وردنا الـجزء الرابع من الـمجلد الـحادي عشر من رصيفتنا الكلية التي تصدرها في بيروت الـجامعة الأميركية، وفي جملة أبحاثه الـمفيدة بحث جديد في موضوع جديد يظهر أنه قد ابتدأ يأخذ دوراً جدياً هاماً. أما الـموضوع فهو إيجاد تفاهم بيـن اللغة العربية واللغات الإفرنـجية من حيث الألفاظ، وأما البحث فعنوانه «الألفاظ الإفرنـجية بحروف عربية» لصديقنا السيد توفيق قربان.
بعد اطلاعنا على بحث الصديق الـمذكور، رأينا أن نثبت هنا رأينا في الـموضوع والبحث كليهما لـما لهما من الأهمية في حياة اللغة العربية خصوصاً، لأن هنالك اقتراحات إذا عُمل بها أدتنا إلى حيث لا ندري. وإننا نبدأ الآن بقول كلمتنا في الـموضوع.
إنّ الأمـم والشعوب متى كانت منفردة، أي معتزلة الواحدة منها عن الأخرى، لا يـمكن أن تتألف منها وحدة تسمى «البشرية» أو «الإنسانية» على الإطلاق. فالبشرية أو الإنسانية وتطورها باعتبار أنها تركيب كامل لا يتم إلا إذا كانت أجزاؤها أو الأمـم التي تكوّنها مترابطة ترابطاً تاماً بتلك الواسطة الأساسية التي تسمى العقل البشري.
فالعقل البشري هو البشرية أو الإنسانية كلها متى كانت أقسامه على اتصال بعضها ببعض بـما يطلق عليه اسم «أفكار» أو «خواطر» تسير بيـن الأمـم كلها، فإذا لم يكن ذلك بَطُل أن يكون هنالك إنسانية كاملة بـمعناها العصري واقتصرت لفظة الإنسانية على التعبير عن الإنسان تـمييزاً له عن الـحيوان. ولا يتسنى لأجزاء العقل البشري أن تكون على اتصال بعضها ببعض إلا إذا توفرت لها وسائل التفاهم التي تـحمل إلى العقل السوري أو الـمصري فكر العقل الإنكليزي أو الألـماني مثلاً.
لا نظن أنه يوجد أمة ترضى اعتزال العالم لو خيّرت، أو تتمكن من ذلك إذا عقدت النية عليه. بناء عليه كان واجب كل أمة أن تسهّل وسائل التفاهم بينها والأمـم الأخرى الغريبة عنها. وبناء على هذه النظرية كان واجب الأمـم الناطقة بالضاد أن لا تقصّر في التفاهم مع الأمـم الأخرى.
«الألفاظ الإفرنـجية بحروف عربية» بحث يتناول نوعاً أو فرعاً من الترجمة الكاملة التي لا يتم تفاهم عقليات الأمـم إلا بها. وصاحب هذا البحث السيد توفيق قربان يرى أنّ عدم إمكان كتابة الألفاظ الإفرنـجية بحروف عربية كتابة تـجعل التلفظ بها كما هي في الأصل مـمكناً، نقص كبير يجب تداركه حالاً وسريعاً منعاً «للفوضى» في النقل عن الإفرنـجية. وهو يقترح إدخال علامات على العربية تستعمل لضبط الألفاظ الإفرنـجية ويُوضع لها نظام يلحق بالكراريس الـمدرسية التي يتعلمها الأحداث، فيخرجون قادرين على التلفظ بأية لفظة إفرنـجية كانت. وإذ ذاك لا نعود نسمع «عبارات مثل الآتية: جنابك تقدر... في البرتغالية O Senhor pode فيقول العربي الصميم O Senhor bode أي البعيد «جنابك تيس».»
إنّ منع الفوضى في النقل إلى العربية أمر جوهري، ولكن رأينا فيه يختلف كثيراً عن رأي الصديق توفيق. فنحن نرى أنّ ما يترتب علينا عمله هو إيجاد قاعدة للترجمة يتقيد بها الـمترجمون فقط، لا إيجاد قاعدة تُدخِل على اللغة العربية تـحويراً هي في غنى عنه. ففي البلدان التي يتكلم أهلها العربية لا يوجد pode ولا bode بل يوجد إمكانية ومقدرة، ولا يحتاج لتعلم pode و bode إلا من يريد أن يهاجر إلى البرازيل أو البرتغال، أو من يريد الإطلاع على اللغة البرتغالية وآدابها. وهذان فقط يترتب عليهما أن يتعلما قواعد اللفظ البرتغالي. وعلى مثل هذين يترتب تعلم قواعد التلفظ بأية لغة يريدان أن يعرفاها أو أن يعيشا بيـن بنيها. أما أبناء العربية فلا يحتاجون إلى تـحوير لغتهم لكي يتمكنوا من التلفظ بألفاظ أجنبية لا يدعو عددها إلى اتخاذ مثل هذه الـخطة، فضلاً عن أنه يـمكن الاستغناء عن التلفظ بها بالكلية.
كما استغنت العربية عن التحوير والإصلاح لكي يصبح التلفظ بأسماء أفلاطون وأرسطوطاليس وشيشرون كما هي في الأصل مـمكناً لكل ناطق بالضاد، كذلك تستغني العربية عن مثل اقتراح صديقنا السيد توفيق قربان لكي يصبح التلفظ باسم الأستاذ «داي» الذي هو في الأصل Day مـمكناً كذلك.
