نعتقد اعتقاداً راسخاً أنّ أعظم أدلة خراب أمة ما أن تـجهل تلك الأمة أنها على شفا الـخراب، أو أن ترى الـخراب آتياً إليها وتظن أنه العمران. وإنّ من أعظم العوامل التي تـجعل الأمـم تـجهل مواقفها كما هي تـماماً انقيادها إلى من ليسوا أهلاً لقيادتها، واسترشادها بـمن هم ليسوا أهلاً لإرشادها. ولـمّا كنا نقرّ ونعترف بأن حالة وطننا لا يـمكن أن توجد حالة أسوأ منها، فما هذه الـحالة إلا نتيجة جهل الأمة السورية أنها على شفا الـخراب بسبب بتر أعضائها عُضواً عضواً وانقيادها إلى فريق لا يصلح لقيادتها، واسترشادها بفريق لا يكاد يعرف يساره من يـمناه.
لقد مضى زمن التكلم بالألغاز والـمعميات ومعالـجة الـمواضيع الوطنية الـحيوية بالتلميح، وجاء دور قول الـحق الصراح، وإننا نقوله كما هو لعل الذين لا يريدون أن تكون أذنابهم رؤوساً لهم يخرجون من دائرة التململ والتذمر إلى حيّز العمل الـمتكاتف، ويكفوا الوطن شر ما هو فيه وينقذوا الأمة من حال الـخراب التي هي فيها.
إنّ مسألة إنقاذ وطننا من استعمار الأغراب الـمعتدين عليه مسألة تـجعلنا أن لا نقتصر في تفكيرنا على ما هو حقنا، بالنظر إلى ما يدّعيه الأجانب. بل هي مسألة تـحملنا أيضاً على التفكير في موقفنا كأمة تريد لنفسها الـحرية السياسية والاقتصادية، كأمة تريد أن تنال مكانها تـحت الشمس. وللذهاب مع تيار الفكر نسأل هذا السؤال: هل نحن أمة متضامنة ترمي إلى غرض واحد، وهل موقفنا موقف يخوّلنا بلوغ الغرض الذي نرمي إليه؟
هذا السؤال له علاقة كبيرة بقوانيـن الـجنسية التي صدرت أو ستصدر في الشام ولبنان وفلسطيـن. وللكتاب الذي بعثه مندوب الـمفوض السامي إلى رئيس الدولة السورية علاقة كبيرة به وهو كما يأتي:
«يا ذا الفخامة
«أمرني فخامة الـمفوض السامي بكتابه الـمؤرخ 9 أيار سنة 1925 أن ألفت نظر فخامتكم إلى القرار رقم 2825 الـمكرر الـمتعلق بالـجنسية السورية تاريخ 30 آب 1924 أنّ وجود الـجنسية السورية يبتدىء قانوناً منذ 30 آب سنة 1924 السالف الذكر. ويجدر في هذه الـحالة أن يُـميّز منذ هذا التاريخ بيـن تبعة الدولة العثمانية الـمقيميـن في سوريا الذين يصبحون سورييـن مع الاحتفاظ بأحكام الـمادة الثانية من ذلك القرار، وبيـن تبعة تلك الدولة الـمقيميـن موقتاً في سوريا وأصلهم من إحدى البلاد التي انسلخت عنها، فهؤلاء يعتبرون أجانب. أما السوريون الـمقيمون في لبنان فيحق لهم حفظ جنسيتهم السورية دون أن يضطروا إلى نقل سكناهم إلى خارج دولة لبنان الكبير. وما هذا التدبير إلا متقابل بيـن لبنان وسوريا، إذ على دولة سوريا أن تقبل اللبنانييـن عندها بنفس الشروط. وعليه فيسمح بدوام هذا التدبير للسورييـن واللبنانييـن بدوام إقامة كل منهم في أراضي إحدى الدولتيـن.
