منذ حادثة تلك الليلة الليلاء التي جرت سنة 1902، حين دخل رياض، عاصمة نـجد، تسعة فرسان تتقد أعينهم اتقاداً مخيفاً، وتدلُّ هيئتهم العبوسة على أهمية الأمر الذي أقدموا عليه وذهبوا توّاً إلى قصر الـحاكم الـمولّى من قبل آل الرشيد وقتل رئيسهم الشاب الـحاكم بطعنة خنجر نـجلاء وتكفّل الباقون بأهل القصر ــ منذ حادثة تلك الليلة التاريخية الشهيرة في بلاد العرب التي انتهت بنجاح مهمة أولئك الفرسان التسعة ووقوف واحد منهم على سطح القصر الذي استولوا عليه صائحاً بأعلى صوته «الـملك لله ولابن السعود!»، ابتدأ تاريخ فاتـح عربي جديد له هيبة أمراء العرب الـمشهورين وصولة الغزاة الفاتـحيـن، تـجول في مخيلته خواطر تفوق في غرابتها خواطر ألف ليلة وليلة، وتـجيش في صدره مطامح هي أبعد كثيراً من الاستيلاء على رياض أو نـجد بكاملها.
إنّ تاريخ عبدالعزيز آل سعود الفاتـح العربي الـجديد الذي حمل إلينا البرق خبر غارته الـجديدة واستيلائه على مكة الـمكرمة قلب الإسلام، لَـمِنَ التواريخ الـجامعة بيـن غرابة الـحقيقة ودهشة الواقع وروعة الـخيال ولذة الرواية. بل هو رواية حقيقية مدهشة بطلها يلعب الآن على مسرح البلاد العربية ورمالها الـمحرقة دوراً رائعاً يخلب الألباب ويذهل العقول.
البطـل
عبدالعزيز آل سعود موصوف بالـحزم والشجاعة وقوة الإرادة والورع، لا يضطرب لقيادة الـحملات وشن الغارات ولا يعرف في أعماله خوفاً ولا رهبة. وهو كريـم الأخلاق يرفق بأعدائه الساقطيـن، يقدم هو على الأمر الـخطير بعد إعمال الروية والتدقيق، ويعرف كيف يغنم الفرص متى سنحت. وهو طويل القامة يزيد طوله على ستة أقدام إنكليزية، متناسق التركيب قوي البنية شديد الأسر، قضى أيامه الـماضية على صهوات الـخيل حتى أصبح فارساً مرّاً ومثالاً للقوة الطبيعية.
لا يتجاوز عبدالعزيز السابعة والأربعيـن، وهو كريـم الـمحْتِد عريق في الشرف. كان آباؤه وأجداده أعظم أمراء العرب من قبله وأعرضهم جاهاً وأبعدهم صيتاً وأرهبهم جانباً. وكانت لهم مع الدولة العثمانية وقائع مشهورة كانوا هم الفائزين فيها إلى أن حاربهم محمد علي باشا بعد أن استنجد به السلطان محمود خان الثاني. وظلت حروب محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا معهم من سنة 1811 إلى سنة 1819، وانتهت تلك الـحروب بأن الـجيش الـمصري قهرهم وحصرهم في نـجد.
صولـة آل سعـود
ابتدأت صولة آل سعود في أوائل القرن الثامن عشر، أي منذ اليوم الذي أجار فيه الأمير محمد آل سعود في الدرعية محمد عبدالوهاب الذي تنسب الوهابية إليه، من شيخ «العينية» مسقط رأسه الذي أراد قتله أو نفيه بناء على الأمر الصادر إليه من أمير «الـحساء». وقد ساعد الأمير محمد آل سعود الشيخ محمد عبدالوهاب على نشر تعاليمه التي نلخصها في ما يأتي:
أداء الصلاة خمس مرات في اليوم، وصوم رمضان، والامتناع عن الـمسكرات، ومنع البغاء والـميسر والسحر والربا والتدخيـن، وتفريق جزء من مائة من الأموال الزكاة على الفقراء، والتشديد في عقاب شهادة الزور، والـحج مرة على الأقل في العمر، ومنع الرجال من لبس الـحرير، وهدم الـمزارات وقبور الأولياء، وقتل الـمشركيـن.
