تـجري الأمـم في انتخاباتها العامة على خطتيـن مختلفتيـن، الواحدة منهما بالتصويت الـمباشر والأخرى بالتصويت الثانوي وتعرف بالطريقة الثانوية، وهي التي تـجري عليها الولايات الـمتحدة.
الطريقـة الثـانويـة
عندما يجري الانتخاب في الولايات الـمتحدة، لا نسمع إلا أسماء الـمرشحيـن لرئاسة الـجمهورية ونيابة الرئاسة الذين يأخذون في إبداء الآراء وإقامة الوعود التي يريدون التمشي عليها متى قبضوا على أزمة الأحكام كل حسب آرائه ووعوده. وهؤلاء يشتهرون كثيراً وتتناولهم الصحف. ولكننا قلّما نعرف شيئاً عن سير الانتخاب ولا عن الأشخاص الذين يصوِّت لهم الشعب حقيقة، والذين يُطلَق عليهم في تلك البلاد إسم مُنتخِبي الرئاسة. وهؤلاء يبقون مجهوليـن ولا يشتهرون مطلقاً لا قبل الانتخاب ولا بعده رغماً من أنهم من الأهمية بـمكان عظيم لأنه عليهم يتوقف الانتخاب الذي يُعمل بـموجبه. فإذا لم ينل أحد الـمرشحيـن للرئاسة الأكثرية بينهم، يعود حق الانتخاب إلى مجلس النواب أو الـممثليـن.
الإيضاح على ما تقدَّم هو أنّ الـمصوتيـن في الولايات الـمتحدة يعطون أصواتهم أو قوتهم الانتخابية لأشخاص معيّنيـن يُسمّون منتخِبيـن، وهؤلاء يصوتون بدورهم للمرشحيـن. أما حقيقة ما هم معيّنون لأجله فهي كما جاء في كتاب الـجمهورية الأميركانية وحكومتها لـمؤلفه ج.أ. وُدبرن، أن يقفوا بأمانة في جانب مرشح الـحزب وأن يُسجلوا النتيجة التي انتُخبوا رسمياً لتأديتها. وقد قال الـمؤلف الـمذكور أيضاً:
«قد يُعيَّـن الـمنتخِب لا لسبب سوى أنه خطيب جيد، وقد يُنتظر منه أن يجلب دائرته إلى الـحزب الذي ينتمي إليه، وهو قد يؤمل من وراء ذلك تعييناً أو مكافأة من الـحزب بعد انتصار مرشحه.»
هذه الطريقة التي بـموجبها يصوّت مصوّتو الولايات الـمتحدة لـمنتخبي الرئاسة هي ما ينطبق على الـمادة الثانية من دستور تلك البلاد الذي ينص على ذلك ما يأتي:
«تعيِّـن كل ولاية، كما قد يشير به الـمجلس التشريعي، عدداً من الـمنتخبيـن مساوياً لعدد الشيوخ والنواب الذين يخوَّلون للولاية في الـمؤتـمر. ولكن لا يـمكن لأحد الشيوخ أو الـممثليـن أو أي شخص معهود إليه عمل استئمان أو أرباح في الولايات الـمتحدة أن يعيَّـن منتخباً.»
وقد احتيط لذلك في التحوير الثاني عشر للقانون الأساسي بأن:
«يجتمع الـمنتخبون في ولاياتهم ويصوّتوا بالقرعة لرئيس ونائب رئيس الـجمهورية اللذين واحد منهما على الأقل يجب أن لا يكون من ذات الولاية معهم.»
أما الباعث على هذا النهج في انتخاب رئيس الـجمهورية ونائب الرئيس فتعليله أنّ واضعي القانون الأساسي لم يروا من الـحكمة أن يتركوا اختيار الرئيس لـجمهور الـمصوتيـن خوفاً من أن لا يكون الـمصوتون محافظيـن وأذكياء إلى درجة يتمكنون معها من القيام باختيار نزيه مفيد.