«أما الأرمن الـمهاجرون من تركيا إلى الأراضي السورية فلا يستثنون من شيء، إذ هم عثمانيون أقاموا في سوريا بتاريخ 20 آب 1924 فيعتبرون سورييـن إن لم يختاروا جنسية إحدى الدول التي انسلخت عن تركيا، ولم ينقلوا مسكنهم إليها خلال اثني عشر شهراً على اختيارهم الـجنسية التي يريدونها.
«تُعيّـن بقرار يصدر فيما بعد شروط الدخول والـخروج من الـجنسية السورية داخل الدول الواقعة تـحت الانتداب الفرنسوي. وعلاوة على ذلك فإن الـملتجئيـن إلى لبنان الكبير قد أعطيت لهم بطاقة تثبّتهم في الـجنسية اللبنانية، إذ إنه لم يجر شيء من هذا القبيل في سوريا. أكون مـمتناً لفخامتكم إن تفضلتم باتخاذ التدابير الكاملة لتنظيم هذه الـحالة نهائياً.»
هذا الكتاب وقوانيـن الـجنسيات في سورية تقضي على القومية السورية قضاءً مبرماً. وفي سورية رجال كثيرون وضعوا أنفسهم في مركز الزعامة بدون أهلية، لا يفهمون أنّ القضاء على القومية السورية، يعني القضاء على حرية سورية واستقلالها أو الـحؤول دون نيل حريتها واستقلالها، لأن تنازع الأمـم هو تنازع القوميات، وبقاء القوميات هو بقاء الأمـم.
هذه الـحقيقة التي يبتهج لها الفرنسيس في سورية لأنهم يدرون أنها سلاحهم الوحيد، ويبتهج لها قسم كبير من الشعب السوري لأنه لا يدري أنها طريقه إلى الـموت، هي ما يجب أن يكون أول قضية تبتدىء الأمة السورية بحلها.
في الـجزء الأول من سنة الـمجلة الـماضية عقدنا مقالة عنوانها «القضية الوطنية» (ص 81 أعلاه) بيّنا فيها بوضوح وجلاء أنه لا يوجد فروق تـميّز بيـن اللبناني والسوري أو بيـن السوري والفلسطيني. وأظهرنا فيها أنّ أقسام سورية الثلاثة هي أجزاء جسم كامل، وأقسام أرض يعيش فيها شعب واحد تـميّزه عن غيره أحواله وعوائده ومدنيته وتاريخه، وتوحده هذه الأمور عينها. وليس القصد أن نعود إلى سرد ذلك الآن، بل القصد من هذه الـمقالة أن نبيّـن خرق الرأي القائل بالاستقلال على طريقة القطع والبتر. فنحن نقول إنّ الاستقلال التام على هذه الطريقة غير مـمكن في مدة أجيال طويلة، فضلاً عن أنه استقلال إذا تـم كان أسوأ استقلال وأقلّ أنواع الاستقلال شأناً في التاريخ. ولا يليق بأمة ينتظر منها، متى تـمكنت من نيل استقلالها التام بدون تـجزئة أو بتر، أن تلعب على مسرح السياسة والعمران دوراً هاماً.
يوجد في العالم مجانيـن كثيرون يقولون بأمور غريبة لا يدركها إلا الـمجانيـن مثلهم. ولكننا لا نعتقد بوجود عاقل واحد يقول إنّ تقطيع سورية على هذه الصورة التي وضعتها لها الدولة الفرنسية تنفيذاً لـمآربها هو غاية ما يـمكن الأمة السورية أن ترمي إليه، أو أنه أفضل لها من بقائها جسماً واحداً كامل التركيب، ويطلب من العقلاء الآخرين تصديق ذلك.
قلنا إننا لا نريد في هذا البحث العود إلى الإدلاء بالـحجج على أنّ الـجنسية السورية واحدة في دمشق وحلب والعلوييـن وجبل الدروز ولبنان وفلسطيـن وسائر أقسام سورية الأخرى، بل إنّ ما نريده هنا هو تأكيد الضرر الكبير الذي يعود من تقسيم الأمة السورية إلى دويلات متعددة لها جنسيات متعددة.