وكان أول من تصدى لـمقاومة الأمير محمد والـمذهب الوهابي بالقوة هو ديهم بن دواس الذي كان آنئذٍ حاكم رياض، فحاربه ابن السعود وقهره. فكان النصر مشدداً لعزيـمة الأمير محمد وفاتـحة عهد صولة آل سعود.
أخذ أشياع الـمذهب الوهابي يتكاثرون بعد ذلك، واشتدت أواصر القربى بين آل سعود ومحمد عبدالوهاب بأن الأمير محمداً الـمذكور اقترن بابنة الشيخ محمد عبدالوهاب، التي ولدت له ابنه عبدالعزيز السعودي الأول. فقام عبدالعزيز هذا بعد موت والده بأعمال عظيمة وفتح فتوحات كثيرة، ومات قتلاً سنة 1802 إذ غدر به رجل فارسي. فخلفه ابنه سعود الذي نسج على منوال أبيه وهدد الدولة العثمانية في سورية والعراق، وتوجه إلى الـحجاز وافتتح مكة في 27 أبريل/نيسان سنة 1803.
وبعث على أثَر ذلك بكتاب إلى السلطان سليم الثالث ينبئه بأنه استولى على البيت الـحرام وهدم أشباه الوثنية وأبطل ما كان على غير حق من الضرائب وما إلى ذلك.
واستأنف بعد ذلك فتوحاته في الـحجاز واستولى على الـمدينة الـمنورة. وبلغت حدود سلطنته سنة 1809 صحراء سورية من الشمال وبحر العرب من الـجنوب وخليج العجم من الشرق والبحر الأحمر من الغرب.
أخيراً جاءت الـحرب التي أقامها على الوهابييـن محمد علي باشا وابنه ابراهيم باشا. وقد ذكرنا كيف انتهت تلك الـحرب في ما تقدم. ولكن تلك الـحرب لم تقضِ على صولة آل سعود بالـمرة، فبقي هؤلاء أسياد نـجد بلا منازع إلى أن أثارت عليهم الدولة التركية آل الرشيد وبعض شيوخ آخرين، فلم يقوَ آل سعود على مقاومتهم والدولة التركية تعضدهم. وهكذا استفحل أمر آل الرشيد خصوصاً سنة 1892 فشتتوا آل سعود واستولوا على عاصمتهم رياض. وكان أمير آل سعود حينئذٍ عبدالعزيز الـحالي وله من العمر 15 سنة، فأخذ هذا من بقي له من الـمخلصيـن وسار هائماً بهم في البراري والقفار إلى أن استقر أخيراً في الكويت عند أميرها مبارك الصباح، الذي اتفق مع أمير الـمحمرة خزعل خان على معاضدته.
أحـلام الأميـر الشريـد
ترك عبدالعزيز آل سعود نـجداً وهو منسحق القلب مشتت البال. ولا عجب في ذلك فهو قد رأى نفسه مقهوراً ومطارداً من رجال كانوا رعايا لأسرته، ووجد مُلكه تـمزقه الأعداء كل مـمزق، فكبر عليه ذلك كثيراً. ولكنه تـمكن بقوة الإرادة من تـمالك نفسه والتغلب على أحزانه معللاً النفس بالعودة إلى سابق عزه ومجد آبائه السالف، لاهجاً في وحدته وانفراده بقول الشاعر:
سـقى الـلـه نـجداً والسـلام على نـجدِ
ويـا حـبـذا نـجدٌ على الـقـرب والـبـعـدِ
على هذا الـمنوال قضى عبدالعزيز أيامه الطويلة القصيرة في الكويت يفكر بنجد وعرار نـجد. ولكن لا بد أن يكون فكره قد تعدى ذلك الـحد القصير، فهو أمير وللأمراء أحلام ألذَّ وأحلى من حب نـجد والتمتع من شميم عرار نـجد. ولـما كان عبدالعزيز لا يزال حينئذٍ في ريعان الشباب ومقتبل العمر، فمن الصعب جداً أن نحدد أو نَصِف الأحلام التي كان يحلمها ويعلل النفس بتحقيقها. ولقد رأى هو من الأميرين مبارك الصباح وخزعل خان ما قوَّى أمله وشدَّد عزيـمته. والـحق يقال إنّ عبدالعزيز صبر على بلواه صبراً جميلاً أظهره بـمظهر الرجل الكبير، ولم يجعل لليأس مجالاً إلى قلبه بل أخذ يضع الـخطط ويعدّ الأهبة للعودة إلى رياض عاصمة مُلكه السابق والانتقام من آل الرشيد انتقاماً يجعلهم عبرة لسواهم.
