إنّ مؤتـمر لندن الذي أتينا على خلاصة أبحاثه في عدد سابق (ص 103-109 أعلاه)، يُعدُّ أعظم عامل سلمي في أوروبة. فهو كان الـخطوة الأولى في سبيل الأبحاث السلمية التي أخذت مجراها في مؤتـمر جمعية الأمـم الأخير الذي انعقد في جنيف. ولكن لهذا الـمؤتـمر وجهة غير هذه عند بعض الـخبراء الاقتصادييـن الذين يرون في ما آل إليه ما يحملهم على التشاؤم، والـحقائق التي يستندون إليها حقائق جوهرية حريّة بالاعتبار.
أهم هذه الـحقائق ما يدركه الـمفكر من النتائج الاقتصادية الـمترتبة على عودة ألـمانية إلى دائرة الـجهاد الاقتصادي التي كانت فيها قبيل الـحرب، وهو ما لا بدّ من حدوثه بعد أن فتح مؤتـمر لندن الأسواق التجارية لألـمانية وجعلها حرَّة في صناعتها. فإذا تـم ذلك فعلاً، لا يكون الـخوف من تصادم سياسي واقتصادي مقبل بيـن بريطانية وألـمانية كالذي حدث قبل نكبة 1914 في غير محله. بل إنّ الزحام الاقتصادي الذي سيحصل في القريب العاجل بيـن دول أوروبة من جرّاء دخول ألـمانية حومة السباق الاقتصادية لَـمِن الشؤون الـمهمة جداً، وهو ما أصبح الآن حديث الأندية الاقتصادية والسياسية وشغل الاقتصادييـن الشاغل.
تنظر بريطانية إلى عودة ألـمانية إلى سابق عهدها في الصناعة والتجارة بعيـن القلق والاضطراب. وهي ترى وراء ذلك من الأخطار الكبيرة على حياتها الاقتصادية ما يجعلها تخاف شر الـمستقبل. وقيمة هذه الأخطار تستفحل جداً، وتصبح داء مستعصياً خطراً إذا سبق صناعيّو فرنسة صناعيي بريطانية إلى الاتفاق مع صناعيي ألـمانية.
فإن اتفاقاً كهذا يضرب الصناعة البريطانية ضربة، إذا لم تقضِ عليها، زعزعتها من مركزها وأضعفتها كثيراً. ولقد كان من وراء تنبّه الثقات البريطانييـن إلى هذا الأمر أن تألفت لـجنة منهم تدرس هذه الـمسألة درساً دقيقاً، وتطلب أن يُسرع رئيس الوزارة إلى تسهيل سبيل الاتفاق التجاري مع ألـمانية قبل أن تسبق فرنسة إلى ذلك وتذهب الصناعة البريطانية ضحية صناعة تينك الأمتيـن التي تتألف إذ ذاك من حديد الألزاس واللورين وفحم مناجم الروهر، وهو ما لا يعود في طاقة بريطانية الـمحافظة على مركزها الصناعي تـجاهه.
وما يقال عن قلق بريطانية من هذا القبيل، يقال عن قلق فرنسة أيضاً إذا فشلت هي في الاتفاق مع ألـمانية. ولا يـمكننا أن نقول إنّ هذا القلق في غير محله ما زالت سعادة الأمـم متوقفة على نـجاحها الاقتصادي. بل إنّ حياة الأمـم نفسها تتوقف الآن بالأكثر على ذلك، فإذا فشلت أمة ما في مجاراة الأمـم الأخرى في الاقتصاد فشلت في مجاراتها في الـحياة. وكل أمة تعدُّ نفسها من الطراز الأول يجب عليها مجاراة الأمـم الأخرى، التي هي من هذا الطراز في الشؤون الاقتصادية، لكي تتمكن من مجاراتها في الشؤون الـحيوية.
في هذه الـحقيقة ما يبعث على تعليل عامل كبير من عوامل الـحرب الكونية. فالأمة التي ترى أنها آخذة في الضعف والتقصير في اقتصادياتها أمام قوة وتقدم أمة أخرى من طرازها، تعمد إذ ذاك إلى وسائل أخرى غير الاقتصاد لإضعاف الأمة الـمتقدمة وعدم تـمكينها من سبقها وتركها وراءها. ومن هذه الوسائل الـمعاهدات السياسية الاقتصادية التي من شأنها أن تعاكس الأمة الـمتقدمة. ونظن أنّ ما حمل الـملك إدوارد السابع على الذهاب إلى فرنسة بقصد إيجاد علائق ودية بيـن الأمتيـن البريطانية والفرنسية، رغم ما أشيع من أنّ الباريسييـن سيتعدُّون عدم الاحتفاء به إلى ملاقاته بالصفير والصخب، كان خوفه مـما يراه من تقدم ألـمانية الاقتصادي السريع الذي خشي معه القضاء على حياة بريطانية الاقتصادية في الـخارج. والعبارة التي قالها هذا الـملك لولي عهد ألـمانية أثناء زيارته له هي أنه يخشى أنّ تزاحم ألـمانية وبريطانية الاقتصادي سيؤدي إلى تصادم بيـن هاتيـن الأمتيـن. ولقد شعر الألـمان بـما وراء اتفاق بريطانية وفرنسة من الأخطار الـموجهة إليهم، لذلك بنوا أسطولهم البحري الـحربي الضخم وجهزوه بأحدث الاختراعات الـحربية تأميناً على أسطولهم التجاري الذي كان على زحام دائم مع الأسطول البريطاني، وإنذاراً لبريطانية بعدم التفكير بالتصادم مع ألـمانية.