادية، واستندت على الشعب الألـماني استناداً لم يبقَ بينه وبيـن الانفجار سوى حادث اتفاقي بسيط. فقد قام هتلر وأنصاره بجهاد عظيم قصدوا فيه وضع حد لتفاهم عقيم مع فرنسة وكاد يتم لهم الأمر.
ولـما زار الوزيران الفرنسيان عاصمة ألـمانية قام الوطنيون الألـمان بـمظاهرات خطيرة لا بد أن تكون أبقت في قلبيهما أمراً. وبعد أن غادرا برليـن تـحرجت الـحال في ألـمانية تـحرجاً شديداً، الأمر الذي دعا كرتيوس إلى الاستقالة واستقالة الوزارة وتأليف وزارة جديدة برئاسة بروننغ، الرئيس السابق، الذي تولى وزارة الـخارجية أيضاً في وزارته الـجديدة.
ومازال بروننغ قائماً بأعباء الـحكومة في ألـمانية، فالـمجال لـمتابعة سياسة التفاهم بيـن فرنسة وألـمانية متسع، لأن بروننغ نفسه كان روح السياسة الـخارجية التي كان يقوم كورتيوس بتنفيذها في الـمدة الأخيرة. أما إذا قبض الهتلريون على زمام الأمر فلا بد من حدوث انقلاب سياسي خطير لا يـمكن التكهن بنتائجه الآن.