الضربـة الأولى
أخيراً جاء اليوم الذي انتظره عبدالعزيز بذلك الصبر العربي الذي لا مثيل له، وهو يوم يتوقف عليه تـحقيق آماله وأحلامه أو خيبتها. ففي ذلك اليوم أجاب الأمير مبارك الصباح الأمير عبدالعزيز آل سعود إلى طلبه وأمدَّه بثمانيـن هجاناً على ما هو معروف، كانت الـجيش الأول الذي قاده عبدالعزيز إلى استرجاع مُلكه بعد أن كان قد عاهد نفسه على القيام بعمل ينتهي بالـخلافة أو الـموت، كما ذكر ذلك أحد الكتّاب الأميركييـن.
أعدّ عبدالعزيز ذلك الـجيش الصغير وهيّأه على ما أراد، ثم سار به ووجهته رياض دون أن يشعر أحد بـما هو سائر إليه. والذين رأوه لم يخطر لهم قط أنه يريد أن يهاجم بهذه الشرذمة الصغيرة إمارة لها جيش كبير يدافع عنها. والـحقيقة أنّ عمل عبدالعزيز هذا شجاعة نادرة تعدّ مجازفة خطرة، ولكن في مثل هذه الأحوال يبان الرجل العزوم من الرجل الـمتخـاذل، وهي تخيّلات رجل طمّاح أتت بـما يعدّه البعض معجزات.
إلى رياض حيث بسط آل الرشيد سلطتهم على أنقاض سلطة آل سعود بـمعاونة الأتراك، سار عبدالعزيز برجاله القلال تتنازعه عوامل غريبة وتـجول في مخيلته خواطر عجيبة. حتى إذا ما بلغ ضواحي رياض خيم بجيشه إلى العشاء، وفي الليل أخذ ثمانية من رجاله فقط وانسلّ بهم إلى الـمدينة. فلما صاروا داخلها ذهبوا توّاً إلى قصر الإمارة دون أن تشعر الـمدينة الهادئة بشيء مـما يعملون.
وهناك صبروا إلى انتصاف الليل وحينئذٍ تسلقوا حائط القصر ودخل الأمير عبدالعزيز وحده على وكيل الرشيد الذي كان نائماً آمناً من طوارق الـحدثان، فلما وصل إليه انتضى من وسطه خنجراً محدَّد الطرف ورفعه في الهواء وهو ينظر إلى عدوه النائم نظر النسر الظافر، ثم طعنه طعنة نـجلاء وهو موقن أنه ضرب ضربة قاضية. فلما أنهى عمله كان رفاقه أيضاً قد انهوا عملهم مع من بقي في القصر. وفي الصباح فتح الأمير أبواب الـمدينة للغزاة الذين جاءوا معه وظلوا خارجاً، وصعد أحد الثمانية الذين دخلوا مع الأمير في الليل إلى سطح القصر ونادى «الـمُلك لله ولابن السعود.» وهكذا أعلن الأمير استرجاع إمارته، فجاء إليه من والاه وذهب مع آل الرشيد من عاداه.
