(حضرة الرصيف الفاضل صاحب القلم الـحديدي الـمحترم.
تـحية وإكرام، أما بعد فإني أرجوكم أن تتكرموا بنشر الـمقالة الـمرسلة إليكم مع هذه البطاقة حباً بالأدب العربي الذي نخدمه وسلفاً أشكركم.
سان باولو في 30 أغسطس/آب 1926.)
مضت على ظهور رباعيات فرحات إلى عالم الوجود الأدبي مدة لم يظهر فيها شيء من النقد الصحيح الوافي الذي يتمكن معه من وضع الرباعيات الـمشار إليها في الـمركز الذي هي أهل له، خصوصاً بعد أن فشلت الـمقدمة التي وضعها لها السيد توفيق ضعون في ذلك فشلاً تاماً. ولـمّا كان صاحب الـمقدمة وغيره قد جعلوا للرباعيات، التي نحن بصددها، علاقة بشعر أبي العلاء الـمعري وعمر الـخيام الشهيرين ووضعوها في مرتبتهما أو أعلى، فقد كنا عقدنا النية على التبصر والوقوف موقف الـمراقب الـمستفيد لعل أحد كبار ثقات مدرسة آداب اللغة العربية أو أحد تلامذتها، الذين لهم علينا التقدم، يهتم بقول كلمة في رباعيات فرحات تكون فصل الـخطاب في ما هو لها وما هو عليها وفي أي محل يجب إحلالها. بيد أنّ الانتظار قد طال والوقت كاد يفوت دون أن نسمع او نطالع شيئاً يـمكن اعتباره القول الفصل أو البحث الوافي على الأقل. ولا بد في هذا الـمقام من الإشارة إلى أنّ جريدة مرآة الغرب النيويوركية نشرت مؤخراً كلمة بهذا الصدد قريبة من مواضع النظر ومصيبة في بعض النقط الهامّة ولكن الـجريدة الـمذكورة قد جعلت كلمتها تعليقاً لا بحثاً.
يوم أهدانا الصديق فرحات رباعياته ذكرنا له بعد الاطلاع عليها بعض ملاحظات خطرت لنا حينئذٍ، وقد جمعتنا الظروف في الـمدة الأخيرة ببعض محبي الاطلاع من الأصدقاء الذين أتوا في عرض الـحديث على رباعيات فرحات وشجعونا على إبداء رأينا فيها، ولـما كنا قد آنسنا من نفسنا رغبة في ذلك، أقدمنا على وضع هذه التأملات والـخواطر في رباعيات فرحات محاوليـن أن نـجعل منها بحثاً يـمكن معه الوصول إلى الغرض الـمطلوب، مضمّنيـن إياها بعض نظريات لا بد من الانتباه إليها في مثل هذه الـمواقف لكي يؤمّن معها إلقاء حبل الكلام على غاربه، فلا تشذ عن مواضع النظر ولا تذهب مذاهب غير مشروعة كما يجيء عادة في كلام الكويتبييـن الذين تراهم يلقون الكلام على عواهنه عامدين إلى تـجميل ألفاظهم بدلاً من تقوية حججهم، ظانيـن أنّ النسق الـجميل يغني عن الـحقيقة الـمنشودة، أو يعطون أنفسهم حق الـحكم في مسائل قِصَر إدراكهم واطلاعهم عنها، مغترّين بشرف تناول الـمواضيع العالية الدقيقة، مبررين لأنفسهم الـخوض فيها لـمجرد معرفتهم أسماءها أو إلـمامهم بظرف صغير من منازعها ومواضيعها ومذاهبها، فيضعون أنفسهم موضع الـخبيرين والثقات، عابثيـن بالأمانة لأنفسهم ولـجمهور القراء، وهو من أسوأ معائب صناعة الأدب على ما نعلم.
