عندما أفكر في الـجهود العظيمة التي تبذل لتحقيق فكرة الطمأنينة والسلام العالـمييـن، والـمساواة البشرية في الأغراض الإنسانية السامية، تخطر في بالي العقبة الكأداء التي تعترض هذا السبيل، ألا وهي: التاريخ الـمملوء بالنزعات القومية والعنصرية والإقليمية. وأعتقد أنّ شقة البعد بيـن الشرق والغرب قد وسّعها كثيراً خلو الشرق من التواريخ الـمشبعة بالنزعات الـمشار إليها.
أريد بهذه الـمناسبة أن أذهب مذهباً جريئاً قد يخفف عن الاقتصادييـن بعض ما يعانون ولا يتفق بوجه من الوجوه مع حلول السياسييـن الـمكتسبيـن، وهو أنّ تـجريد التاريخ من النزعات والفلسفات الـمملوء بها يغني عن ألف ألف مؤتـمر لتحديد السلاح وألف ألف معاهدة لـمنع الـحرب.
يحملني على الذهاب هذا الـمذهب استقصاءاتي العديدة، وبحثي في أساليب إعداد التاريخ للمدارس، وطرق تدريسه، وفي التواريخ الـموضوعة للرأي العام. فقد توصلت إلى نتيجة مؤلـمة لكل الـمتمثليـن الإنسانية السعيدة والـمتفائليـن بـمستقبل سلام العالم، جعلتني أعتقد أنّ نصف ويلات البشرية، على الأقل، يعود إلى سيطرة النزعات على التواريخ الـموضوعة بيـن أيدي الناس، وحشو هذه التواريخ بالفلسفات الـمتغرضة والشروح الـموضوعة عمداً لـمقاصد معينة.
من ذلك تأريخ كل صدام يحدث بيـن الغرب والشرق بأنه صدام بيـن الـمدنية والهمجية، وتعريف الأمـم الآسيوية بأنها منحطة متوحشة. ولم يقف الكثيرون من مؤرخي الغرب عند هذا الـحد من تشويه الـحقائق، بل قاموا بتشويه الـحقائق التي ليس لها علاقة بالشرق. فليس في استطاعتك، مثلاً، أن تثق بتاريخ وضعه مؤرخ فرنسي عن ألـمانية، أو بتاريخ وضعه ألـماني عن فرنسة، بل ليس من الـحكمة في شيء أن تثق بكل ما يقوله مؤرخ غربي حتى عن بلاده.
وقد استغربت جداً أن أجد نفس الروح الـمتغرضة في التواريخ الأوروبية قد هاجرت إلى الأميركتيـن في جملة ما انتقل إليهما، وبدلاً من أن أجد فيهما روحاً منعتقة من عبودية الأغراض الضيقة النطاق، مستعدة لإقرار الـحقائق العلمية، كما هي بدون تشويهها بفلسفة النزعات الـمتضاربة، وجدت فيهما نفس الأسلوب الأوروبي العتيق الذي لا يصلح لإعداد وسلام العالم ومستقبل سعادة البشرية. يظهر هذا الأسلوب فيهما، أحياناً بصورة سمجة تفوق سماجة الصورة الأوروبية.
خذ مثلاً البرازيل فهي بلاد أميركية جديدة لا تزال قوميتها في بدء نشوئها من الـمزيج الغريب الـمتولد من مهاجرة أقوام عديدة مختلفة التقاليد متباينة الأغراض، أكثر الأحيان، وفي جملة هذه الأقوام السوريون واللبنانيون والفلسطينيون الذين يؤلفون الآن حزباً قوياً نشيطاً من مجموع الشعب البرازيلي. كان من الـمنتظر أنّ بلاداً هذه حال قوميتها تكون غير صالـحة لنمو النزعات العنصرية التي لا طائل تـحتها ولا فائدة منها، خصوصاً والبلاد غير محاطة بعناصر معادية تخشى شرّها، وشعبها مجموع عناصر عدة كما قدّمت، وتكون في مقدمة البلدان التي تُنزه علومها التاريخية عن الفلسفات الـمتغرضة. ولكن دهشتي كانت عظيمة جداً حيـن دعتني دائرة الـمعارف القومية البرازيلية وانتخبتني لعضوية بعض اللجان الاختصاصية الفاحصة، لـما وقفت عليه في عنايتي بالاطلاع على كتب التدريس التاريخية، أثناء قيامي بالـمهام التي انتدبت إليها. فإن بعض هذه الكتب، الـمعوّل عليها في تعليم التاريخ العام، تظهر فيه مجاراة الأسلوب العتيق الذي كان مشكوراً حيـن كانت الـمثل العليا للأمـم قصيرة الـمدى، ضيقة النطاق، أما أنا فأريد أن أطلق عليه اللقب الذي يستحقه في هذا العصر، أعني: الأسلوب الـمسمم العقول.