منذ ذلك العهد ابتدأ ذلك العراك التاريخي بيـن أمير شاب يحارب في سبيل استرجاع مُلكه الـمغصوب وإشباع مطامحه التي تضيق بها رياض ونـجد بكاملها وبيـن أمراء يريدون تثبيت الـمُلك الذي اغتصبوه وبسطوا سلطتهم عليه. فكان عراكاً شديداً أظهر فيه عبدالعزيز عزماً وحزماً عظيميـن، فكان النصر أبداً حليفه فبطش بالرشيدييـن بطشة الأسد وشتت شملهم رغماً من مناصرة الأتراك.
بعـد حادثـة ريـاض
أخذ عبدالعزيز بعد تثبيت نفسه في رياض يوسع مُلكه ويزيد فتوحاته، فأقام جيشاً دائماً على تـمام الاستعداد كان يرسله عند الـحاجة دون أن يحتاج إلى تـحضيرات جديدة. أما كيفية ذلك التوسع فمدهشة جداً. ففي ذات يوم جميل يشاهد فارس غائر على جواد نـجدي من أطيب جياد العرب ووجهته قبيلة عربية ضاربة في بعض الأنحاء. فإذا ما بلغها قصد إلى الشيخ وطلب منه باسم السلطان ابن السعود سلطان نـجد تقديـم الـجزية، فإذا قبل الشيخ الطلب عنيت إجابته أنه صار في جانب الأمير عبدالعزيز أما إذا أبى ففي صباح ذات يوم جميل تشاهد غمامة سائرة نحو قبيلة ذلك الشيخ لا تلبث أن تنجلي عن فرسان سوّدت وجوههم الشمس وصبغهم الغبار على خيل كأنها السراحيـن تأزم الـحديد لشدة شوقها إلى الطراد، فتحدث معركة يخرج منها أولئك الفرسان ظافرين وقد أضافوا إلى انتصارات الأمير عبدالعزيز انتصاراً آخر يزيد في رهبة جانبه وشدة صولته. وأحياناً كان جيش عبدالعزيز يسير إلى غرضه ليل نهار بسرعة غريبة. وعلى هذه الطريقة يأمن لـحاق الـجواسيس أو الرسل. قد يسقط أثناء مسير الـجيش بهذه السرعة رجال يكثر عددهم أو يقلّ على نسبة الـمسافة والـمشقة، ولكن الـجيش يظل سائراً إلى أن يبلغ الـمكان ويدرك العدو قبل أن يتمكن هذا من الهرب أو الاستنجاد. وقد أسفرت هذه الـخطة عن نـجاح باهر في أدوار كثيرة.
رغماً من الصرامة التي كان يستعملها الأمير عبدالعزيز، فإن رعاياه الـجدد كانوا يخلصون له إخلاص رعاياه الأوليـن. ولقد كان ظافراً في كل حروبه حتى أخضع أواسط بلاد العرب كلها له. وقد كان شديد العقاب مع القبائل التي كانت تخرج عليه. أما القبائل التي كانت تدخل في طاعته فكانت تصير قسماً من إمبراطورية عربية كبيرة. ومن أفضل ما قام به الأمير الـمذكور التأميـن على الأموال والأرواح ومنع الغزو والسرقة، فأنشأ في بلاد العرب تاريخاً جديداً في السلام لم يكن معروفاً من قبل.
ظلت الـحال على هذا الـمنوال مدة خمس عشرة سنة فكان نـجم ابن السعود يزداد تألقاً ولـمعاناً. ولكنه مع ذلك بقي هو أميراً عربياً موضعياً رغماً من أنه كان أعظم أمراء العرب قوة وأشدهم سطوة، فأعدَّ هو إذ ذاك خطة هي خطة نابغة جريء وبضربة واحدة أظهر نفسه للعالم.
