تعالج جمعية الأمـم اليوم أعظم أدواء أوروبة وأشدها خطراً وأكثرها صعوبة وتعقيداً، وهو داء التعدّي.
لهذا الداء في أوروبة تاريخ قديـم يرجع إلى العصور الـمتطاولة في القِدم. وهو تاريخ مـملوء بالفظائع التي تقشعرُّ لـمجرَّد ذكرها الأبدان وتهلع لـمجرد سرد حوادثها القلوب. فقد عرفت أوروبة داء التعدّي وهي طفلة في الـمهد، ونَـمَت ونـما معها هذا الداء الذي لازمها في كل أدوار حياتها دون أن تـحاول التخلص منه ولا مرة واحدة في أيامها الـماضية. بل يـمكن القول إنّ كل ما فعلته أوروبة في الـماضي كان عاملاً على تقويته لا إضعافه. وكانت كلما قويت أوروبة واشتدَّت قوي هذا الداء واشتدَّ، حتى استفحل أمره واستطال شرُّه وهدد أوروبة بالـخراب مرات عديدة. وكان آخر أطواره الـخطِرة ذلك الانفجار الـحربي الهائل الذي يعبّرون عنه أحياناً كثيرة بكارثة سنة 1914.
لم تشهد أوروبة في ما مضى من أيامها حالة خطرة كالـحالة التي شهدتها في كارثة سنة 1914 التي جلبها عليها داء التعدي. وفي هذه الـمرة أيضاً حاولت حكومات أوروبة ستر الـحقيقة عن أعيـن الشعوب بإحراق معاهداتها السرّية واختلاق أمور تافهة زعمت أنها كانت السبب في حدوث تلك النازلة الفادحة، التي هي أعظم مأساة بشرية ذهبت ضحيتها شعوب بكاملها وقُدّمت على مذبحها زهرة شبان أوروبة وخيرة رجالها. ولـما انتهت تلك الضوضاء التي قامت حول بربرية ألـمانية ونزاهة الـحلفاء وانتهت تلك الكارثة التاريخية على ما يعرفه كل واحد منا، اختلقت حكومات أوروبة أمراً جديداً هو أغرب كل أمورها زعمت أنه يُنسي الشعوب آلامها ويعيدها إلى سالف عزها ورخائها. وهذا الأمر الـجديد الغريب هو بناء ضريح للجندي الـمجهول توضع عليه كل سنة الورود والرياحيـن. فكأنهم بهذا العمل يريدون أن يقولوا للعالم قد كفّرنا لكم عن الـحرب وانتهى الأمر عند هذا الـحد. على أنه لـمّا لم يأتِ ضريح الـجندي الـمجهول بالعجائب التي زعمتها تلك الـحكومات، ظلّت أوروبة تشعر بآلامها التي كانت تزداد حيناً بعد آخر، الأمر الذي يحملها على البحث في أسباب تلك الآلام ومحاولة إزالتها.
إنّ تكريـم الـجنود الـمجهوليـن أمر حسن، ولكن هذا التكريـم لا يُنسي أوروبة موتاها ولا يعيدهم إليها. لذلك رأت أوروبة أنّ خير ما تفعله هو أن تـمنع تـجدُّد تلك الـمأساة الهائلة، فقام مفكروها يبحثون في أسباب ما نزل بها من البلايا وما يهددها في الـمستقبل. فرأوا شيئاً حقيقياً ثابتاً كان سبباً مباشراً وغير مباشر للبلايا السابقة والأخطار الـمقبلة هو التعدي ــ التعدي على أنواع شتى. هذه هي الـحقيقة التي حاول الرجعيون ولا يزالون يحاولون سترها عن الشعوب التي ساقوها إبّان الـحرب إلى تلك الـمجازر الهائلة سوق القطعان، مغرِّرين بها بوعود كبيرة لا سبيل إلى القيام بها وأقوال تافهة في الشجاعة والبطولة وأمجاد النصر وفخر الغَلَبة.
إنّ في كارثة سنة 1914 لدروساً جليلة في نتائج التعدي. ومنها يـمكن أوروبة أن تُدرك جيداً أنها إذا لم تتخلص من هذا الداء الوبيل بقيت عرضة لكوارث آتية قد تقضي عليها. فهل تريد أوروبة أن تنقذ نفسها من شدقي هذا الغول الـحقيقي، وهل تنجح عصبة الأمـم في محاولتها إنقاذ أوروبة من هذا الـخطر الكبير؟
نحن لا نشك في أنّ الشعوب الأوروبية تريد أن تستفيد من الدروس التي ألقتها عليها كارثة سنة 1914، فهي لا تزال إلى الآن، وستبقى مدة طويلة تتألم مـما حلّ بها.