بيـن كتب التاريخ العام الـمدرسية، في البرازيل، كتاب نال واضعه شهرة واسعة في تلك البلاد الـمترامية الأطراف وحاز مكانة عالية بيـن كبار مؤرخي البرازيل وأدبائها، والكتاب الـمذكور هو أحد الكتب الـمعوّل عليها في التدريس. يرى الباحث في هذا الكتاب، وفي أماكن معينة منه، شروحاً إضافية للحقائق التاريخية الواردة فيه لا أريد هنا أن أدخل في جدال طويل يتناول فسادها من الوجهتيـن الفلسفية والـمنطقية، أو صحتها، ولكني أريد أن آتي على بعضها مـما له علاقة بنظرياتي الـمتقدمة في علم التاريخ وتأثيره في تطور العالم الاجتماعي والعمراني.
في الـمقدمة الإضافية لـحروب قرطجنة ورومة وظهور هنيبال وأسدروبال، القائدين الـحربييـن الفينيقييـن الـخالدين، تـجد فقرة هذه ترجمتها الـحرفية:
«حيـن أعلنت الـحرب (بيـن قرطجنة ورومة) كانت (قرطجنة) أكبر وأغنى من رومة في تـماثيلها ومراكبها وكنوزها. بيد أنّ شعبها الذي هو من عنصر آسيوي سامي، كان أحط في التمدن من الرومانييـن الذين تثقفوا في جوار اليونانييـن وعرفوا فنونهم وثقافتهم، محسّنيـن الفيلق الـحربي بتقسيمه إلى فيالق وشراذم.»
يجد الباحث في هذه الفقرة الصغيرة، نوعاً من أنواع الفلسفة الـمتغرضة تظهر فيه روح رديئة سيئة القصد فضلاً عن أنّ الرأي الذي تضمنه لا علاقة له بالتاريخ من حيث هو علم. فالرأي ما كان قط علماً. والـمفهوم من كلام الـمؤرخ الـمتقدم أنّ القارة (آسية) والعنصر (السامي) هما الفارق في الارتقاء الـمدني، وأنّ كل شعب آسيوي سامي هو، طبعاً، أحط من كل شعب آخر أوروبي هندي آري، وأنّ تقسيم الفيلق الـحربي البري هو مقياس الرقي الوحيد. ونحن إذا سلّمنا جدلاً بهذه النظرية فإننا لا بد نحار في تعليل كيف أنّ الرومانييـن انكسروا شر كسرة في أرقى مظاهرهم الـمدنية في (الـجيش) أمام قوات هنيبال. وإذا كان السر في القارة والعنصر فلماذا كان النبوغ الفينيقي أعظم من كل نبوغ روماني في ذلك العهد؟ ولـماذا ينسى الـمؤرخ الـمشار إليه أنّ الـخوف من النبوغ الفينيقي الآسيوي حمل الرومانييـن على حرق قرطجنة بعد الـخطب الرنانة التي كان كاتون يلقيها في مجلس شيوخ رومة.
قلت في ما تقدم إني لا أريد أن أدخل في جدال يتناول صحة آراء الـمؤرخ الـمشار إليه أو فسادها. وأنا ما قصدت من إيراد بعض النقط الـجدلية إلا تأييد نظريتي في أنّ الفلسفة الـمتغرضة كانت ولا تزال آفة التاريخ والعقبة التي تعترض سبيل التفاهم البشري. ولا يجب أن يستنتج من كلامي الـمتقدم أني أحاول الانتصار للعنصر الذي أنا منه بإظهار فساد نظرية الـمؤرخ الـمذكور، فالـحقيقة أني لم أحاول إظهار فساد النظرية الـمشار إليها قط، ولكنني أردت تبيان الصيغة الـمشبعة بروح التغرض التي تظهر في الفقرة التي أتيت عليها. وفي الوقت نفسه أعلن أنه لا يجب أن يستفاد من مجمل كلامي أني ألقي على الـمؤرخ الـمذكور تهمة تعمد التغرض، فهذه مسألة خارجة عن بحثي تـماماً.