ظهـور ابن السعـود على مسـرح السياسـة العالـميـة
كان الأتراك الـمكروهون الذين كانت لهم السيادة الإسمية على بلاد العرب مستوليـن على الأحساء والقطيف، وهما أغنى قسم في شرقي بلاد العرب. كان يدفع أهاليهما للأتراك جزية سنوية. وكان للأتراك ثلاث فرق عسكرية هناك لأجل الـمحافظة، كانت تنقص على التوالي إلى أن أصبحت في أيام نهضة ابن السعود نحو 2,000 رجل أو أقلّ. ولكن الشأن الذي كان لابن السعود مع هذه الـجنود، وهي في أصغر عدد، من الشؤون التي تستحق الاعتبار.
عزم الأمير عبدالعزيز آل سعود على الاستيلاء على تينك الـمقاطعتيـن، فانتخب له ثلاثمائة فارس فقط وهاجم بهم الـحامية التركية في عاصمة الـحتوف حيث كانت نازلة. وقد أقدم على هذا العمل بعد أن أعدَّ له عدته، فقد كان له بعض الأحلاف في تلك الـمدينة الذين فتحوا له أبواب الـمدينة من الداخل فسقطت الـمدينة في يده من غير سفك دم تقريباً. وبسقوط العاصمة سقطت الـمقاطعة أيضاً، فكان من وراء ذلك أنّ مداخيل الأمير عبدالعزيز قد زادت أو تضاعفت.
كان لهذه الضربة وقعها الذي أبرز الأمير عبدالعزيز آل سعود إلى مسرح السياسة العالـمية. وكان بعد استيلائه على مقاطعة الأحساء أنّ بريطانية اعترفت باستقلال نـجد والكويت والـمحمرة سنة 1913.
عـدل ابـن السعـود
رفق عبدالعزيز بأعدائه الـمقهورين في الـحتوف رفقاً كبيراً وساعد الذين يريدون الرحيل منهم على السفر إلى البحرين، أما الذين فضلوا البقاء وأن يكونوا من رعايا الـحكومة الـجديدة فقد قوبلوا بكل مودَّة.
ولكي يقيم الأمير الغازي النظام والأمن في تلك الـمقاطعة أقام عليها حاكماً عبدالله بن الـجلوزي الذي أصبح مثالاً في كل بلاد العرب. فإن هذا الـحاكم كان يعامل الـمجرميـن والـخارجيـن على النظام بشدة جعلت أشد الغزاة شراسة يرتعد من الـخوف. وله أعمال مشهورة في هذا الباب منها أنه أمر مرة بجلد قافلة كاملة حتى الغيبوبة لأنها ارتكبت جريـمة إهانة أحد الرعايا العادييـن. أما الذين يسلبون القوافل فكان يأمر بقطع رؤوسهم وإلقاء جسومهم على الأرض يوماً كاملاً لتكون عبرة لكل من يراها.
أتت هذه الطريقة بالغرض الـمطلوب، فأصبحت الطرقات أمينة للغاية حتى إنه إذا سقط لأحد كيس أرز صدفة في الطريق فإن ذلك الكيس يظل في مكانه لا يـمسه أحد إلى أن يأتي موظفو الـحكومة لأخذه. ومن الـحوادث التي اشتهرت عن الـحاكم الـمذكور أنه أتاه في أحد الأيام بدوي وأخبره بأنه رأى في طريقه كيس بنّ في موضع كذا فقال له الـحاكم «كيف عرفت أنّ الكيس يتضمن بنّاً؟» فأجاب البدوي قائلاً «إني جسسته بإصبع رجلي»، وشرح الـحادثة. حينئذٍ نادى الـحاكم الـجلاد وقال للبدوي «مدّ رجلك الآن»، ثم التفت إلى الـجلاد الذي كان قد حضر وقال له «إقطع إصبع رجله.» ففعل الـجلاد كما أمره الـحاكم الذي التفت بعد ذلك إلى البدوي وقال له «إني أريد منك الآن أن تفهم أنك متى وجدت كيساً ملقى على الطريق يجب أن لا تـمسه بإصبع رجلك الطويل بل يجب أن تدعه وشأنه.»