يقول السيد توفيق قربان إنه يجب إدخـال حرفي P وV «وعلامــات إمالــة» على اللغـــة العربيـــة لكي يتمكن كل نــاطق بالضــاد أن يـمثل أحرف الـ ö الـجرماني والـ ü الـجرمـاني والـ u الفرنسـي والـ o الإنكليـزي و الـ a الإنكليـزي والـ e اللاتينـي والـ g اللاتيني والـجرماني كما هي في الأصل. قلت غفر الله للصديق توفيق هذا الـخطأ، فما أغنانا عن كل هذا العناء الكبير.
لو أردنا العمل بـموجب اقتراح الصديق توفيق لوجب علينا أن نأتي بأساتذة جرمانييـن ولاتينييـن لتعليم الأحداث إخراج أصوات الأحرف الـمذكورة متى رأوا علامات الإمالة الـموضوعة لها، أو لوجب علينا على الأقل أن نرسل ألوف الأشخاص لتلقن ذلك والعودة إلى تلقينه في مدارسنا، وبعد أن يتعلمه الصغار يرون أنّ استعماله ليس ضرورياً لهم على الإطلاق.
إنّ الفوضى التي يخشى صديقنا السيد توفيق من دوامها يـمكن إبطالها بتنبيه الـمترجميـن إلى أنهم يجب أن يكونوا على معرفة من اللغات التي يترجمون عنها، وأن يكون لهم اصطلاح لنقل الأسماء الإفرنـجية على صورة متفق عليها منعاً للاختلاف والتشويش. ولا بأس أن نورد للقراء فقرة بهذا الصدد من مقال الصديق توفيق قربان، لو كان الـمقال كله على نـمطها لكان وفّى بالـمراد بدون أن نحتاج إلى ما يشبه العمليات الـجراحية الغريبة. والفقرة كما يأتي:
«هذا بشأن الأصوات والأحرف غير الـموجودة رسمياً في العربية. ولكن في الإفرنـجية أحرفاً يحصل الـخطأ في نقلها مع أنّ في العربية ما يقابلها، والسبب جهل الناقل بعض أحرف اللغة الـمنقول عنها. فالذين يعرفون الإفرنسية ينقلون كل ch بصورة ش مع أن ch الإنكليزية والإسبانية تش والـجرمانية خ والإيطالية ك. والذين لا يعرفـون الإيطاليـة ينقـلون بصـورة gi جـي حال كونها دجي. وهكذا الـ ciالإيطالية فإنهم ينقلونها سي مع أنها تشي فيقولون دي مدسيس والصحيح دي مديتشي.
ومثلهم الذين ينقلون الـ j الـجرمانية جيماً مع أنها ياء والـ j الإسبانية جيماً مع أنها خاء. والـ h البورتغالية هاء مع أنها ياء. وعلى ذكر هذه الهاء أذكر أنني سمعت من مصدر رسمي أنّ نائب البرازيل وعصابة الأمـم، غستون دا كنيا أصيب بالفالج لأن اسمه ظهر في الـمجلات العربية هكذا غاستاو دا كنها.»
مثل هذه الفقرة يجب أن يكتب لكي يفهم الـمترجمون في أي ضلال يخبطون وفي أي أودية يهيمون. بيد أننا نـجد في هذه الفقرة أيضاً ما يؤيد كلامنا بشأن العناء الكبير في تنفيذ اقتراح الصديق توفيق. فالسيد توفيق يعرف تـماماً أنّ حرف خ العربي لا يقوم مقام حرفي ch الـجرمانييـن وأنه لا يـمكننا التلفظ بهذين الـحرفيـن الـجرمانييـن تـماماً إلا إذا سمعناهما من شخص جرماني، وقس على هذا صعوبات بعض الأحرف التي لا تقارن هذه الصعوبة بصعوبته.
ليس من الواجب على كل ناطق بالعربية أن يعرف كيفية لفظ الأسماء الإفرنـجية حسب الأصل، كما أنه ليس من الواجب على الفرنـج أن يعرفوا كيفية لفظ الأسماء العربية حسب أصلها. ولعمري ما هي الفائدة التي تعود على الـمتكلم بالعربية من معرفة اسم John أو Day أو غيرهما من الأسماء التي يعرض ألوف مثلها في الروايات، وهي لا تكون على الـحقيقة ذات جدوى وليس في تـحويرها ما يجلب الـخوف أو القلق. أما الأسماء والألفاظ التي يخشى عليها من الضياع فهي قليلة جداً، ومتى كان هنالك اصطلاح متفق عليه للترجمة حصل التأميـن الـمطلوب عليها. ونظن أنّ أسماء شيشرون وأرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط أمينة من الضياع كما هي في تركيبها العربي بقدر ما هي أمينة في تركيبها الفرنـجي. وكما اصطلحنا على هذه الأسماء واصطلح الفرنـج على أسماء «الوادي الكفير» للوادي الكبير و«الهمبرا» للحمراء و«ترافلغار» للطرف الأغر، كذلك يـمكننا أن نصطلح على غيرها من الأسماء والألفاظ التي لا نظن أنّ أهميتها لدارس العلوم على أنواعها تزيد على أهمية الألفاظ الـمذكورة.