وأول ما نريد أن نثبته بهذا الصدد هو أنّ الشعر العربي في العصر الـحاضر شعر ترنـم لا شعر فلسفة إلا فيما ندر، وقلّ أن ترى فيه شعراً فنياً. ذلك لأن معظم شعرائنا يعمدون إلى قرض الشعر عند أول مؤانستهم من أنفسهم ميلاً إلى الترنـم بقصائد الشعراء السالفيـن، لا عندما تـمسهم الـحياة بلذاتها وآلامها وحلاوتها ومرارتها، والفرق بينهم وبيـن الشعراء الفلاسفة والفنييـن أنّ شعور هؤلاء بحالات الدنيا العرضية وظواهرها الـمتنوعة يحملهم على الشعور بأمور مستترة يجب البحث عنها والعكف على تعليلها وتـحليلها كل حسب تأثره وميله من حيث الفلسفة أو الفن، وأنّ أولئك تغلب عليهم نغمة الترنـم فهم لا يحمِّلون أنفسهم جهد البحث والتفكير إلا نادراً جداً. وإذا وجد بيـن شعرائنا الـحالييـن من أجاد بعض الشعر الفني فليس بينهم من وضع شعراً فلسفياً بالـمعنى العصري والشاعر الوحيد بيـن شعرائنا الـماضيـن والـحاضرين الذي خصّ شعره فضلاً عن نثره بالفلسفة هو أبو العلاء الـمعري، فخر شعراء اللغة العربية وفلاسفتها.
فرحات أحد شعراء هذا العصر الـمتميزين بقوة ذكائه الفطري. وأجمل شعره وأكثره تعبيراً عما يجول في نفسه من الـخواطر التي يحق له تسميتها بنات أفكاره هو قصائده التي نشرها في الـجرائد والـمجلات والتي ألقاها من على الـمنابر في الـمآدب والحفلات، وهي ولا شك أجدر كثيراً بعنايته عن رباعياته التي نحن بصددها. نقول ذلك بـما يخوّلنا إياه إطلاعنا ومعرفتنا، ففرحات في قصائده مفكر بنفسه، وفي رباعياته مقلد لأفكار غيره على غير تناسب.
أولع فرحات في الـمدة الأخيرة بـمطالعة دواوين أشهر الشعراء وأهمهم كسقط الزند ولزوم ما لا يلزم لأبي العلاء الـمعري وديوان أبي الطيب الـمتنبي الـمشروح بقلم الإمام الشيخ ابراهيم اليازجي وديوان أبي تـمام وغيرها من الشعر الراقي. والظاهر أنه علق بلزوميات أبي العلاء أكثر من سواها فهو قد عكف عليها وأعجب بها إعجاباً أثّر عليه تأثيراً يتضح في رباعياته بكل جلاء.
ومهما يكن من شيء فإن دارس آداب اللغة العربية الـمدقق يرى أنّ تأثر فرحات بلزوميات أبي العلاء ليس إلا تأثراً ظاهرياً فقط فهو يدرك، من مطالعتها، شعر أبي العلاء ولا يدرك فلسفته لأنه لسوء الـحظ بعيد عن مجاري هذه الفلسفة بعداً مهما اجتهدنا في تقريبه ظل كبيراً.
ولهذا السبب عينه تراه في رباعياته يحاول وضع أقوال فلسفية إذا كان لبعضها علاقة ببعض القضايا الفلسفية الـجزئية فليس فيها ما يدخل قلب الـموضوع الفلسفي. ولا يـمكن دارس الفلسفة أن يعتبر أقوال فرحات «مذاهب» فلسفية بـما يفيده هذا الـمعنى. لذلك لا يـمكن إيجاد أقلّ مشابهة بيـن رباعيات فرحات ولزوميات أبي العلاء بل لا يـمكن أن يكون لفرحات علاقة بأبي العلاء إلا العلاقة التقليدية أو علاقة الـمشابهة الظاهرية فقط.