الـمعروف حتى الآن فيما يختص باستقلال الأمـم أنّ الاستقلال يقوم على قوتيـن تنظمان في عِلميـن. أما القوتان فهما قوة الرجال وقوة الـمال، وأما العِلمان فهما علم السياسة وعلم الـحرب. وكل بحث في الاستقلال لا يكون مرجعه هذين العِلميـن لا يـمكن التوصل فيه إلى نتيجة مرضية. لذلك يجب علينا أن نبحث في استقلال سورية بالاستناد إلى هذين العِلميـن الأساسييـن.
سورية كما عرفناها أثناء درسنا التاريخ والـجغرافيا، هي البلاد الواقعة بيـن ترعة السويس وجبال طورس وبيـن بلاد العرب والبحر الـمتوسط، وعدد سكانها نحو أربعة ملاييـن نفس يـمكن أن تصير إذا ارتقت البلاد نحو عشرة ملاييـن نفس. وهي من هذا الوجه يـمكنها أن تلعب على مسرح التاريخ دوراً مجيداً يؤهلها له مركزها التاريخي الهامّ وشعبها الذكي النشيط. أما سورية التي نعرفها على عهد الاحتلاليـن الإنكليزي والفرنسي فهي مقاطعة صغيرة في شمال سورية لا يصح أن تسمى دولة بالـمعنى العصري، وهي سواء كانت مستقلة أو غير مستقلة فلا رجالها ولا مالها ولا مركزها يـمكّنها مِن أن تكون أمة محترمة ودولة مهابة، أو مِن أن تأتي شيئاً يستحق التسجيل في تلك الـمحكمة العليا التي تسمى التاريخ. وما يقال في سورية من هذا القبيل يقال في لبنان وحلب والعلوييـن وجبل الدروز وفلسطيـن وسائر الدول الأخرى. والبرهان الـمقنع على ذلك موجود في حالة الشلل الـمصابة بها البلاد من هذا التقسيم.
أما البرهان على حالة الشلل فظاهر في جميع القضايا الوطنية التي يطلب حلُّها من الشعب. ففلسطيـن الـمنفردة في مقاومة الـحركة الصهيونية والانتداب البريطاني تـجاهد كثيراً، دون أن يأتي جهادها بالغاية الـمطلوبة، لأن اليهود لا يزالون يتوافدون عليها، ويشترون أرضها، ويزاحمون أهلها على الـحكم مزاحمة الـمتفوق. وهذه حالة كان يـمكن أن تتغير كثيراً لو كانت سورية كلها قائمة بـمقاومة الـحركة الصهيونية. ولبنان الـمستقل بضرائبه ومصائبه يجاهد كثيراً أو قليلاً في مقاومة تغلُّب الـمصالح الفرنسية خصوصاً والأجنبية عموماً على الـمصالح الوطنية بدون جدوى، ويرغب في استقلال سياسي واقتصادي ولا يناله، ويطلب أن يحكم نفسه بنفسه ولا يجاب إلى طلبه، وقس على حال فلسطيـن ولبنان حال دمشق وحلب والعلوييـن والدروز وسائر الـمقاطعات الأخرى. وهذه الـحال تعود، كما بيّنا سابقاً، إلى حالة الانقسام الـموجودة فيها البلاد السورية. فإن الأقسام التي تؤلف ما يسمونه «الدول السورية» أقسام أصبحت لا حول لها ولا طول ولا قوة يـمكنها أن تستند إليها في تأييد مطاليبها. لذلك سمّينا استقلالها استقلالاً سخرياً، لأنه استقلال إذا كان حقيقة فهو استقلال وجوده وعدمه سيّان للسبب الذي بينّاه في الفقرة السابقة.