إني أتـجرأ بأن أوجه إليكم يا سيدي هذا الـجواب الـمفتوح بالبساطة والصراحة اللتيـن تـمتاز بهما أمتي السيئة الطالع، لأن لـخطابكم التاريخي(1) الذي ألقيتموه في الـمأدبة التي أقامتها لكم الـجمعية الصهيونية في لندن، علاقة مباشرة بـمصير أمتي: الأمة التي وضعت حجر الزاوية في بناء التمدن، الأمة التي فعلت في سبيل الـمدنية كل شيء.
ترون، يا سيدي، أنّ جوابي سيكون بسيطاً صريحاً، خالياً من مجاملات الـمداهنة العصرية التي تتطلبها مزاياكم السامية. ولكنه جواب يختلف شرفه عن الشرف الذي قلتم أنكم أوليتموه في مأدبة الـجمعية الصهيونية في أمر بسيط، صريح، أعني أنه شرف حقيقي!
لا أدري، يا سيدي، إذا كان في الـمأدبة التي أدبتها لكم الـجمعية الصهيونية شرف لكم أو لها. بل لا أدري إذا كان في تلك الـمأدبة شرف على الإطلاق.
أجل، لا أدري. وليس الذنب ذنبي إذا كنت لا أدري. فقد تلوّن الشرف في هذا العصر بألوان متعددة. أما أنا فإني أعرف شرفاً واحداً، لا أعرف ولا أبالي بسواه. هو الشرف غير الـملون!
إنّ من الـمبادىء الأولية التي يعرفها صبيان الـمكاتب، فضلاً عن الـمتنورين، أنه لا يجوز مزج الشرف بالسياسة أو مزج السياسة بالشرف. إنكم، ولا شك، تعرفون هذا الـمبدأ قبلي. ولكنكم ضربتم بهذا الـمبدأ عرض الـحائط حيـن كنتم رئيس وزارة بريطانية العظمى وأجزتـم «تصريح بلفور» الـمشؤوم، الـممقوت، وعدتـم فضربتم بهذا الـمبدأ عرض الـحائط ووقفتم في مأدبـة الـجمعية الصهيـونيـة مبـاهيـن بصنيعكم الـذي إذا تـمّ - وهو لن يتم - قضى على حياة أمة كان من جملة عهودكم أن تعترفوا باستقلالها وتـحترموه. وقفتم في تلك الـمأدبة ومحياكم طلق وقلبكم مفعم سروراً كأنكم تباهون بعمل شريف!
لو كنتم وقفتم في مباهاتكم عند حد ذكر إجازتكم «تصريح بلفور» السيّئ الطالع لـما كان هنالك ما يدعو إلى احمرار وجهكم خجلاً، إذ لو كان حدث شيء من ذلك لاعتبر شذوذاً عن تقاليد طبيعتكم الأنغلوسكسونية لا يغتفر، ولكنكم لم تقفوا في مباهاتكم عند ذلك الـحد، بل تـجاوزتـموه إلى الـمفاخرة بتلك العملية الدموية التي أجريتموها في جسم أمتي بقطعها إلى قسميـن في تلك الـمدينة الـجميلة القائمة على شواطىء البحر الـمتوسط الغربية الـمعروفة بـ «سان ريـمو».
وكما خرجتم في ذلك الوقت من الـمؤتـمر الذي أجريتم فيه تلك العملية مهنئيـن بعضكم بعضاً أنتم ورصفاؤكم دون أن يحمر لكم وجه أو يندى لكم جبيـن، كذلك وقفتم في مأدبة الـجمعية الصهيونية بعد مرور إحدى عشرة سنة على تلك العملية الشاذة مفاخرين بنجاحكم فيها دون أن يحمر لكم وجه أو يندى لكم جبيـن.
تـجاه هذه الـحقيقة الراهنة يترتب عليَّ أن أعترف بـمقدرتكم الفائقة على الاحتفاظ بتقاليد طبيعتكم الأنغلوسكسونية، إلى أبعد حد مـمكن، أثناء قيامكم بعملية مزج الشرف بالسياسة ومزج السياسة بالشرف.
تعلمون، يا سيدي، أكثر مـما أعلم أنّ العلم من طبيعة الغربي، وأنّ الفلسفة إلى طبيعة الشرقي أقرب. ومع ذلك فإنكم لم تراعوا هذه الـحقيقة وأقبلتم، في خطابكم في مأدبة الـجمعية الصهيونية، على الفلسفة حيـن كان الأَوْلى بكم أن تقبلوا على العلم فكانت النتيجة أنكم ارتكبتم خطأ منطقياً وخطأ علمياً وخطأ فلسفياً حيـن قلتم في خطابكم الـمشار إليه «لم تكن تلك البلاد (فلسطيـن) وطناً لقوم ما بل كانت خراباً وأفضل ما فيها أنها تصلح لأن تكون وطناً.»
لست في حاجة إلى أن أدلكم على مواضع خطأكم لأني على يقيـن تام من أنكم تعرفون جيداً، كما أنا أعرف جيداً «بأن تلك البلاد فلسطيـن هي جزء حيوي من وطن كامل غير قابل التجزئة، لأمة واحدة هي الأمة السورية.»
أنتم أنفسكم كنتم في عداد الذين تبجحوا كثيراً أثناء الـحرب العالـمية بأنكم تقومون بتلك الـمجزرة الهائلة، لا لغرض آخر سوى تـحرير الأمـم الضعيفة، ومن ضمنها الأمة السورية، وقبلتم أنتم ورصفاؤكم الفرنسيون متطوعيـن من هذه الأمة جاؤوا ليسفكوا دماءهم في سبيل نصرتكم ونصرة أمتهم.
وإذا أحصيتم، يا مولاي، قتلى جيوش الـحلفاء على العموم، وقتلى الـجيش الأميركاني على الـخصوص، وجدتـم بينها عدداً غير يسير من هذه الأمة التي قمتم الآن تنكرون وجودها في وطنها بصلابة جبيـن قلّ نظيرها!
لو لم يكن قد سفك من دم هذه الأمة سوى قطرة واحدة في سبيل نصرتكم في أحرج أوقاتكم لكفى ذلك لـحملكم على احترامها لو كنتم منصفيـن.
تقولون، يا سيدي، إنّ الأعمال التي أنـجزتها الصهيونية إلى الآن كافية للدلالة على أنّ الأرض التي كانت تفيض لبناً وعسلاً لم تكن حديث خرافة، وتنسون أنّ اللبـن والعسل كانا يفيضان من تلك الأرض بفضل سواعد الأمة التي كانت فيها، قبل مجيء اليهود إليها هاربيـن من عبودية مصر حيث كان وطنهم القومي الأول، والتي لا تزال فيها إلى الآن. بل أنتم تشيرون إلى ذلك في غير موضع من خطابكم إشارة ضئيلة مبهمة. إلى هذا الـحد بلغت فيكم الـحنكة السياسية والدبلوماسية في التذكر والنسيان وإهمال الـمنطق!!
بيد أنّ هذا الـحد، على بعده، قد قصر عن الـحد الذي بلغتموه في قولكم «إنّ لليهودي الـمقيم في تل أبيب حقاً بالـحماية كما للمسلم الـمقيم في كنبور.» جعلتم لليهودي الغريب في فلسطيـن، وللمسلم الوطني في الهند منزلة واحدة ولم تـجدوا في ذلك تناقضاً غريباً قط.