وليس أسهل من معرفة الفرق بيـن شعر فرحات الأصلي وتقليده من الـمقابلة بيـن أبياته الفلسفية التقليدية التي لا يـمكن أن تـحمل على محمل الفلسفة وطلاقة شعره في جمال التعبير وقوة وصف الانفعالات النفسية التي تراها في رباعياته حيـن يصف حزنه على طفلته الـمفقودة مثلاً. ومن هنا يـمكن الاستدلال أنّ فرحات شاعر بشعوره الذي يستمد منه قوة خاصة للتعبير عن الـمشاهد ووصف الـمؤثرات النفسية كالـحب والـجمال والـحنان والـحزن والفرح وما شاكل، أما الفلسفة وكل ما يتعلق بها من مواضيع التاريخ والاجتماعيات والعمران وسائر فروعها العلمية كعلم النفس وعلم درس طبائع البشر وعلم البحث عن السلائل البشرية وعلم العاديات، مـما يقتضي التجرد عن الانفعالات اليومية لكي يصبح في الإمكان استخراج أحكام أو آراء فلسفية بكل ما يفيده هذا اللفظ من الـمعنى، فليس من منازع أفكار فرحات. لذلك لا يـمكنك أبداً متى قرأت رباعيات فرحات أن تتذكر أبا العلاء على الطريقة التي وصفها السيد توفيق ضعون دون أن يدرك ما معنى تذكر شعر أبي العلاء الـمعري، فالسيد ضعون وقع هنا في نفس الغلط الذي يقع فيه بسطاء الدارسيـن الذين يحاولون أن يعلوا كثيراً عن دائرة إدراكهم.
وإذا كان فرحات يريد فعلاً مجاراة أبي العلاء بـمفهوم كلامه كما جاراه بحرفه حيـن بنى القول الآتي:
فـمـا لك تــدّعــي عــلـمــاً وفــهـمــاً
وتـقـلـق راحـتــي شتـمــاً وشــكـــرا
فَـتَـمْـدَحــنـي ومــا أســديت عــرفــا
وتشـتـمـــنــي ومــا أبـديـت نــكــرا
وفيه قول صريح بعدم الرضى عن الـمديح الذي يجيء في غير محله وهو من أقوال أبي العلاء الشهيرة التي منها:
إذا أثـــنـــى عــلــيَّ الـــمــرء يــومــاً
بـخــيــر لــيـس فــيَّ فـــذاك هــــاجِ
وحــقّـــي إن أســـاء بـــمــا افــتــراه
فــلــوم مــن غـريــزتـيَ ابـتـهـاجـــي
ومنها:
وإن مـدحـت بـخـيـر ليس من شـيمي
حسـبـتـنـي بـقـبـيــح الــذمّ فُـــرِّيــتُ
فهو يكون قد سبقنـا إلى انتقـاد مقدمـة ضعون الـمبنيـة على مديح فـارغ لا يليق بشاعريتـه ومركزه.
وإننا قبل أن نبدأ بانتقاد مقدمة السيد ضعون نذهب هنا إلى تأييد كلامنا الـمتقدم في تقليد فرحات أفكار غيره على غير تناسب. ونحن إنـما أردنا بهذا الوضع أنّ فرحات مقلد لأفكار أبي العلاء الـمعري الفلسفية دون أن يكون له من العلوم ما يجعل لشعره تناسباً مع شعر أبي العلاء الذي تناول الفلسفة من وجهتها العلمية الراقية لا من وجهة النظريات البسيطة الصادرة عن الذكاء الفطري كما هو الغالب في شعر فرحات. أما من الوجهة الشعرية البحتة ففرحات قد أجاد في تقليد أبي العلاء في بعض الـمواقف، كما أنه أجاد النسج على منوال الـمتنبي في الهجو. لا بل إنّ فرحات قد نقل كثيراً من أشعار أبي العلاء الـمعري نقلاً مع تـحوير في السبك، وأخذ عنه كثيراً من الـمعاني دون أن ينسبها إليه، ولا ندري لـماذا خصه بهذا الإجحاف مع أنه تكرم بذكر كاسيانو ريكاردو حيـن أخذ عنه معنى واحداً فقط وفيما يلي نذكر بعض ما رأينا الـملاحظة عليه واجبة لتأييد كلامنا:
