لا جدال في أنّ الضائقة الـحالية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البرازيل. فقد قوَّضت أركان التجارة وضعضعت أحوال الزراعة وهدمت بيوت الصناعة وشلّت الأيدي العاملة في عرض البلاد وطولها. ولو لم تكن البرازيل واسعة الأرجاء كثيرة الـخيرات جيدة التربة لكانت الأزمة أشد فتكاً بالنفوس من الأمراض الوافدة وأكثر وبالاً من الـحروب الـمهلكة. ومع ذلك يقال إنّ الضائقة في البرازيل أخف وطأة منها في معظم بلدان العالم القديـم والـجديد!
وليست غايتنا من إنشاء هذا الـمقال البحث في علل الأزمة وأسبابها والدواء الناجع لها، لأن لهذا الـموضوع أرباباً أكفياء. وإنـما أحببنا أن نفكّه القراء بـملحوظاتنا عن غرائب الضائقة ومفعولها في أخلاق الناس لعل في ذلك تفكهة وعبرة.
وأول تأثير للأزمة هو أنك لا تكاد تدخل حانة إلا وتـجد فيها لوحة معلقة وقد كتب عليها بأحرف ضخمة وأساليب عديدة ما معناه «الدين مـمنوع»، ذلك لأن التاجر أدرك بعد خراب البصرة أنّ الآية القديـمة القائلة «إسْتدن وديِّن واتكل على الله» فاسدة من أساسها وأنّ أفضل منها «على قدر بساطك مد رجليك» لذلك أصبح الآن لا يديّن أحداً ولا يجد من يبيعه بالدّيْن فراجت معاملة النقدي فقط. ولا غرابة فمن نتائج الأزمة فقد ثقة الأب بابنه والرجل بامرأته والأخ بأخته!! في حيـن أنّ سهولة حسم الصكوك سابقاً ووفرة الربح في البيع والـحسد والـمزاحمة في سبيل تكبير التجارة والإثراء العاجل وغير ذلك، كان يدفع التاجر للمجازفة والـمقامرة في تـجارته واسمه وثروته. ولم ينتبه أحد إلى غلطه إلا حيـن ظهرت الأزمة فحولته من تاجر دين إلى تاجر نقدي حريص على ما أبقته الأيام بيـن يديه من الثروة بعد أن فقد ثقته بالناس ولـحق اسمه العار.
وعمّ صراخ «الـمفاليس» في الـمقاهي والساحات والـمتنزهات العمومية، حتى بلغ عنان السماء. وأنت لا تدخل بلدة ما إلا ويستقبلك جيش من «الطفرانيـن» نادبيـن غناهم السابق الذي فقدوه في هذه الأزمة على زعمهم وتـجارتهم الواسعة التي تبددت. ولا يـمكنك أن تَسْلَم مـمن يلقاك منهم، إلا إذا وهبته بعض النقود التي يطلبها منك «بدون خجل» على سبيل الـمساعدة. أو أن تدفع فنجان قهوة أو كأس عرق إذا كنتما في مقهى أو حانة. وهذا بيت القصيد من ندبه ثروته الـمفقودة! وقد أصبح هذا التدجيل مهنة مجموع كبير من خشارة البشر ورعاع الناس.
العاطلون كثيرون جداً في هذه الأيام. وبعضهم يسعى كل السعي الليل والنهار وراء العمل ولا يجده. أما البعض الآخر «قلّل الله عددهم» فهم عمال تلفيق وكذب وتدجيل. اختلطوا بالعمال الـحقيقييـن اختلاط الزؤان بالـحنطة. وإذا سألت أحدهم عن مهنته أجابك أنه حداد أو نـجار فتنظر إلى يديه فتراهما أنعم من يدي العروس، ولكنه يبادرك بالتنصل قائلاً إنه من ثلاثة أو خمسة أعوام وهو يفتش عن عمل ولم يجده إلى الآن ولن يجده إلى الأبد!! وقد ابتكر هذا الفريق طريقة نظامية للاستجداء إذ يعارضون الناس في الشوارع، وكلما لاح لهم في سيماء فرد السخاء والشهامة يسأله أولاً إذا كان يقبله مستخدماً أو يدبّر له عملاً. ثم يبدأ بشكوى فقره ووفرة عدد أفراد عيلته فيجود عليه السامع بـما تسمح به نفسه. وإذ ذاك يقصد إلى الـخمارة وبيوت الـخلاعة وأندية لعبة «البيش» الشائعة في هذه البلاد. وقد يعضّ بعضهم ناب الـجوع فيلجأ إلى الـمنازل الـخاصة لاستجداء القوت، وهكذا يقضي أيامه ولياليه طارقاً أبواب الأجاويد ويشبع بطنه من فضلات الـموائد. ولعمر الـحق أنّ هذا هو عمله الـحقيقي من يوم شب وظل إلى أن يدرج في كفنه.
وقد ابتلت بيوت الأجرة في هذه الأزمة بهضم حقها. فالعامل والعاطل سواء في هضم أجور الـمنازل في هذه الأيام. وحجة الـجميع واحدة وهي قلة العمل وندورة النقود.
ولقد تعرفت بكثيرين من الـملاكيـن من مدة بعيدة ولـحظت أنهم لا يطالبون مستأجري بيوتهم بأجرتها، ومنهم من يسلّم الـمستأجر الـمنزل على أن يقطنه مجاناً كي لا يقلق راحته بالذهاب والـمطالبة والعذاب، وخوفاً من الـمشاجرة وتهشيم الأنوف والـملاكمة والـمحاكمة. ومنهم من أغلق منازله فارغة وامتنع عن تأجيرها مفضلاً إقفالها على تخريبها وعدم دفع أجورها.
ورأيت رهطاً من أصحابنا الـجواليـن، سابقاً من لبسة القمصان الـحريرية والسيارات الفخمة، بحالة يرثى لها من الـمسكنة والذل. ولقد كان بعضهم لا يقصد إلى العمل، ولو كان على بعد عشرة أقدام إلا في السيارة، أما الآن فهم يسيرون على الأقدام بـملء السرور. ومنهم من يحتمل حرارة الشمس الـمحرقة ماشياً الأميال في الـحقول والـمزارع يبادل القديسيـن والأنبياء والرسل والصلبان والـمسابح بالبيض والدجاج التي يبيعها في الـمدينة ويربح منها قوته وقوت عيلته الضروري. ومن الـمضحك أني رأيت من الـمتجوليـن اثنيـن: الأول كنادلٍ في أحد الأنزال والآخر يقوم بالدعاية عن نادٍ للمقامرة! وقد قال لي أحدهم إنّ جعبة الـمتجول لا تـحمل الـحكمة النافعة في أيام الرخاء، ولا تـحفظ صدره الفلسفة الثمينة في أيام السعة وهي اقتصاد الغرش الأبيض لليوم الأسود. أما الباقون في مراكزهم التجوالية - وهم قليلون جداً - فإنهم يهربون من زملائهم الـمتقدم ذكرهم هرب السليم من الأجرب.