ولـما كنت أريد إثبات وجود التغرض والنزعات بصورة لا تقبل الدحض أراني مضطراً إلى تعزيز استشهادي الـمتقدم باستشهاد آخر من نفس الـمؤلف. أتى الـمؤرخ على التحسينات التي أوجدها العرب في تطور الـمدنية، واعترف بها، ولكنه ما لبث أن ختم كلامه على الأتراك وسقوط القسطنطينية بالفقرة الآتية:
«من الـمحتمل أنّ عهداً جديداً يبتدىء، حيـن تزول من أوروبة الإمبراطورية التركية التي هي الآن() في حالة النزع، كما أنّ العهد العصري ابتدأ منذ طرد البقية العربية من إسبانية.»
في الكتاب شواهد أخرى كثيرة أضرب عنها صفحاً لعدم الـحاجة إليها بعد إيراد شاهدين يعزز الواحد منهما الآخر تعزيزاً كبيراً. مـما تقدم تظهر للمطالع بكل جلاء نتيجة وجود النزعات في التاريخ، فالتلاميذ الذين يتعلمون التاريخ العام في الـمؤلف الـمذكور يخرجون إلى الـحياة العملية رجالاً ونساء حامليـن في قلوبهم الكره والاحتقار للشعوب الآسيوية إجمالاً وللعنصر السامي والفينيقييـن والعرب بوجه خاص. والغريب في الأمر أنّ التاريخ الذي استشهدت به وضع لشعب يترك السوريون فيه ذرية كبيرة قد أصبحت من صلبه، والسوريون هم خلفاء الفينيقييـن وشركاء العرب.
إذا أضفنا النتيجة الـمتقدمة الـمؤسفة إلى أنّ الشروح التاريخية التي هي من نوع الفقرتيـن الـمتقدمتيـن ليست حقائق علمية، اتضح لنا عظم الـجريـمة التي يرتكبها الـمؤرخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بـما يحشونه به من نظريات فلسفية ليست، في الأكثر، في جانب الـخير العام وسلام العالم، ولا في جانب الـحقيقة والـحق.
خلاصة واقتراح
قد يكون في استطاعتنا أن نتجاوز النظر في النتائج السيئة التي تؤدي إليها النظريات الـمحشو بها التاريخ، من الوجهة العلمية دون أن نرتكب خطأ كبيراً فاضحاً.
أجل، لا يـمكننا أن نـمزج الفلسفة التاريخية بالتاريخ، ونطلق على هذا لقب علم ثابت خالص دون أن نعرّض معارفنا للتشوش الذي يحول دون بلوغنا الفائدة التي نتوخاها.
يرى الـمطالع مـما تقدم أننا تـجاه قضية خطيرة تهدد كياننا العلمي بالفشل، فضلاً عن أنها تهدد كياننا الإنساني بالبغض والنفور وإيغار الصدور وسائر العوامل التي تـحمل أخيراً على إثارة الـحروب، وصدّ الـمساعي والـجهود التي يبذلها الـمفكرون الإنسانيون في سبيل تـحقيق السلام العام.
تـجاه هذه الـحقيقة الراهنة يخطر لي أن أقترح على الـمعاهد العلمية السورية أن تأخذ هذه النظرية بعيـن الاهتمام وتقرر في ما بينها إرسال نداء حار إلى معاهد العلم في العالم كله تدعوها فيه إلى عقد مؤتـمر عام يقوم بـمهمة التحقيق في مؤلفات التاريخ الـمعوّل عليها في التدريس عند جميع الأمـم، وتوحيد علم التاريخ العام، ونشر الـمعلومات التي تبطل تأثير التواريخ الـخارجة عن دائرة العلم.
أكرر في ختام هذه العجالة رأيي الـمتقدم في أنّ تـجريد التاريخ من النزعات والنظريات الفلسفية يأتي بفائدة لا تأتي بها جميع الـمؤتـمرات التي عقدت، والتي ستعقد، لتحديد السلاح، ولا جميع الـمعاهدات التي تعلن إبطال الـحرب. وإني أعتقد يقيناً أنّ سلام العالم يتوقف على تنزيه معارفنا في ما يتعلق بأنفسنا وجيراننا والبعيدين عنا أكثر كثيراً مـما يتوقف على الـمؤتـمرات والـمعاهدات السياسية.
دمشق
أنطون سعاده