في الصفحة التاسعة من رباعيات فرحات ترى هذا القول:
ودّعت ديني وجنسي مذ رأيت بني الد
دنــيــا فــريـســة أديــان وأجــنــاس
ورحت أذكــر شـر الـنـاس مـعــتـبــراً
ولـيـس ذاكـر شـر الـنـاس كالناسي
قـربـي من الـنـاس فيه وحشتـي وعـلى
هـذا القيـاس أرى في الـبـعـد إيناسي
وهذا الـمعنى كثير في لزوميات أبي العلاء حتى أنه هنا يكاد يكون منقولاً حرفياً كما ترى من قول أبي العلاء(1):
وزهّـدنـي فـي الـخـلـق مـعـرفتـي بهـم
وعــلـمــي بـأن الـعــالــمـيــن هـبــاء
وقوله في موضع آخر(2):
بـعـدي مـن الـنـاس بـرء مـن سقـامهم
وقـربـهـم للـحـجـى والــدّيــن أدواء
وفي الصفحة الـحادية عشرة من الرباعيات الـمذكورة القول الآتي:
قـالــوا الـحفيد بـشكل الـجد قلت لهم
الشـكـل يـجـمـع بيـن الـهـر والـنمـر
وهو مأخوذ من بعض أقوال أبي العلاء في قوله(3):
تـشـاكــلـوا فـي سـجـيــات مـذمَّــمـة
وأشـبـهــت لـبـوات الـغـابــة الـهــرر
وكذلك قول فرحات في الصفحة السادسة عشرة من رباعياته:
لـم أدر كـالـمـوت ربّـاً صـادقـاً نفذت
أحـكـام سـلطـانـه في كل سلطان(4)
يـمكن رده إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء كما يـمكن رد قوله في الصفحة التالية:
نشكو على الدهر شكوى لا أساس لها
فـالـدهـر لـم يـرتـكـب إثـمـاً ولـم يـجُـرِ
إلى قول أبي العلاء(5):
فـمـا أذنـب الـدهــر الـذي أنـت لائــم
ولـكـن بــنــو حــواء جــاروا وأذنــبــوا
وقوله في موضع آخر(6):
نـقـمـت عـلـى الـدنيا ولا ذنب أسلفت
إلـيــك فــأنــت الـظــالـم الـمـتـكـــذّب
ومن الأقوال أو الـمعاني التي تدل على عدم تفهم ما ينقل ما جاء لفرحات في الصفحة العشرين من رباعياته نقلاً عن قول أبي العلاء(7):
إذا أغـضـب الـخـيـل الشـكـيم فما لهـا
عــلــيــه اقــتــدار غــيــر أزم الـحـدائـد
بعد الـمطلع الذي سبق هذا البيت وهو:
حـوائـج نـفسـي كـالـغـوانـي قـصـائــر
وحـاجـات غـيـري كـالـنـسـاء الـردائـد
وقول فرحات الـمشار إليه هو:
كـن كـالـحسـام وقـل مـا أنـت معتقـد
للـمـسـتـبـدّ ولا تـرهــب إذا احـتــدمـــا
إنّ الــجـيـاد تــلــوك اللــجــم مــزبـدةً
غــيــظــاً ولـكـنـهــا لا تــبـلـع اللـجـمـا
وملاحظتنا على هذا القول أنّ فيه تناقضاً قد يكون الباعث عليه اندهاش فرحات من جمال هذا الـمعنى، والتناقض هو في أنّ الـمستبد ليس الـجواد الذي يأزم الـحديد على غير طائل بل الـمستبد به هو الـجواد الـملجم الذي يبقى هذا الـمعنى ملازماً له إلى أن يتغير مركزه. فأبو العلاء يقول إنّ تذمره من عدم تـمكنه من قضاء حوائجه لأسباب تأتي بها الـمقادير التي لا قوة للمرء على دفعها لا يكون إلا كالـخيل تأزم الـحديد ولا تنال منه مراماً، وفرحات يقول إنّ المستبد الذي بيده الأمر والنهي وهو ما يعبّر عنه باللجام أو الشكيمة توضع في فم أو أنف المستبد به يلوك اللجام أو يأزم الحديد فلا يبلغ منه مراماً، وهو غير الـحقيقة، والـمعنى على هذه الكيفية معكوس تـماماً، فتأمّل.