إختيـار الـمنتخِبيـن
قد تعيَّـن في الولايات الـمتحدة أن يكون يوم الثلثاء الأول بعد يوم الإثنيـن الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني اليوم الذي يجري فيه انتقاء منتخبي الرئاسة، ويُعرف هذا اليوم بيوم الانتخاب. وفي حالة نزاع أو جدال حول انتخاب منتخِب أو مُنتخِبيـن، فإن منزلة الشخص الـمنتخب رسمياً تعيَّـن بـموجب ما تنص عليه قوانيـن الولاية بشرط أن يكون القانون الـمراد قد صادق عليه الـمجلس التشريعي للولاية قبل يوم الإثنيـن من شهر يناير/كانون الثاني بستة أيام، وذلك لأن الـمنتخبيـن يجب أن يجتمعوا ويلقوا أصواتهم يوم الإثنيـن الثاني من شهر يناير/كانون الثاني. وفي هذا اليوم عندما يلقي الـمنتخبون قرعهم للرئيس ونائب الرئيس، تُؤخذ ثلاث نسخ بعدد القرع الـملقاة ويُلصق بكل نسخة قائمة مقررة بأسماء الأشخاص الـمختارين رسمياً ليكونوا منتخبي الرئاسة يطّلع عليها ناظر كل ولاية، كما جاء في كتاب الـحكومة الأميركية لغوص الذي نـجد فيه أيضاً ما يأتي:
«هذه التقارير الثلاثة يجب أن تقفل جيداً ويوضع على كل منها شهادة بأنها تتضمن نتيجة الانتخاب. واحدة من هذه النسخ الـمقفلة تعطى لشخص يعيّنه الـمنتخبون ويأتـمنونه كتابة لإيصال تلك النسخة إلى رئيس مجلس شيوخ الولايات الـمتحدة قبل يوم الأربعاء التالي. وواحدة أخرى تُرسل إلى رئيس مجلس الشيوخ مع البريد.
والثالثة توضع عند قاضي الولايات الـمتحدة الـمعيـَّن للمقاطعة التي يجري فيها الانتخاب.
«يجتمع مجلسا الـمؤتـمر في مجلس النواب الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأربعاء الثاني من شهر فبراير/شباط بعد اجتماع الـمنتخبيـن ليشهدوا عدَّ أصوات القرعة. يترأس الاجتماع رئيس مجلس الشيوخ، ويعيّـن اثنان من كل من الـمجلسيـن ليكونوا مُبلّغيـن، وذلك قبل الاجتماع في مجلس. يفض رئيس مجلس الشيوخ غلافات القرع الـمرسلة من الولايات الـمتحدة أثناء الاجتماع الواحد بعد الآخر حسب الترتيب الهجائي مبتدئاً بحرف ألف، وتعلن للمجتمعيـن نتيجة كل قرعة على حدة. وأخيراً تقرّر وتعلن النتيجة النهائية.»
حـوادث العقبـات
إذا كان هنالك اعتراض على اقتراعات الـمنتخبيـن الـمرسلة من بعض الولايات، فعندما يجتمع الـمجلسان بعد ظهر يوم الأربعاء الثاني من شهر فبراير/شباط ليشهدا عدّ أصوات الـمنتخبيـن، فالاعتراض يجب أن يقدم حينئذٍ كتابة ويجب أن يكون موقعاً بإمضاء شيخ واحد ونائب واحد على الأقل. ويقول غوص صاحب الكتاب الـمشار إليه إنّ مجلس الشيوخ ومجلس النواب ينسحبان إذ ذاك للاجتماع على انفراد والنظر في الاعتراض أو الاعتراضات الـمقدمة. وفي أثناء الـمناقشات في صحة قرعة بعض الولايات لا يـمكن اتخاذ أي نوع من الإجراءات في ما يختص بإرساليات الولايات الأخرى، ولا يـمكن توقيف الـمؤتـمر لآخر فرصة إلا من يوم إلى يوم كما يظهر، ويستثنى من ذلك يوم الأحد ولكن بعد مرور خمسة أيام لا تعود الراحة مـمكنة قبل الانتهاء.
إنتقـاد هـذه الطريقـة الانتخابيـة
كل ما نسمعه من انتصارات الأحزاب غير القانونية أو التي تدل على تـحيّز أو شيء من الـمواربة، حتى أصبح شائعاً في العالم أنّ الانتخاب في الولايات الـمتحدة يجري تـحت تأثير الأموال التي تبذل في هذا السبيل، يعود إلى هذه الطريقة الانتخابية التي كثيراً ما تكون غير عادلة وغير منطبقة على رغائب الأمة التي لا يندر أن تكون في جانب مرشح في التصويت الأول، فترى نفسها بعد تصويت الـمنتخبيـن في جانب مرشح آخر على غير قصد منها ودون أن تعرف لـماذا. ومع أنه لا يحدث في الولايات الـمتحدة مشاغب من جراء هذه الـخطة، فلا يـمكن القول إنها الـخطة الـمثلى التي يؤيدها شعب تلك البلاد. فالـمؤلف وُدبرن الذي أتينا على ذكره يقول إنّ عدم الرضى عن «الكلّية الانتخابية» أو الـمنتخبيـن الآنفي الذكر قد كثر في السنيـن الأخيرة، إذ لـمّا كانت الكلّية الـمذكورة تخضع لعمل حزبي فهي أصبحت تعتبر عدة آلية يحسن التخلي عنها.