على هذه الـخطة جرى أيضاً ضباط ابن السعود للقضاء على السلب والنهب والغزو التي كانت إلى ذلك الـحيـن مهنة رجال القبائل. وهكذا أصبح الأمير عبدالعزيز سلطان نـجد عند بداءة الـحرب أبرز شخصية في بلاد العرب، وصار مجلسه عنوان الكرم والضيافة الـحسنة. فبيته الـمفتوح دائماً لا يخلو من 150 ضيفاً على الأقل في كل حيـن. وأحياناً كان يوجد عنده في رياض عشرة أضعاف هذا العدد من الضيوف. فهو وإن يكن قاسياً في الـحرب فإنه بشوش ولطيف في مجلسه حتى لقد يعشقه الأولاد الصغار. وهو كثير السخاء لذلك لا ترى خزينته تنمو مع ما هي عليه من كثرة الـموارد. ففي عيد واحد ذبح هو 400 رأس غنم و93 جملاً لـجماعة من الـحجاج الزائرين. فلا عجب إذا كان رعاياه الذين يبلغون الـمليونيـن يحبونه كثيراً، وكثير منهم يفدونه بحياتهم في تلك البلاد التي يعيش فيها القوم على حفنة تـمر وجرعة لبـن في الوقعة حيث الـماء لا وجود له بكثرة، وأحياناً يكون قليلاً إلى حد أنه لا يكفي للارتواء الكثير، ولا يسمح بأخذ شيء منه للغسل. وكلنا نعرف ما هو لباس العربي الـمؤلف من عباءة تراكمت عليها الأوساخ ولصقت بها الزيوت والشحوم وقميص. ولكن العرب مع ذلك يعيشون بالـحروب، وهم كثيرو التديُّن كما نعلم وأكثريتهم تقرأ القرآن بسهولة.
عندما جاءت سنة 1914، كان الشيء الوحيد الذي يقلق نـجداً هو الشعور بأن البلاد كثيرة السلام. فكان الرجال الذين اعتادوا الـحرب يتعطشون إلى القيام بالأعمال الـحربية، لأن ذلك السلام الذي لم يعتادوه من قبل لم يرق لهم. أما عبدالعزيز فإنه لم يكن قد أنهى العراك بينه وابن الرشيد، فإن آل الرشيد كانوا لا يزالون يـملكون شمر في الشمال ولكنه كان يترقب الفرص.
العاصفـة بعد السكـون
إنّ الانفجار الـحربي الذي حدث في أوروبة سنة 1914 بلغ بلاد العرب كما بلغ غيرها من بلدان الغرب والشرق، فتشنجت نـجد تشنجاً غريباً ورأى السلطان عبد العزيز الفرصة سانحة لضرب عدوين لدودين في آن واحد. وهذان العدوان كانا آل الرشيد والأتراك.
إنّ العرب لم يحبوا مطلقاً الأتراك الذين استولوا على بلاد العرب وكانت لهم السيادة الإسمية عليها منذ سنة 1517، في حيـن أنّ سيادتهم الفعلية لم تـمتد إلى أبعد من بضعة أميال من الشاطىء. فلما استعرت نار الـحرب أعلن السلطان عبدالعزيز انحيازه إلى الـحلفاء وإلى بريطانية على الأخص، وابتدأ يضطهد الأتراك وآل الرشيد الذين انحازوا إليهم.
وبينما ابن السعود آخذ في إجراءاته ظهرت في الـجانب الغربي البعيد من بلاد العرب حركة تشابه حركته قام بها الـحسيـن بن علي وابنه فيصل. فإن الـحسيـن الذي كان حينئذٍ أمير مكة منذ سنة 1908 أعلن هو أيضاً انحيازه إلى بريطانية، فبعث إليه البريطانيون الكولونيل لورنس الشهير بتعليمات من مصر، فقابل هذا الكولونيل الأمير فيصل ووضع معه اتفاقية متينة في الغرب.
