في ثورة سان باولو التي أتت عليها الـمجلة في الـجزء الـخامس من هذه السنة(1)، وثورة تشيلي التي نأتي عليها في هذا الـجزء، ما نبّه أفكارنا إلى أمر هام وأوصلنا إلى نتيجة صريحة في ما يختص بالـحكومات في أميركة الـجنوبية كلها. والـخلاصة التي وضعناها موضع الاعتقاد منا بعد الثورتيـن الـمشار إليهما هي أنّ مسألة الـحكومة في أميركة الـجنوبية مسألة لم تبلغ بعد الـحل النهائي الذي تثبت عليه. ولـما كانت حكومات أميركة الـجنوبية متشابهة وعقليات شعوبها متقاربة، فإن في ثورة تشيلي هذه دروساً كثيرة يحسن بالسورييـن القاطنيـن أميركة الـجنوبية أن يضعوها موضع الاعتبار لـما يـمكن استخراجه منها من الفوائد التي لا تنحصر في تشيلي، ولم تضرب تشيلي حولها نطاقاً يحصرها فيها.
ثورة تشيلي ثورة عسكرية. والتاريخ يعلّمنا أن لا نثق بالثورات العسكرية لـما تنتهي به عادة من الاستبداد الدكتاتوري وفساد الإدارة. ولكن لثورة تشيلي ميزة على ما سواها من الثورات العسكرية، فهي قد نـجحت بدون حرب وسفك دم، وهذا يدلُّ على كمال استعدادها. وكانت نتيجتها حسنة لتشيلي، ويـمكن أن يقال إنها حسّنت مركز تلك البلاد تـحسيناً يستحق الذكر. فكل ما يقال عن عجز حكومة تشيلي عن دفع نفقاتها ووجوب عقد قرض إجباري لها اضمحل بعد الثورة اضمحلالاً تاماً، كما يقول أحـد أصحـاب الأشغال الأميركييـن في تلك البلاد الذي قابل بعد عودته إلى الأرجنتيـن من سياحة في تشيلي جريدة ذي تيمس أوف أرجنتينا التي قالت في عددها الصادر في 23 أكتوبر/تشرين الأول عن محادثته لها ما يأتي:
«لقد حملنا صديقنا على تغيير اعتقادنا في ما يختص بضرورة أو فوائد «الكوب ديتا». فهو قد ذكر لنا أنّ الأحوال في تشيلي كانت لـمدة قريبة سيئة جداً. والـحقيقة أنها أصبحت كذلك منذ قبض على أزمة السلطة الرئيس ألسندري. ووصف حكومة ذلك الرئيس بأنها أسوأ حكومة في سلسلة حكومات سيئة. فالأموال كانت تُنهب بالألوف والـملاييـن، ولم يكن يدفع للمستخدميـن الـمدنييـن شيء من أجرتهم لأنه أعلن حينئذٍ أنّ الـخزينة فارغة. ولقد تعاقبت في مدة ألسندري الوزارات دون أن تتمكن واحدة منها من تعديل الدخل والـخرج، والأخيرة كانت أسوأ الكل إذ إنّ وزير الـمالية فيها أقر على وجوب عقد قرض إجباري أو توزيع أوراق مالية. كان مجرّد هذا الاقتراح كافياً للتأثير على مركز تشيلي الـمالي تأثيراً سيئاً جداً، فأخذ الكمبيو في الهبوط وظل يهبط مدى أسابيع رغماً من أنّ مال البلاد مضمون بالذهب، لأن اقتراح ذلك القرض الإجباري جعل السيّء أسوأ. ويجب الانتباه إلى أنّ تشيلي كانت لبضع سنيـن خلت رازحة تـحت أعباء حكومة متقلقلة، فكان الفساد مـمتداً في كل مكان. وفي حالة مثل هذه لا يـمكن التجارة أن تنجح. وقد ذكر لنا مخبرنا حوادث مدهشة فيما يختص بـما كان يجري في تشيلي في السنيـن الـماضية، وقال إنه كان يتوق إلى تصفية أشغاله بصورة نهائية في تشيلي لـخوفه من أنها لا تأتي بنتيجة ما.
«كان محدثنا آخذاً في سياحة في تشيلي قبل الانتقاض العسكري فيها بقليل، فلم يكن يلاقي في طول البلاد وعرضها سوى ما يحمل على التشاؤم، إذ كل رجال الأشغال كانوا ضعاف الثقة، والـحركة التجارية كانت كلها منصرفة إلى الـمضاربات في أقساط التعدين والكمبيو. وعندما انتشرت أخبار إخراج ألسندري، كان هو في اكويك فعاد بعد ذلك إلى تشيلي. وشد ما كان اندهاشه لـما رآه من التغيّر غير الاعتيادي الذي طرأ على حالة الأشغال، فبدلاً من التشاؤم الذي كان قبلاً وجد هو تفاؤلاً واستبشاراً. في ثلاثة أسابيع قصيرة وجدت تشيلي أنّ كل ما قيل عن وجوب القرض الإجباري وعدم إمكانية دفع الأجورات وغير ذلك كان كذباً فظيعاً. لم تستغرق الـحال سوى بضعة أيام لإثبات أنّ دخل الـخزينة كان أكثر من الضروري للقيام بالنفقات اللازمة. فدفعت الـمعاشات الـمتأخرة كلها حالاً، وأُجريت الـحسابات التي بقيت غير مجموعة مدة سنيـن بكل أمانة، وتقرر رسمياً أنه لا حاجة إلى ضرائب جديدة على الإطلاق، وأنّ موارد تشيلي تزيد على ما تـحتاجه لدفع النفقات اللازمة. ومنذ قبضت الهيئة العسكرية على أعنة الـحكومة، ابتدأت مالية البلاد تتحسن على نسبة الإبدال، وأخذت الابتسامات تبدو على أصحاب الأشغال لـما ينتظرونه من النجاح في الأشهر الـمقبلة. ولقد حدث هذا الانقلاب الغريب على هذه الكيفية بعامل الإخلاص والشرف اللذين تـحلّت بهما دوائر الإدارة. بدون أدنى اضطرار إلى مساعدة خارجية، أصبحت تشيلي قائمة بأعباء نفسها تـماماً. وهذا هو الفرق بيـن حكومة ألسندري وحكومة الضباط العسكرييـن.
(1) «ثورة سان باولو»، الـمجلة، السنة 10، الـجزء 5، 1/6/1924.