ولكي نكون مستندين في تخطئة هذه النظرية الانتخابية والقول بالعدول عنها إلى براهين صحيحة لها منزلة كبيرة من الأهمية والاعتبار في حياة الأمـم السياسية، نأتي هنا على نتائج بعض انتخابات الولايات الـمتحدة التي أشار إليها ر.هـ. فولر في كتابه حكومة الشعب وهي كما يأتي:
«إنّ أحرج انتخاب رئيسي في الولايات الـمتحدة كان سنة 1884 عندما انتصر الـمرشح الديـموقراطي غروفر كليفلند على الـمرشح الـجمهوري ج. بلاين. فإن التصويت العمومي لـمنتخبي الرئاسة الـمعيَّنيـن من قِبَل الـحزب الديـموقراطي كان 4,854,986 صوتاً في حيـن أنّ منتخبي الرئاسة الـمعيَّنيـن من قبل الـحزب الـجمهوري نالوا 4,855,511 صوتاً. بناء عليه كان لبلاين 25 صوتاً زيادة على كليفلند في مجموع أصوات الـحزبيـن اللذين كانا مرشحَيهما الذي بلغ 9,759,997 صوتاً. ولكن في «الكلّية الانتخابية» نال كليفلند 219 صوتاً ونال بلاين 182.
«يعود ما تقدم إلى أنّ الـمنتخبيـن الديـموقراطييـن ربحوا ولاية نيويورك بزيادة 1,129 صوتاً في مجموع أصوات الـحزبيـن الرئيسييـن الذي بلغ 1,125,159. وهذا أعطى كليفلند الستة والثلاثيـن صوتاً انتخابياً في الولاية الـمذكورة. ولقد أيدت نتيجة هذا الانتخاب عظم أهمية منع الـخيانة أو التواطؤ في إلقاء وعدّ الأصوات، وأيدت كثيراً التصديق على قوانيـن التحوير الانتخابي. انتقال 575 صوتاً فقط من الـحزب الديـموقراطي إلى الـحزب الـجمهوري كان يغيّر النتيجة.
«مع أنّ كليفلند الـمذكور نال أكثرية في التصويت العمومي سنة 1888 فإنه اندحر أمام بنياميـن هريسن الـجمهوري. كان التصويت الكامل للمنتخبيـن الديـموقراطييـن 5,540,329 صوتاً مقابل 5,439,853 صوتاً للمنتخبيـن الـجمهورييـن. وهكذا يكون الـمنتخبـون الديـموقراطيـون قد نـالوا 100,476 صوتـاً زيـادة على مـا نـاله منتخبـو الـجمهورييـن. ولكنَّ الستة والثلاثيـن صوتاً انتخابياً في ولاية نيويورك قرّرت في هذه الـمرة أيضاً النتيجة الـحاسمة، فإن الـمنتخِبيـن الـجمهورييـن ربحوا الولاية بزيادة 13,002 في تصويت كامل للحزبيـن بلغ 1,284,516. ففي «الكلية الانتخابية» نال هريسن 233 صوتاً مقابل 168 صوتاً لكليفلند.»
إنّ الطريقة الثانوية في الانتخابات ليست بالطريقة التي تكفل حقوق الأمة وتنطبق على رغائبها تـماماً، وهي دائماً وأبداً عرضة للتلاعب وأحياناً تكون أشبه بالـمقامرة. فكثيراً ما يكون أنّ أمة تقرر بواسطة التصويت العمومي انتخاب شخص ترغب فيه لرئاسة جمهوريتها أو مجلسها، ثم لا تلبث أن ترى شخصاً آخر يرتقي ذلك الـمنصب دون أن تدري كيف ولـماذا، بل كل ما تعرفه عنه أنه انتخب «بواسطة القانون» كما حدث ويحدث في الولايات الـمتحدة.
من الغريب أن تظل الولايات الـمتحدة إلى الآن تتمشى على هذه الطريقة الانتخابية الكثيرة التشوُّش مع ما هي عليه تلك البلاد من الارتقاء في الغنى والعلوم والـمعارف، ورغماً من أنّ أفراد طبقاتها بالغون من ارتقاء الـمدارك حدّاً يؤهلهم لأن يقرروا بأنفسهم مصير حكومتهم. ولكن مهما يكن من هذا الأمر، فإننا نعتقد أنّ بقاء تلك البلاد على الطريقة الثانوية في الانتخاب متأتٍ عن عدم احتياج الأمة الأميركية إلى استعمال الصرامة والشدة في تأييد رغائبها وتنفيذها بالـحرف. فالولايات الـمتحدة لم تدخل حتى الساعة في عمل عالـمي حاسم يضطرها إلى التشديد في وضع الرجل الذي تختاره هي على كرسي الرئاسة.
الأمة التي تتمشى في الانتخاب على الطريقة الثانوية وتسلم من الـمشاغب والإجحاف نادرة في العالم، والأمة التي تـجري على هذه الطريقة في انتخاباتها لا تكون هي قائمة بانتخابات بل تكون قائمة بـمضاربة ومقامرة فعلية.