وكان لبريطانية في الكويت على شاطىء خليج العجم من الـجهة الشرقية لبلاد العرب قبطان اسمه شكسبير، فأرسلت بريطانية هذا القبطان إلى ابن السعود بـمهمة كالتي عهدت بها إلى الكولونيل لورنس مع الـحسيـن. وبيـن ابن السعود والـحسيـن وجد الأتراك وآل الرشيد أنفسهم بيـن نارين آكلتين.
إشتهـار الـحسيـن أكثـر من ابـن السعـود صدفـة
إنّ تاريخ ابن السعود أظهر أنّ هذا السلطان أفضل من الـحسيـن في كل شيء، فهو له سيـرة حقيقيـة قد تبـدو للحسيـن رواية خياليـة لغرابتها. ولكن حادثـة صغيرة لم يعبأ بها ابن السعود أو غيره جعلت الـحسيـن يتقـدم عليه في مجال السياسـة عند الدول الأوروبية.
يعود تاريخ الـحادثة الـمشار إليها إلى الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني سنة 1915، وهو اليوم الذي اشتبك فيه ابن السعود بـمعركة فاصلة مع ابن الرشيد. ففي تلك الـمعركة حدث أنّ القبطان شكسبير الذي تعيّـن من قبل بريطانية لإرشاد ابن السعود قُتل أثناء قيامه بـمهمة خصوصية. فكان لهذه الـحادثة تأثير كبير على ما جدّ بعد ذلك من الـحوادث لم يكد ينتبه إليه أحد.
كان من وراء هذه الـحادثة أنّ ابن السعود خسر ساعده الأيـمن بل عضده الوحيد في الـمخابرات الدولية أثناء الـحرب وبعدها، في حيـن أنّ الـحسيـن وابنه فيصلاً كانا يجنيان من وراء أعمال الكولونيل لورنس الثمار الشهية التي انتهت باستقلال الـحجاز وملكية الـحسيـن فيه وملكية ابنه فيصل في سورية أولاً والعراق ثانياً وآخراً. ولا يزال صدى أعمال الكولونيل لورنس الشهير في سبيل قضية الـحسيـن في مؤتـمرات أوروبة يرنُّ في آذان العالم إلى اليوم. بيد أنّ ابن السعود لم يبالِ بهذه الـخسارة، ولا ندري إذا كان ذلك بقصد أو بغير قصد، وظل يحارب بحماسة شديدة حتى تـمكن من الانتصار على الرشيدييـن انتصاراً نهائياً وإخراج الأتراك من قسمه في بلاد العرب.
في تلك الأثناء كان الأمير فيصل والأمير عبدالله يقودان بتدريب الكولونيل لورنس جيشاً عربياً آخر من رجالهما، وأخذا يدفعان الأتراك شمالاً على امتداد البحر الأحمر فأخلى الأتراك لقوات الـحسيـن الـمذكورة جدة ومكة والطائف. وهكذا خرج الأتراك من بلاد العرب كلها. فلما دحر الـجنرال اللنبي الأتراك نهائياً في الشمال البعيد في فلسطيـن، أمّنـت بلاد العرب على تـحريرها نهائياً من الأتراك وأصبحـت بلاداً حليفـة للحلفاء.
كان الـحسيـن عند ذلك الأقرب إلى اجراءات الـحلفاء، ولذلك عُرف عندهم أكثر من غيره. فنال من وراء ذلك بفضل مساعدة الكولونيل لورنس حصة الأسد من الغنيمة، فاستقل بالـحجاز واعترف الـحلفاء به ملكاً عليها. أما فيصل فعيـّن ملكاً لسورية كما نعلم ثم عيّـن بعد خروجه منها فاشلاً ملكاً على العراق، وهو باق هناك إلى اليوم.