لذلك ترى عدد الذين يـميلون إلى قلب الـحكومات وتغيير الدساتير يتزايد في أوروبة يوماً بعد يوم. والـحكومات الأوروبية إجمالاً داخلة اليوم في تطورات لم تعهدها من قبل. والرأي العام الأوروبي يهدد كل حكومة لا تنزل على رغائبه بسوء الـمصير، وهو ما يحمل كل حكومة جديدة على درس حالة شعبها النفسية قبل كل شيء آخر، لكي تعرف ماذا يجب أن تفعل لتربح ثقة الشعب ومعاضدته اللتيـن بدونهما لا تقوم لها قائمة مهما حاولت تلك الـحكومة ستر الـحقائق وذرّ الرماد في العيون. هذه هي الـحقيقة التي حملت حكومة بريطانية وحكومة فرنسة وغيرهما على البحث في جمعية الأمـم في مسائل تهمّ شعوبها، مثل التحكيم ونزع السلاح والتأميـن الـمتبادل وغير ذلك.
أجل، إنّ البحث في مسائل كالتي تقدمت لفجر حياة جديدة في أوروبة. وما كان ظهور أحزاب جديدة في سمائها تنال مناصرة الشعوب، كحزب العمال وغيره، إلا مقدمة لهذه الفاتـحة الـجديدة ودليلاً على أنّ روحاً جديدة هبطت أوروبة لتريها طريق السلام. ومع أنّ الرجعييـن كلهم وفريق الـمتشائميـن يهزأون من أقوال كهذه، فالـحقيقة أنّ هذه الروح هي التي ستتغلب أخيراً على مطامع الرجعييـن والعقبات التي يضعونها في طريقها. ولكن هل جمعية الأمـم التي أخذت على نفسها في مؤتـمرها الأخير حل الـمسائل الـمتقدمة الوسيلة الفعالة لتغلّب الروح الـجديدة وبسط أجنحة السلام على أوروبة؟
هذا هو السؤال الذي يـمثّل حقيقة الـحال. ونحن نسطّر الـجواب عليه والأسف الشديد ملء نفسنا، وهو أنّ جمعية الأمـم لا تتمكن من ذلك رغم الـجهود التي تبذلها ورغماً من الآمال الكبيرة التي علقها عليها فريق كبير مـمن ذهب التفاؤل بهم حداً خرج بهم عن دائرة الاعتدال. لأن جمعية الأمـم على ما هي عليه الآن تسير في أعمالها على طريق خَطّتها لها الـمعاهدات التي أمضيت في ظروف حرجة جداً، كمعاهدة فرساي التي نعتقد أنها أشأم معاهدة على أوروبة. ونعتقد فضلاً عن ذلك أنه ما زالت معاهدة فرساي معمولاً بها، فكل عمل تقوم به جمعية الأمـم لإبطال التعدي وإيجاد السلام لا يـمكن التعويل عليه إلا في ظروف حرجة نادرة.
الـحالة التي وضعت معاهدة فرساي أوروبة فيها حالة غير طبيعية، بل حالة دقيقة خطرة يجب معالـجتها بصورة عامة لا وسط مؤتـمرات خاضعة لنفوذ بعض الدول القوية التي لا ترى حكوماتها، رغم ميلها إلى التساهل، وجوب التنازل عن متمسكات تسميها حقوقاً. فمعاهدة فرساي جعلت أوروبة فريقيـن متنابذين متعادييـن، الواحد منهما فريق غالب والآخر فريق مغلوب، ذاك يفسر الـحقوق الدولية كما يتفق مع مصالـحه وهذا لا يـمكنه أن يعترض عليها إذا خالفت مصالـحه هو، لأن ذاك يعرف أنه الغالب له السلطة العليا في ما يفعل وهذا لا يجب أن ينسى أنه الـمغلوب الذي لا حق له في الاعتراض على صاحب السلطة. وهذه حالة تولّد الضغائن والأحقاد في الفريق الأخير الذي يرى حقوقه مهضومة، ويقوي حب السيطرة والسيادة في الفريق الأول. ولا نحتاج بعد ما تقدم إلى طويل شرح لإدراك ما وراء دوام هذه الـحالة من العواقب الوخيمة التي لا نظن أنّ في استطاعة جمعية الأمـم الـحالية الـحؤول دونها، إلا إذا عدلت عدولاً تاماً عن الـخطط التي رسمتها لها معاهدة فرساي وغيرها من الـمعاهدات الأخرى التي هي في شؤمها كمعاهدة فرساي.
