نشرت جريدة الأحرار الغرّاء لـمراسلها الدمشقي الـمتيقظ في عددها الصادر في الـحادي عشر من الشهر الـجاري، هذا الـخبر:
«تقرر نهائياً في دوائر السلطة إنشاء مدينة أوروبية جديدة في ضاحية الـمزة، يأوي إليها رجال الـجالية الفرنسية من عسكرييـن وموظفيـن رسمييـن وغيرهم، شريطة ألا يسكنها أحد من الوطنييـن. وقد أبلغت السلطة البلدية نسخة عن الـمخطط الـخاص بهذه الـمدينة.»
نحن الآن إذن، أمام محاولة خطيرة، القصد منها إنشاء مناطق فرنسية مستقلة، نخشى أن تـحوِّل سورية إلى بلاد مستعمرة بالفعل، وتضعها في الـمستقبل القريب، أمام مشاكل صعبة الـحل تـجعلها والصيـن في مرتبة واحدة وتـجاه قضيتيـن متجانستيـن.
إننا بالـحقيقة إزاء معضلة جديدة كبيرة يجب علينا أن نواجهها بنفوس ثابتة وقلوب جريئة وعقول واعية. فإن النتائج الـخطيرة التي تترتب على إنشاء مستعمرة فرنسية مستقلة ستجرّ على قضيتنا القومية مشاكل تزيدها تعقداً، وإذا كان السوريون يريدون أن يدركوا الـمدى الذي يحتمل أن تبلغه النتائج الـمذكورة، فلينظروا إلى ما جرَّته الـمناطق الأجنبية الـمستقلة على الصيـن وعلى كل بلاد أخرى عموماً!
إنّ استعمار قطعة أرض في سورية، مهما كانت مساحتها صغيرة، يجعل لفرنسة مركزاً آخر، علاوة على مركز الانتداب. إنها تصبح دولة منتدبة ومستعمرة في وقت واحد، لأن الاستعمار بعد إنشاء مدينة الـمزة الـمستقلة وغيرها، مـما قد يكون تـحت التخطيط، يصبح أمراً واقعاً وفعلاً ناجزاً لا يسع فرنسة أو غيرها إنكاره. والأمر الواقع مبدأ من الـمبادىء الـخطيرة الشأن في السياسة العالـمية، وفن من فنونها العظيمة الأهمية. وإذا كان الشعب السوري غير الـمتمرن على الأساليب الـمستحدثة في السياسة، لا يدرك الآن خطورة هذه الـخطوة الـجديدة، فسيدركها عما قليل بعد انقضاء الأمر وفوات الفرصة.
لا يـمكن الآن القول بجميع النتائج الـخطيرة التي تترتب على إنشاء الـمستعمرة الفرنسية الأولى في سورية. ولكن يـمكن، على الأقل، تقدير النتائج الـخطيرة التي لها علاقة بـمبدأ سيادة الأمة على نفسها وبلادها وبوضعية الأمة العالـمية. وأول ما أريد تقريره بهذا الصدد: أنّ حظر السكن في الـمستعمرة الـمذكورة على الوطنييـن يعني ضمناً إعلان استقلالها عن جسم الوطن وفقد سلطة الأمة عليها، ومتى أصبح هذا الاستقلال أمراً واقعاً اكتسب صفة توازي صفة الاعتراف به رسمياً ودخل في باب قضايا الـحقوق الدولية، فتصبح حقوق فرنسة، في الأرض الـمستعمَرة، حقوقاً تزيد على حقوق الأمة السورية فيها، وهذه الـحقوق تـجرّ بدورها حقوقاً أخرى، تخوِّل فرنسة التدخل في التشريع والقضاء السورييـن بحجة حماية أرواح الفرنسييـن ومصالـحهم، تخوِّلهم ذلك تخويلاً يتعدى الوضعية الـحاضرة إلى ما بعد إعلان انتهاء الانتداب.
أما فيما يتعلق بوضعية الأمة العالـمية تـجاه وقوع هذا الأمر فسيكون دوراً جديداً لا عهد لسورية به من قبل، فإن وجود مستعمرة أو مستعمرات أجنبية فيها، سيؤدي حتماً إلى تفاسير وتآويل تـجعل موقف الأمة السورية تـجاه أمـم العالم الـمتمدن موقفاً زرياً. من ذلك أن يُتخذ إنشاء الـمستعمرة الـمذكورة دليلاً على وجود البلاد في حالة الهمجية والانحطاط تـجعل معيشة الأجانب مع أهلها أمراً غير مـمكن في جميع الأحوال، وعلى عدم كفاءة الـحكومة والقضاء القومييـن لوضع الأمن في نصابه وصيانة أرواح وأموال العباد من قومييـن وأجانب، وذلك من التفاسير والتآويل التي أولعت بها الأمـم الاستعمارية ولعاً ليس عليه من مزيد.
أمام التفاسير التي من هذا النوع، تصبح فرنسة تـجاه واجبيـن بدلاً من واجب واحد: أحدهما واجبها الـخاص أن تـحمي مصالـحها ورعاياها في هذه البلاد، والآخر واجبها العام، بصفة كونها الأمة الأوروبية التي تـمثّل التمدن الغربي في هذه البقعة الشرقية، أن تنشر الـمدنية الـحديثة وتردّ هجمات الهمجية السورية عنها!
ففي حالة زوال الانتداب عن سورية، تضطر فرنسة إلى أن لا تغفل أمر الواجبيـن الـمتقدميـن، وأن تـحتاط للقيام بهما بـما تعقده من اتفاقات مع السورييـن. فتحتاط لنفسها بحق حماية مستعمراتها التي تـمثّل مصالـحها ومصالح الـمدنية معاً، وفي ذلك من التضارب مع مبدأ سيادة الأمة على نفسها ووطنها ما يضيع معه جميع معاني الاستقلال والـحرية، فضلاً عن أنّ مجرّد وجود جالية أجنبية في بقعة أرض مستقلة تـمام الاستقلال عن جسم البلاد يـمثّل الاعتراف بوجود سيادة أجنبية مباشرة على أرض سورية.
لا ندري شيئاً عن التفاهم الذي تـمّ بيـن «السلطة» والـحكومة السورية على إنشاء هذه «الـمدينة الأوروبية» التي لا يجوز أن تتدنس بسكنى الأهليـن، بل لا ندري إذا كان حدث تفاهم قط من هذا القبيل. ولكننا ندري شيئاً واحداً هو أنّ إنشاء مناطق أجنبية مستقلة لا يتفق بوجه من الوجوه مع كرامة أمة معترف بأهليتها للاستقلال والسيادة على نفسها وأرضها، من مؤتـمر أمـمي، ومثبت هذا الاعتراف بإعلان الدستور السوري القائل في صدر مواده:
«سورية دولة مستقلة ذات سيادة لا يجوز التنازل عن أي جزء كان من أراضيها.»
وهذه الـمادة تعني أنّ سورية للسورييـن لا للأوروبييـن ولا للأفريقييـن ولا لسكان أية قارة أخرى، سواء كانوا أرقى منا أم أحط. أي أنّ سورية كلها - كل شبر منها - ملك للأمة السورية وخاضع للتشريع السوري فقط. فالـمستعمرة الـمذكورة إذن ستكون شوكة في جنب مبدأ السيادة القومية وقذى في عيون الوطنييـن. أما الـحكمة من إنشائها فسرٌّ بيـن فرنسة وجمعية الأمـم التي تدّعي وكالة الله على الأرض لتصريف شؤون عباده!