ومن نكـد الدنيـا على الـحـر
لم يقف الـحسيـن عند حد استقلاله بالـحجاز بل رأى الفرصة سانحة لإبلاغ مطامحه حداً بعيداً، فاتفق مع بعض الذين التفوا حوله على إنشاء إمبراطورية عربية تشمل سورية كلها بـما فيها لبنان وفلسطيـن. ولا ندري إذا كانت قد وقفت عند هذا الـحد أو شملت مصر وتونس والـجزائر ومراكش أيضاً التي يدعى أهلها عرباً لأن فيهم دماً عربياً ولأنهم يتكلمون العربية أو لـمجرد أنهم يدينون بالإسلام. فأعلن نفسه سلطان أو ملك العرب، على أنّ الـحلفاء لم يعترفوا به إلا ملك الـحجاز، وذهبت مساعي فيصل ولورنس في مؤتـمر الصلح لإدراك هذه البغية أدراج الرياح.
رأى ابن السعود من وراء ذلك أنّ الـحسيـن قد تـجاوز حدوده وحدّث نفسه بـما لم يحدّث نفسه به هو نفسه الذي بلغ من السطوة والصولة ما لم يبلغه الـحسيـن ولايبلغه ولن يبلغه. ووجد أنّ في إعلان الـحسيـن نفسه ملك العرب إجحافاً بحقوق نـجد وتهديداً لاستقلال نـجد، فتلهّب قلبه على الـحسيـن غيرة وغيظاً. ولكنه لم يجد في بادىء الأمر فرصة تـمكنه من إظهار ما به وتنفيذه، إذ كان والـحسيـن يحاربان سوية ويسيران نحو غرض واحد، فكانا يظهران الصداقة الواحد منهما للآخر في حيـن أنّ كل واحد منهما كان يود لو يتمكن من خنق الآخر.
ومـن نـكـد الـدنيـا على الـحر أن يــرى
عـــدوّاً لــه مـــا مــن صــداقـتــه بُـــدُّ
ظلت الـحال على ما هي عليه من إظهار الوداد بيـن ابن السعود والـحسيـن إلى أن كانت سنة 1919، حيـن انتهى كل شيء وجاء دور الـحساب. فقام بينهما خلاف على الـحدود بيـن نـجد والـحجاز وأدى ذلك الـخلاف إلى قتال، فجرت معركة بيـن رجال نـجد ورجال الـحجاز أسفرت عن خسارة الـحسيـن 4,500 رجل. ولكن الأوروبييـن تدخلوا بيـن الفريقيـن وحسموا الـخلاف.
بيد أنّ ذلك الـحسم كان أشبه بتغطية النار بالرماد، ولكنهـا كانت تغطيـة دامت إلى هذه السنـة. ثم عـادت نــار الـحرب إلى الشبـوب، وفي هذه الـمـرة تخلَّت أوروبـة عموماً وبريطانية خصوصاً عن الـحسيـن بالكلية، وأظهر ابن السعود سلطان نـجد أنه يريد أن يضـرب ضربـة تقضـي بينـه وغريـمه إلى الأبـد أو إلى أمد بعيد جداً على الأقل.
السيـف أصـدق إنبـاءً من الكتـب
زاد نيران الغيظ والغضب في قلب السلطان عبدالعزيز سعيراً إعلان الـحسيـن نفسه خليفة الـمسلميـن في الأرض قاطبة. ولـما كان عبدالعزيز يرأس مذهباً جديداً في الإسلام، أتينا على خلاصته فيما تقدم، فإن إعلان الـحسيـن نفسه خليفة جعله خصماً لعبدالعزيز في شيئيـن: أولهما الـملك على العرب وعبدالعزيز أجدر به منه، وثانيهما الـخلافة وعبدالعزيز خليفة محمد عبدالوهاب الذي يريد أن يصلح الإسلام «بالعود إلى القرآن الكريـم». وهو والـحالة هذه لا يعترف بخلافة الـحسيـن لا من حيث أهلية الـحسيـن ولا من حيث مبدئه الديني، فرأى أن يكون السيف الـحكم بينه وغريـمه في هاتيـن القضيتيـن الهامتيـن. وإلى السيف عمد:
«و» السـيـف أصـدق إنـبـاءً مـن الـكتبِ
فـي حـدِّه الـحـدُّ بيـن الـجـدّ