الغناء كما يفهمه عامة السورييـن شيء ليس بذي اعتبار كبير. هو جميل عندهم، ولكن جماله مقتصر على كيفية واحدة يحبونه منحصراً فيها. وهذه الكيفية هي: أن يجلس الـمغني وحوله دائرة أو نصف دائرة من الشبان تدار عليه وعليهم كؤوس الـمدام، حتى إذا ما لعبت الـخمرة في رؤوسهم وانتشى الـمغني أخذ هذا ريشة عوده وضرب بها على الأوتار وقال له الباقون «ها. هات لنشوف. يا الله. الله الله.» فالغناء على هذه الصورة ليس فناً، ولا يـمكنه بواسطتها أن يرتقي إلى مرتبة فن.
الـمعنى الذي يستخرجه الـمفكر من غناء كالذي أتينا عليه، هو معنى الكسل والبطالة. وكثيراً ما يدل على الـجهالة والطيش. ونتيجته في كل حال ليست نتيجة حسنة، بل هي إذا أُعمل النظر نتيجة سيئة جداً، كثيراً ما تؤدي إلى فساد الأخلاق وزيادة الـجهل. ونحن في معالـجتنا هذا الـموضوع نعالج أحد أدوائنا الاجتماعية التي لا نعرف لـماذا لا نتداركه، مع أنـه يجعلنـا مـن الـحطـة في الـمـدارك والأخـلاق فـي أسـوأ مكان.
حملنا على طرق هذا الـموضوع ما شاهدناه وسمعناه في حفلة غناء فني أحياها في صالون الكونسرفاتوريو الـمواطن الفني السيد بولس جوهر الذي برز إلى عالم الغناء الفني على صورة لا نظن أنّ أحداً منا انتظرها. وقد كان في صوت الـمواطن الـمذكور، وصوت الآنسة الإيطالية التي قامت بقسمها من الغناء ومهارة الأستاذ الـموسيقي الإيطالي الذي قام بـمهمة مرافقة الغناء بالضرب على البيانو، ما حدا بنا إلى تأملات كثيرة في فن الغناء ومركزه من حياتنا.
في الـحفلة الـمذكورة رأينا السوري الأول في البرازيل ــ ولا ندري إذا كان يوجد غيره في غير البرازيل - الذي يخرجنا من دائرة الأوهام ويرينا الفروق الكثيرة بيـن معنى الغناء عندنا وبيـن معنى الغنشاء الفني الذي يشغل قسماً كبيراً في حياة الشعوب والأمـم الراقية، ويبيـّن لنا أين نحن من الفنون الراقية - بل يرينا أيضاً كم تكون النتيجة الروحية التي يرمي إليها الفن الراقي في الغناء كما في التصوير والنقش وما شاكل - في كل إشارة وكل حركة وكل نبرة وكل كلمة وكل صوت حالة تـمثيلية تعبّر عن شعور سامٍ وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع الأنفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو مـما بها من الشوائب الأرضية ويغمرها الـحب النقي - هذا هو الفن الـخالد الذي يلطّف الـحياة في هذا العالم الـمملوء بالـمكدرات - هذا هو الفن الذي يرفع القائميـن به إلى مراتب الـخلود - هذا هو الفن الذي يـمثل جزءاً من حياة كل نفس ذاقت حلاوة الـحب ومرارة العقبات - هذا هو الفن الذي رفع به الـمواطن الـمذكور الأنفس إلى مقام الآلهة وظهرت مواهب صوته الـجميل فيه - هذا هو الفن الذي يتشرف السيد بولس جوهر بخدمته خدمة يستحق لأجلها كل ثناء، ونفتخر نحن بأنه يوجد بيننا من يقدّره حق قدره ويعنى بخدمته.
بيـن ما جرى في الـحفلة الـمشار إليها، وما يجري في اجتماعات الغناء التي وصفناها بإيجاز كلي في بدء هذا الـمقال، فرق كبير ظاهر وهو أنه في الـحادث الأول يتجلى شعور راقٍ بل وحي روحي هابط من سماء الـخلود، أما في الـحوادث الـمشار إليها فالشعور يتجلى على هيئة شهوات متأتية عن حالة غير طبيعية أوجدتها الـخمرة. وفضلاً عما تقدم، فالغناء السوري الـمتعارف إجمالاً هو من النوع الذي يولّد الشهوات وليس فيه وصف حالة نفسية راقية إلا في ما ندر. و«الروزنا» و«تـحت الليموني» الشائعتان كثيراً مثال واضح لذلك.
لا يقدر مطرب سوري أن يقوم بإحياء ليلة غناء سوري تكون جديرة بحضور العائلات الراقية التي تتطلب غناءً يوقظ ما في النفوس الـحساسة من العواطف النبيلة والشعور السامي، لا غناءً يقتصر على وصف القوام الرشيق وما له من التأثير على قلب الصبِّ الولهان وشدة تشوّق هذا إلى اللقاء والوصال. فالقلوب الـمملوءة شعوراً رقيقاً تريد أن تعرف في الـحياة حباً يتعدى حد الشهوات إلى التأثير على مجرى الـحياة نفسها، وغناءً روحياً يخرج بالأنفس من دائرة الـملذات الـجسدية إلى منفسح الـمنعشات الروحية. وهذا هو نوع الغناء الذي كان قبلة أنظار مشاهير مؤلفي الألـحان والأغاني أمثال دانتي وفاغنر ومسكاني وليونكفاللو وغيرهم فرفعوه إلى مرتبة سامية جداً بتآليفهم وجوزوا على ذلك بالـخلود. وإذا كان أرباب الأصوات الـجميلة عندنا يلجأون عندما يريدون إقامة حفلات غنائية للسورييـن إلى الأغاني التي أبرزتها عقول أولئك النوابغ، كما فعل «الباريتونو» السوري السيد بولس جوهر في الـحفلة التي أتينا على ذكرها، فليس في ذلك ما يلامون عليه بل يشكرون خصوصاً والأغاني الـمذكورة لم تعد مختصة ببلاد ما بل أصبحت شائعة في العالم كله.
قليلون هم السوريون الذين يعرفون هذه الـحقيقة. فأسماء دانتي [فيردي] وفاغنر وأمثالهما لا تزال عند السواد الأعظم منا مجهولة تـمام الـجهل. والسيد بولس جوهر هو السوري الأول على ما نعلم الذي دعا العائلات السورية في البرازيل إلى حفلة حاول فيها تعريف تلك العائلات ببعض النوابغ الـمذكورين وفنونهم السامية. وهو لا شك قد بدّد من أذهان الـحاضرين أوهاماً كثيرة في ما يختص بفن الغناء ومراميه.
نرجو أن يكون من وراء تعريف السورييـن بفن الغناء الراقي ما يفتح لنا عهداً جديداً، لا لترك ما عندنا بالـمرة والذهاب وراء الفن الغربي، بل للاستفادة من هذا وترقية فنّنا الغنائي الـخاص حتى نبلغ الـمرتبة التي بلغها أرباب عائدة وكفالاريا روستيكانا وتاييس وطوسكا وبالياتشي وسواهم.
في سورية اليوم نهضة جديدة في عالم الـموسيقى والغناء تبشر بـمستقبل باهر. ولـمّا كانت الـموسيقى والغناء من العوامل الكبيرة في تطور حياة الأمـم الاجتماعية والروحية، فحريّ بالسورييـن أن ينشطوا إلى مناصرة النهضة الـمذكورة ويعملوا في سبيل ترقية هذين الفنّيـن السامييـن.
أنطون سعاده