في كل مرة اصطدمت بعض قوات الشرق ببعض قوات الغرب وعاد الاصطدام على القوات الشرقية بالـخسارة، كان الـمؤرخون الغربيون يعدُّون ذلك خذلان البربرية أمام الـمدنية، وينسبون إلى القوات الغربية مجد الـمحافظة على الـمدنية. ولقد ذهب الـمؤرخون الغربيون في غلوّهم هذا إلى حد أبعد من ذلك بكثير، فصاروا يعدّون كل نهضة وطنية في بعض أقسام الشرق ترمي إلى الـحرية والاستقلال حركة بربرية تهدّد الـمدنية التي تـحمل أوروبة لواءها.
هذه الفلسفة التاريخية العقيمة التي أنتجتها أدمغة الـمؤرخيـن الغربييـن الـمتعصبيـن، يعدّها القوم في الغرب إحدى الـحقائق التاريخية. وقد تناولها الفريق الأكبر من الكتّاب الغربييـن كما هي وغالى بعضهم في وصف «الـمواقف التاريخية» التي أنقذ فيها الغرب الـمدنية من خطر بربرية الشرق. ومن الغريب الـمضحك الـمبكي، أنّ فريقاً كبيراً من كتّاب الشرق اقتفى أثر الكتّاب الغربييـن في جعل هذا الـخطأ الفاضح حقيقة راهنة، حتى أنّ كثيرين منهم، وبينهم كثيرون من كتّابنا نحن السورييـن، يسلّم بأن الشعوب الشرقية كلها، الـمرتقي منها والـمنحط، ليست أهلاً للحرية والاستقلال ولا تصير أهلاً لذلك إلا إذا سيطرت عليها الشعوب الغربية أولاً وأعدتها للحرية والاستقلال.
هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت الآن على وشك الاندثار، لأن النهضة الشرقية العامة الآخذة في الاقتراب شيئاً فشيئاً تبرهن جليّاً أنّ هذه الفلسفة والـحقيقة على طرفي نقيض. وإذا كان التاريخ قد أثبت في الـماضي أنّ الـمدنية غير مهددة من النهضات الوطنية، فإن التاريخ سيثبت في القريب العاجل أنّ النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد الـمدنية، بل تهدد البربرية الغربية الـمندغمة في الـمدنية، وتبعث من مهبط الوحي مدنية جديدة، لا تقلّ شأناً عن الـمدنية التي أعطاها الشرق للغرب أولاً.
نقول إنّ هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت الآن على وشك الاندثار، لأن النهضة الشرقية العامة ضد بربرية أوروبة أصبحت محتمة كالقضاء والقدر. فالشرق لا يريد أن يعرف هذه الفلسفة العقيمة، ولا الذين يقولون بها من الكتّاب سواء كانوا غربييـن أو شرقييـن، فهو قد ضرب بها عرض الـحائط في سورية ومصر ومراكش والصيـن والهند.
نقول إنّ هذه الفلسفة التاريخية العقيمة أصبحت على وشك الاندثار، لأن بوادر النهضة الشرقية العامة ضد بربرية الغرب قد بدأت في الظهور في الأصقاع الشرقية كلها. وليس ما هو جارٍ الآن في مراكش وسورية والصيـن، إلا بدء ذلك الاشتباك الهائل الآتي. ولا يسعنا هنا إلا أن نقول إنّ كل الـمجهودات التي بذلها الكتّاب الغربيون البعيدو النظر لوقاية أوروبة أو الغرب كله من خطر الاعتداء على حقوق الأمـم الشرقية كانت باطلاً وقبض الريح، فإن أوروبة التي لم تعرف لهذه الـحكمة الباهرة التي أظهرها لها ذوو الأفكار الصائبة قيمة ستدفع ثمن تعلّمها ثمناً غالياً جداً، لأن النهضة الشرقية ستكون أشبه بتيار جارف، أو زوبعة ماحقة لا يعترض طريقها شيء إلا أهلكته، ولا يقوم في سبيلها حاجز إلا دثرته.
لقد تباهى الأوروبيون كثيراً بتمكنهم من الانتصار في مناوشات صغيرة قامت بها بعض القوات الشرقية في الغرب، معتبرين الانتصار في كل معركة صغيرة إنقاذاً لأوروبة من خطر الشرق، وصدّاً للبربرية عن الـمدنية. أما الآن فإننا نبشر أوروبة بأن دور الـمناوشات الصغيرة قد زال وانقضى، وجاء دور الـحروب الكبيرة - دور وقوف الـمظلوم والظالم، صاحب الـحق والـمعتدي عليه، الـمستعبَد والـمستعبِد، الـمستعمَر والـمستعمِر، الضعيف القوي والقوي الضعيف، الشرق والغرب، أمام تلك الـمحكمة الرهيبة - محكمة الـحساب وتسوية الديون ــ محكمة الـحرب أو محكمة القوة. وفي تلك الـمحكمة الرهيبة، وسط أشلاء القتلى وآلام الـجرحى، يؤدي كل من الشرق والغرب ما عليه للآخر، والرابح هو الذي يخرج من هذه الـمحكمة معترَفاً بتغلب قوّته على قوة الآخر، لأن قوّته تعطيه حقه وأكثر.
إذا كانت أوروبة تعتبر أنّ من العجز البحث عن الـحق ما زالت القوة تنيلها الـحق وأكثر، فإن الشرق يعرف هذه الفلسفة الباهرة وسيُري أوروبة أنها لا تنفع إلا القوي الأقوى، أما القوي الأقل قوة فلا تكون عليه إلا وبالاً.
رشحٌ قليلٌ من الشرق خبط أوروبة بعضها ببعض مرات عديدة، فماذا تكون حالة أوروبة يوم يتدفق السيل الشرقي عليها تدفقاً جارفاً. إندلاع ألسنة صغيرة قليلة من تلك النار الـموجودة في الشرق إلتهم نصف أوروبة مرة في فترة عين من التاريخ، فمن يقول بعد هذا إنّ لهيب نار الشرق كله لا يهصر أوروبة هصراً ويفتتها تفتيتاً عندما تسير تلك الـجيوش الـجرارة جيشاً وراء جيش، وكل جيش لا يُعرف أين أوله ولا أين آخره، أسلحته تلمع تـحت أشعة الشمس ووقع خطواته يحدث دبكة منتظمة هي رمز الزحف الظافر، وأبواق فرقه تبشر بضربة عظيمة هيأها ذلك الـجبار العظيم لتأديب أوروبة الوقحة.