إنّ البيان الـمثبوت آنفاً يفيد بصورة لا تترك مجالاً للغموض «إنّ السورييـن... ما زالوا ولن يبرحوا يعدّون سوريا بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ مهما طرأ عليها من التقلبات الوقتية...»، وأيضاً «إنّ السورييـن لا يتحولون عن مطلبهم الـجوهري الذي اتفقت عليه برامج أحزابهم الـمختلفة وهو استقلال سورية التام بحدودها الطبيعية...» فهذه هي النظرية الـمعقولة، وهنا محجّة الصواب التي يخفق لها قلبنا اغتباطاً وفرحاً. فلقد كانت الأيام الـماضية التي كانت تذهب فيها الـمحاولات إثر الـمحاولات على غير طائل للإثبات بالعلوم التاريخية والفلسفية والـمنطقية أنّ سورية بحدودها الطبيعية وحدة لا تتجزأ، والتي كانت فيها برامج الأحزاب السورية مختلفة اختلافاً كبيراً ومتضاربة بعضها مع بعض تضارباً عظيماً لا تؤثر فيها نصائح أهل العلم ولا تعمل فيها إرشادات أهل الدرس والاختبار، أياماً مُرّة تبعث على اليأس والانسحاق حزناً. أما الآن فإننا لا يسعنا إلا أن نُسرّ لأن السورييـن قد تعلّموا، بعد خراب البصرة، من اختبارهم الذي كلفهم كثيراً ما لم يريدوا أن يتعلموه من اختبارات غيرهم ونصائح وإرشادات وطنييهم الـخبيرين الـمخلصيـن الذين أذابوا أدمغتهم ومهجهم في سبيل إيقاف السورييـن بعضهم إلى بعض كالبناء الـمرصوص وجمع كلمة الأحزاب السورية على طلب الاستقلال التام، يوم كان الطلب يجدي بعض النفع إن لم يكن كله.
لا نريد الآن أن نعود إلى تلك الأيام التي كانت لدى كل وطنيّ مخلص يقدّر عواقب الأمور جحيماً له على الارض. ولكننا نريد أن نبحث قليلاً في هذه النظرية الـمعقولة التي أجمع عليها السوريون والأحزاب السورية، وأذاعتها اللجنة التنفيذية للمؤتـمر السوري الفلسطيني في بيان صريح هو الأول من نوعه على ما نعلم في تاريخ مؤتـمراتنا. ثم نلقي نظرة على تأثير هذه النظرية في نهضتنا الوطنية، وما هو شأنها في حاضرنا ومستقبلنا من حيث كوننا أمة تريد أن تـحيا حياة تفيدها في راحتها وسعادتها وتفيد الإنسانية في تقدمها وارتقائها، وما تضعه أمامنا من الـممكنات وما تـجعله فينا من القوى التي تُـمكّنا من السعي الـمتواصل والعمل الـمنتظم وانتهاز الفرص السانحة لنيل الاستقلال والـحرية، اللذين بهما وحدهما يـمكننا أن نكون أمة حية لها حريتها وحقوقها في عالم الـحياة وعليها فروضها وواجباتها نحو الانسانية جمعاء التي تـحتاج إلى الأمـم الصغيرة الناهضة العاملة في بناء الـحق أكثر كثيراً مـما تـحتاج إلى الأمـم الكبيرة العاملة في بناء الباطل.
النظرية الـمتقدمة هي التي قال بها كبار كتّابنا ومفكرينا وانتمى إليها كل الـمتنورين منا، لأنها النظرية الوحيدة التي يـمكن تطبيقها على الـحقائق الفلسفية والاجتماعية والتاريخية التي تتناول حياتنا نحن السورييـن، جاعلة منا مجموعاً لا يـمكن بعضه، مهما كانت حجته، أن يتنصل من البعض الآخر. وهذه النظرية يـمكن إثباتها بدون الاضطرار إلى الالتجاء إلى العلوم الاختصاصية، بل بالدروس الفلسفية وبعض الاجتماعيات والتاريخ التي لا تـجعلنا أن نتدرج من بحث ضيق محدود إلى بحث واسع غير متناهٍ قد لا تقف فيه تأملات الـمفكر عند قرار بات. فنحن هنا نريد أن ننظر في مجموعنا الـمنفصل عن سائر الـمجاميع الأخرى كما يجب أن يُنظر فيه على هذه الكيفية، لا على الكيفية السابقة لوجوده فيها، كما كان ذلك مـمكناً على عهد الفتح العربي أو على عهد الفتح التركي. وهنا يجب علينا التنبيه إلى أنّ قضيتنا الوطنية التي تكلم عنها الغير كأنها قضيتهم الـخاصة، قضية خاصة بنا نحن ليس لأحد غيرنا أن يتصرف بها كما يريد، وذلك باعتبارنا منفصليـن عن غيرنا انفصالاً تاماً كما هو الواقع. لذلك يجدر بنا أن نتكلم عنها بالـحرية اللازمة في مثل هذا الـموقف. ولكن لا بد لنا قبل ذلك من أن نثبت انفصال مجموعنا ووحدته التي تكلم عنها بعض السطحييـن كأنها شيء غير موجود، ثم توصلوا بعد تفكير مُـمل كان أشبه بحساب «خمس وخمس ستة»، إلى القول إنها شيء لا يـمكن وجوده.