وفي الصفحة الثالثة والعشرين من الرباعيات التي نحن بصددها ما فيه تشجيب عادة الذرّ وهو ما يـمكن أن يُردَّ إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء. وفي الصفحة التي تليها قول يجعل شر الناس أكثر من شر الذئاب، وهو أيضاً مأخوذ من قول أبي العلاء(8):
لــو حــاورتــك الضــان قـال حصـيـفـهـا
الــذئــب يـظـلــم وابــن آدم أظـلـم
وفي الصفحة التي تلي هذه التي نحن بصددها هذا القول:
نتـلـو أســاطــيـر أســلاف الـورى فـنـرى
جـهـلاً غـريبـاً وخـلطـاً في الديانات
والـجـهـل والـخـلط مـا زالا كـمـا عـرفـا
منذ الوجود سوى بعض اختلافات(9)
وهذا القول أيضاً يُرَدُّ إلى أقوال كثيرة لأبي العلاء منها(10):
ديـــن وكــفـــر وأنـــبـــاء نــقــصّ وفــر
قــــان يـنــصّ وتــوراة وإنــجـيـــل
فـي كــل جــيــل أبـــاطـيــل يــدان بـهــا
فــهـل تـفـرّد يـومـاً بالـهـدى جـيل؟
ومتى انتقل القارىء إلى الصفحة الـحادية والثلاثيـن من رباعيات فرحات وجد هذا القول:
فـالـخـيـر فـي البـعض بـالتهذيب مكتسب
والشر في الـكـل طبـع غيـر مكتـسب
وهو بالأكثر مبني على قول أبي العلاء(11):
ألــم تــرَ أنّ الـخـيـر يـكسـبــه الـحـجــى
طـريـفـاً وأنّ الـشـر فـي الـطبـع متّلـد
في رباعيات فرحات غير ما تقدم أقوال كثيرة ليست إلا ترديداً لـما أكثر الـمعري من ذكره، ونحن لا نأتي عليها خيفة الإطالة فضلاً عن أننا نعتبر ما تقدم كافياً لتأييد كلامنا الـمشار إليه آنفاً. أما أقواله التي تخرج عن النقل عن الـمعري، فلا يـمكن حملها على محمل الفلسفة، وليس فيها إلا ما يدل على ذكاء صاحبها الفطري في إدراك بعض الـمسائل الوقتية والعرضية.
ولا بد هنا من قول كلمة صغيرة تكون تتمة لتأييد كلامنا الـمشار إليه، وهي أنّ أقوال أبي العلاء الـمعري التي نقل فرحات كثيراً منها ليست أقوالاً بسيطة في حد ذاتها كما هي في رباعيات فرحات، بل هي محمولة على أن تكون ذات صفة فلسفية ذهب إليها أبو العلاء. وفرحات ليس ذا فلسفة خاصة تكسب شعره هذه الصفة.
نقف في تأملاتنا وخواطرنا في رباعيات فرحات نفسها عند هذا الـحد. وإنّ ما ذكرناه حتى الآن يعطينا حجة قوية لرد الهذر الكثير الذي قيل فيها بدون مبرر.
نبدأ هنا بقول كلمتنا في الـمقدمة التي تقدم لنا القول بالعودة إلى انتقادها، والتي أوجب خلوّها من الـحكمة والنظر الصائب تعريض الرباعيات التي نحن بصددها إلى انتقاد يكون أمرّ كثيراً مـما ذكرناه نحن وتعريض الشاعر نفسه إلى خطر الـحط من شاعريته ومركزه، لـما فيها من الكلام الـملقى على عواهنه، وهي مقدمة السيد توفيق ضعون لرباعيات فرحات.
وأول دلائل خلو الـمقدمة الـمذكورة من الـحكمة والنظر الصائب قول الـمقدم في بدء مقدمته:
«هذه هي رباعيات فرحات، وقد خصني هذا الشاعر بشرف تقديـم رباعياته إليك لأسباب ثلاثة: أولاً لأنه صديقي، وثانياً لأنني أعَرَف الناس به أيام عسره، وثالثاً لأنني أجهل علم العروض مثله.»