إذا توصلت جمعية الأمـم في مؤتـمرها الـحالي إلى اتفاق مرضٍ في ما يختص بتأميـن الدول وإبطال التعدي، فهذا الاتفاق يكون مقتصراً على الفريق القاهر الذي يتصرف بجمعية الأمـم كما يشاء. ونحن لا يـمكننا أن نفهم كيف أنّ اتفاقاً كهذا يضع حداً للاعتداء في أوروبة ويحول دون حروب مقبلة، وهو اتفاق مبني في الأكثر على حقوق هي من الوجهة الـحقيقية الـمجردة اعتداء حقيقي على حقوق الفريق الآخر الذي يَحكم عليه هذا الاتفاق دون أن يُسمح له بالدفاع عن نفسه. وغداً إذا أبى هذا الفريق الرضوخ لـحكم هذا الاتفاق الذي يعتبره شبه مؤامرة وقام يطلب نقضه لأنه يرى فيه أموراً إذا كانت تنطبق على عدل واضعيه فهي لا تنطبق على عدله هو، نهض فريق القاهرين وأشار نحوه قائلاً للعالم «هوذا فريق بربري قد قام يعكر صفو السلام الذي أهرقتْ دماءٌ كثيرة لأجله. هذا هو الفريق الذي لا دأب له إلا التعدي وإثارة الـحروب. ساعدونا على سحقه.» وفي مثل هذه الـحال هل يكون الفريق الثائر هو الـمعتدي أم يكون فريق جمعية الأمـم هو الـمعتدي الـحقيقي أو مسبب الاعتداء؟
هذا سؤال إذا أردنا أن نقبل جواب جمعية الأمـم عليه فقد ضللنا ضلالاً بعيداً.
نأخذ الآن مثلاً على ذلك قابل الـحدوث، ونسأل سؤالاً آخر وهو: هل تُعدّ ألـمانية دولة معتدية إذا عادت هي إلى فتح مسألة سيليسية العليا محتجة مرة أخرى على إلـحاق تلك البقعة الغنية التي كانت تؤلف جزءاً من الإمبراطورية الألـمانية ببولونية على طريقة تعدّها جائرة، وعزمت على استردادها وقام بينها وبيـن بولونية نزاع أدى إلى اشتباكهما بحرب دموية؟ لا شك في أنّ جمعية الأمـم تقبل حينئذٍ النظرية الفرنسية التي تعلن ألـمانية أمة معتدية وتطلب معاقبتها حالاً وسريعاً، وخصوصاً لأن بولونية داخلة في عضوية جمعية الأمـم التي اعترفت لها بفضل مساعدة فرنسة بالـحقوق التي تدّعيها في سيليسية. فهل يجب علينا أن نقبل هذا الـحكم ونعتبره حكماً عادلاً لأن جمعية الأمـم أصدرته، ونحن لم يغرب عن بالنا بعد خبر تلك الـمؤامرة التي دبرتها فرنسة بالاتفاق مع بولونية على نزع سيليسية من ألـمانية، جاعلة هذه الـحادثة الـخطوة الأولى لتفكيك عرى الاتـحاد الألـماني وتقطيع ألـمانية على صورة لا تقوم لها من بعدها قائمة؟
والآن لنرى كيف تفسر جمعية الأمـم التعدي وكيف تريد إبطاله. فالتعدي في عُرف هذه الـجمعية هو كل عمل عدائي تقوم به دولة ضد دولة أخرى دون أن تكون قد طلبت تـحكيم جمعية الأمـم في الـخلاف القائم بينها وغريـمتها. والدولة الـمعتدية هي تلك التي لا تطلب تـحكيم جمعية الأمـم ولا تقبل أحكام لـجنتها التحكيمية التي هي أحكام إجبارية، لأن التحكيم على هذه الكيفية تـحكيم إجباري. ومتى أعلنت لـجنة الـجمعية التحكيمية تعـدي دولة على أخرى، وجب على كل دولة توقّع هذا الاتفاق أن تـمد الدولة الـمعتدى عليها بالـمساعدة الـممكنة. وقـد جـرى البحـث في مؤتـمر الـجمعيـة حول استخدام الأسطول البحري البريطاني في سبيل قمع الاعتداء. وارتأت الـجمعيـة بعد ذلك أن تعاقب الدولة الـمعتدية بالأحكـام التي يُصدرهـا مجلسها القضائي عليهـا.