ليس أمامنا في طول التاريخ وعرضه شهادة تاريخية واحدة ثابتة تدلنا على أننا ألّفنا في الـماضي البعيد أو القريب وحدة عنصرية كاملة أو وحدة مدنية ثابتة أو وحدة سياسية راسخة مع أمة أخرى. بل كل ما كان هنالك فتوحات وغزوات عديدة من كل حدب وصوب، كان لبعضها تأثير في البلاد السورية أكثر من غيرها مثل الفتح الروماني والفتح العربي. أما الفتح التركي فلم يؤثر في البلاد إلا من الوجهة السياسية البحتة. ومع أننا لم نكن في زمن من أزماننا الـماضية مستقليـن استقلال أمة كاملة، فإننا رغماً من كل الفتوحات والغزوات التي أدخلت فينا عناصر وجنسيات غريبة، بقينا أمة واحدة كاملة كيّفت من مختلف عناصرها وجنسياتها عوائد وتقاليد ومدنية امتازت هي دون غيرها بها. ومع أنّ الإسلام هو القوة الوحيدة التي أثّرت بنوع خاص على الـمدنية السورية، فإن الإسلام أصبح بعد دخوله سورية وبقائه فيها ديانة ومدنية تخص سورية كما تخص سائر العالم. لأن الإسلام، وإن يكن قد ابتدأ على هيئة حركة وطنية عربية، فقد أصبح أخيراً قوة روحية عالـمية لا تخص العرب أكثر مـما تخص سواهم.
وإذا أضفت إلى ما تقدم الأدلة الـجغرافية التي تفصل بلادنا بخطوط طبيعية واضحة عن البلدان الأخرى، ظهر لك جلياً أننا مجموع بحقٍّ يدعى أمة وأنّ لنا بلاداً بحقٍّ تُسمى وطناً كاملاً لا يـمكن تـجزأته، كما سنبيّنه في الكلام على وحدتنا. فوحدتنا، من حيث أننا مجموع واحد يعيش في بلاد واحدة، أمر موجود لأنه طبيعي. والذي يزيد وحدتنا حتمية كوننا منفصليـن عن غيرنا انفصالاً تاماً، وشعورنا بهذا الانفراد. فنحن رغم تنابذنا في أمور كثيرة ترانا كتلة واحدة تتأثر بالعوامل تأثراً واحداً لا نقدر أن ننكره بصورة ما. وهوذا جاليتنا في البرازيل وجوالينا الباقية في البلدان الأخرى شواهد حية تدلّك على أننا كنا ولا نزال نعمل ونعيش مجموعاً واحداً، سواء كنا في وطننا أو خارجه.
إذا بقي عند أحد شك في أننا مجموع متحد، فليذهب إلى أي فرد من أفرادنا الـمتنورين ويباحثه فيزول شكه. أو إذا كان يريد برهاناً من غير الـمتنورين، فليذهب إلى الفلاحيـن وسائر العامة وليراقب أعمالهم متنقلاً من بلد إلى بلد، يرى من ترابطهم بعضهم ببعض، بصرف النظر عن الوجهة الدينية التي لا تزال سلطتها الزمنية ذات صولة قوية في سورية، برهاناً يفحمه. ومن الأمور التاريخية العجيبة التي يحق لنا الافتخار بها، هي أننا رغماً من كل الأمـم التي قَدِمت من أربعة أقطار الـمسكونة لابتلاعنا وجعلنا جزءاً منها، بقينا سورييـن وأدغمنا عناصر تلك الأمـم الغازية فينا على كيفية أصبحت معها من صميمنا تعيش عيشتنا وتشعر شعورنا وتتأثر تأثرنا، وأصبحنا وإياها أمة واحدة.
يجدر بنا الآن، بعد أن توصلنا إلى النتيجة الـمتقدمة، أن نأتي على تعليل النظريتيـن الـمتطرفتيـن اللتيـن كانتا أكبر العوائق التي قامت في سبيل سير قضيتنا الوطنية سيراً منظماً محموداً، وهما نظرية الأحزاب والأفراد القائلة بأننا عرب وأنّ بلادنا تؤلف جزءاً من إمبراطورية عربية، والنظرية الأخرى الـمعاكسة لها تـماماً وهي نظرية الأحزاب والأفراد القائلة إننا أجزاء متعددة كل جزء منا أمة ودولة مستقلة.