فالأسباب الثلاثة الـمذكورة تافهة لا معنى ولا محل لها كما يدرك ذلك العميان فضلاً عن الـمبصرين، نقول ذلك جرياً على طريقة والدنا الشهيرة في التعبير، وهي مُحِطَّة بكرامة الشاعر ومركزه الأدبي. والسبب الثالث منها يرميه بتهمة الـجهل وهذه التهمة باطلة ومردودة بقول الشاعر نفسه في انتقاده الرابطة القلمية في نيويورك:
إنــي لأعـجـب مـن آداب رابــطــة
قـد أوجـدت فـي نظـام الشعـر تشـويشـا
والظاهر أنّ السيد ضعون أراد بسببه الثالث أن يبتدع بدعة جديدة وهي الافتخار بجهل علم العروض. ولـما كان فرحات صديقه الـحميم، فلم يرد أن يحرمه نعمة هذا الفخر، بل إنه تكرم بخصّه بها أولاً وإن كان هذا الأخير يـمقتها مقتاً كما رأيت. وإذا كان يجب علينا أخذ تعليل السبب الـمشار إليه بغير هذا الـمأخذ لـما رأينا مفراً من القول بأن السيد ضعون يجهل مبادىء تطور الأفراد جهلاً تاماً. فهو يبدي جهلاً تاماً بأن ظهور موهبة الشعر في فرحات دون أن يكون له إلـمام بعلم العروض، لم يـمنعه من درس علم العروض فيما بعد. وعلى افتراض أنّ فرحات لم يدرس علم العروض كما درسه غيره، فهو يحاول دائماً أن يكون في شعره ناسجاً على منوال أمتـن الشعراء وأفصحهم كأبي العلاء والـمتنبي وأبي تـمام وغيرهم. فهم ملاذه وملجأه إذا عصيه علم العروض، وإن كانت طريقة تعبيره كثيراً ما تكون أبسط كثيراً من طرائق تعبيرهم هم.
قال السيد ضعون بعدما تقدم:
«أعلم شيئاً واحداً هو أنّ الشعر لا يقوم بضبط أوزانه وقوافيه بل بعذوبة ألفاظه ومتانة مبانيه وسمو معانيه، ومن هذه الـجهة أراني فخوراً بتقديـم رباعيات فرحات إليك لأن انفلات هذا الشاعر من قيود التقليد أبعده عن التعقيد فجاء شعره سهلاً مـمتنعاً يزري بسواه من الشعر الـموزون على سنن الفصاحة والبلاغة.»
لا ندري كيف يزري الشعر السهل الـممتنع بسواه الـموزون على سنـن الفصاحة والبلاغة ونحن نعرف أنّ ما يراد بالسهل الـممتنع نظماً كان أو نثراً أسلوب من أهم ضرورياته أن يكون موزوناً على سنـن الفصاحة والبلاغة وإلا كان ركيكاً. وعلى افتراض أنّ القصد من السهل الـممتنع غير ما ذكرناه فنحن لا ندري من أية وجهة يزري هذ الأسلوب بـما هو موزون على سنن الفصاحة والبلاغة.
إننا حتى هذه الساعة لم نرَ مثل هذا الشعر السهل الـممتنع الذي يزري بشعر الـمتنبي وغيره مثلاً مـمن توخى الفصاحة والبلاغة نظيره. وإذا أردنا البحث في هذه القضية بصورة جدية، لـما وجدنا لها غير تعليل واحد يجري على أقوال كثيرة شائعة في هذا العصر.
(1) أبو العلاء الـمعري. لزوم ما لا يلزم، القاهرة: الـمطبعة الجمالية، 1915 ص 30.
(2) الـمصدر نفسه، ص 35.
(3) الـمصدر نفسه، ص 254.
(4) الـخ.
(5) الـمصدر نفسه، ص 61.
(6) الـمصدر نفسه، ص 62.
(7) الـمصدر نفسه، ص 220.
(8) الـمصدر نفسه، ص 236.
(9) الـخ.
(10) الـمصدر نفسه، ص 155.
(11) الـمصدر نفسه، ص 191.