هذه هي زبدة أبحاث مؤتـمر جمعية الأمـم في التعدي وكيفية إبطاله. ومنها نرى أنّ جمعية الأمـم تعتبر حالة أوروبة الـحاضرة حالة طبيعية لا علاقة لها بـما قد يقوم بيـن بعض الأمـم من النزاع، الذي لا تلبث جمعية الأمـم أن تعدَّه عملاً عدائياً تُعتبر الدولة التي لا ترجع عنه دولة معتدية، دون أن تنظر الـجمعية في ما إذا كان لهذا التعدي مبرر سابق أوجدته الـحالة غير الطبيعية التي وضعت معاهدة فرساي أوروبة فيها، بل تكتفي في أحكامها بالاستناد إلى نظريات الدول ذات النفوذ أو بعض صنيعاتها. والـحقيقة أنّ هذه الأبحاث لا جدوى لها ما زالت جمعية الأمـم تعمى أو تتعامى عن إدراك خطورة الـمركز الـحرج الذي لا بدَّ للخروج منه من حلِّ مسائل هامة جداً تشترك فيه الدول ذات الشأن كلها، بشرط أن لا يكون هنالك تـحيُّز. ومسألة اعتبار جمعية الأمـم الدول الـمغلوبة «أعداء سابقيــن» (إكس إنيمي) ليس لها من الـحقوق السياسية والاقتصادية والـحربية ما للدول الغالبة، من الـمسائل الكثيرة التي إذا بقيت بدون حل عادل مرضٍ مبني على التضامن لإيجاد سلام حقيقي لا يبطن أحقاداً ولا ضغائن، كانت مسألة إبطال التعدي حديثاً يتلهى به الناس لا حادثاً يأملون من ورائه القضاء على داء التعدي الوبيل.
هذا في ما يختص بأوروبة. أما في ما خرج، فهنالك مسائل عديدة لا ندري ما هي منزلة الاعتبار التي تشغلها في جمعية الأمـم، ولا نأتي عليها الآن لئلا يطول بنا الشرح إلى درجة يضيق معها هذا الـمجال. لذلك نبقي الكلام محصوراً في أوروبة خصوصاً، لأن علاقة جمعية الأمـم بالعالم الـخارج عن دائرة أوروبة علاقة واهية لا يكاد يؤبه لها. وهو ما حمل أحد أعضاء الوفد البرازيلي على طلب عدم حصر أبحاث الـجمعية في قارة أوروبة.
الظاهر أنّ جمعية الأمـم لا تريد العدول عن الـخطة التي اقتبستها عن الـمعاهدات التي أتينا على ذكرها. فقد حمل إلينا البرق أنها قبلت بأن يقوم إلى جانبها مجلس عسكري يجتمع كلما عقدت الـجمعية اجتماعاً ليضع التقارير الـمفصلة عن أحوال «الأعداء السابقيـن» ويرفعها إليها لتنظر فيها. وهو أمر يدلّ صريحاً على أنّ جمعية الأمـم ليست إلا جمعية الدول الـمنتصرة التي تخشى أن تعود الدول الـمغلوبة إلى مناقشتها الـحساب. وإذا لم يكن ذلك كذلك، فما معنى هذه التحريات الدقيقة إذاً، وما معنى تلك اللهجة التهديدية التي خاطبت بها فرنسة وبريطانية ألـمانية لأنها تريد تبرئة نفسها أمام العالم من مسؤولية الـحرب التي وُضعت عليها وغُرّمت لأجلها؟ ولـماذا يخشى الـحلفاء أرباب جمعية الأمـم فتح مسألة كهذه؟ أيخافون أن تفتح إذ ذاك روسية صناديقها الـمتضمنة معاهدات سرية تتعلق ببعض دول الـحلفاء، وفيها من الأسرار الغريبة في ما يتعلق بتلك الـمجزرة البشرية ما يدهش العقول، أم يخافون تنبُّه الرأي العام مرة أخرى إلى أمر الـمسؤولية الذي أُسدل عليه ستار كثيف من الإبهام؟