أما النظرية الأولى، فدعامتها الكبرى التي استند إليها القائلون بها، الإسلام الذي هو العلاقة الوحيدة التي بقيت لبلاد العرب بنا بعد علاقتي العنصر واللغة اللتيـن إضمحلتا الآن إضمحلالاً تاماً من حيث إنهما علاقتان تؤثران في كون سورية أمة تأثيراً يفيد عكس ذلك. فالسوريون الذين يعودون في الأصل إلى عنصر عربي لم يعد فيهم من ذلك العنصر ما يـميزهم به إلا الإسم، وهذا أيضاً لم يعد يعوّل عليه الآن بعد الامتزاج الغريب الذي حدث بيـن العناصر الـمختلفة التي وجدت في سورية على كيفية مدهشة. ومع أنّ السورييـن إجمالاً لهم تعلّق بالصفات التي اشتهرت بها العرب كالـمروءة والشهامة والعفة والكرم وما شاكل، فإنك إذا أدخلت فريقاً من السورييـن بطريقة ما إلى داخلية بلاد العرب لوجدوا من الفوارق الـمتعددة بينهم وبيـن العرب ما يجعلهم لا يطيلون الإقامة معهم إلا مضطرين. أما الإسلام فقد توهم كثيرون أنه يكفي لتجريدنا من سوريتنا وإدغامنا في العرب إدغاماً لا يعود يفرقنا عنهم في شيء، وهو غلط فاضح لا يشفع في مرتكبيه إلا حسن القصد وعدم التعمق في نظرياتهم تعمقاً يدركون معه الـحقيقة. ذلك لأن الإسلام خرج عن السيطرة العربية منذ ابتدأ أن يدين به غير العرب. فهو في سورية ديانة سوريّة، كما أنه في الهند ديانة هندية، وفي تركية ديانة تركية. إنه أصبح ديناً للعالم كله وقوة روحية عالـمية، كما أصبح الدين الـمسيحي كذلك بعد أن كان ديناً وُجد لليهود أولاً. وأظن أنّ ما تقدم كافٍ لتعليل هذه النظرية وتبييـن خلوها من الـحقائق الـحيوية التي لا بد من الاستناد إليها في مثل هذه الأبحاث والنظريات.
أما النظرية الثانية القائلة بوجوب تفكيك عرى وحدتنا وقسمتنا إلى أمـم ودولات تكون أضحوكة الأضاحيك التاريخية، فمن الأمور الـمعيبة التي قام بها ضيقو الصدور وضعيفو الـمدارك. وإذا كان لا بد من إيجاد تعليل معقول لها يـمكن البحث فيه بصورة جدية، فهذا التعليل منحصر في أمرين: الأول منهما الـخوف من الإجحاف الذي قد يلحق الأقلية عند نيل الاستقلال، وهو ما حدا بـمسيحيي لبنان إلى اعتبار لبنان أمة ودولة منفصلة عن جسم سورية وقاموا يدعون إلى هذه العقيدة لا بيـن الـمسيحييـن فقط بل بيـن الـمسلميـن والدروز أيضاً، محاوليـن أن يقنعوهم بأنهم هم في لبنان يؤلفون جزءاً من «الأمة اللبنانية» لا من الأمة السورية. والأمر الثاني، هو التزلف وحب الأثَرة والظهور اللذان يدفعان أصحابهما إلى متابعة هذه النظرية، لأنها تدر عليهم مالاً ووظائف وأوسمة تُنعم بها عليهم دولة أجنبية.
أما البحث في الأمر الأول، فيكفي أن نبيّـن أنه ليس في وسع أحد من الذين يعتقدون ويقولون بصحته أن يأتوا ببرهان واحد يشفع فيما يقولون، لأنه لا براهيـن هنالك.
فليس في استطاعة القائليـن بالأمة اللبنانية أن يأتوا بفارق واحد يـميّز بيـن الـمسيحي الـمقيم في لبنان والـمسيحي الـمقيم خارجه، أو بيـن الـمسلم الـمقيم في لبنان والـمسلم القاطن خارجه، أو بيـن الدرزي في لبنان والدرزي خارجه. أي أنه ليس في استطاعتهم أن يأتوا بفوارق تـميّز بيـن اللبنانييـن وسائر السورييـن، اللهم إلا الفوارق السطحية التي تـميّز بين سكان أي بلدة في أي بلاد كانت وسكان غيرها من ذات البلاد، كالفرق بين سكان لندن في إنكلترة وسكان بليموث أو مانشستر، أو الفوارق التي تـميّز بيـن أي إنسان على وجه البسيطة وإنسان آخر. وهذه لا يُعوّل عليها في هذا البحث مطلقاً. وهنا يبدو لك سقوط حجة الذاهبيـن إلى الانقسام بصورة لا تقبل التردد والشك.