لم يأتِ على رؤساء وزارات أوروبة زمن تتجه فيه أنظار العالم إليهم بشوق ورغبة عظيميـن مثل الزمن الـحالي الذي تـحرَّجت فيه الـمواقف الدولية في أوروبة تـحرُّجاً شديداً، جعل العالم الذي خرج من الـحرب الأخيرة منهوك القوى خائر العزم يقف أمام الـمشاهد الـماثلة أمامه منذهلاً حائراً يسائل نفسه قائلاً «انتهت الـحرب وقلنا قد انتهت بانتهائها السياسة الرجعية، ولكن أيـمكن أن تكون الأزمة الـحاضرة التي تكاد تسحقنا سحقاً من عمل سياسة جديدة تبشر بالانتعاش؟ أيـمكن، بعد كل ما حلّ بالأمـم من الـحرب وويل الـحرب، أن تكون السياسة الرجعية قد عادت لتخلق لنا حروباً ومشاكل جديدة تفتح في أجسامنا جراحاً جديدة، وتضرم في قلوبنا ناراً مسعرة؟» انتهت الـحرب أما السياسة الرجعية فلم تنتهِ بعد، ويـمكن أن يقال، باستثناء قليل، إنّ كل رؤساء وزارات دول أوروبة سائرون على هذه السياسة وإذا وضعناهم تـحت النقد كان الأظهر فيهم بالتمشي على السياسة الرجعية بوانكاريه، الذي جعلناه موضوع هذه الـمقالة، فإنه منذ استلم زمام رئاسة وزارة بلاده وضع فرنسة في موقف سياسي حربي حرج، وولّد في أوروبة انشقاقات ومشاحنات خطرة وأوجد في العالم الـخوف والـجزع.
سياسة بوانكاريه مـملوءة بالـمنعطفات والدورات والـمنحنيات والاعوجاجات وهي كثيرة التردد والتقلب شأن السياسات الرجعية في كل زمان ومكان. وإذا أردنا تلخيص القصد من هذه السياسة في أصغر عبارة مـمكنة، لـما وجدنا أفضل من القول إنّ بوانكاريه يريد أن يحوّل الديك إلى ذئب كاسر مخيف.
كان بوانكاريه قبل أن فاز بكرسي الرئاسة في وزارة بلاده يشجب في مقالات وخطب عديدة سياسة وزارة سلفه ناسباً إليها التقصير في السهر على سلامة كيان فرنسة، ورامياً إياها بتهمة الـحط من كرامة فرنسة الأدبية في العالم والشذوذ عن العدل، وله بهذا الصدد تصريحات خطيرة نذكر منها التصريح الشهير الـمختص بسورية وهو قوله «ذهبنا إلى سورية لنمنحها الـحرية فأعطيناها العبودية»، لذلك رجا السوريون كما رجا العالم أن ينال بوانكاريه رئاسة الوزارة الفرنسية. ولكن لـما استتب له النصر وبلغ أمنيته من ترؤس الوزارة نسي كل ما فاه به قبلاً فعدّ له ذلك بعض الـمفكرين والكتّاب السطحييـن مقدرة وأهلية يستحق عليهما الـمديح والثناء. أما أنا فأعدّه عملاً شائناً خصوصاً بعد أن برهنت سياسته في الـمدة الأخيرة على أنها شرٌّ على فرنسة والعالم من سياسة سلفه.
بيد أنّ هذا الـموقف ليس موقف تفاضل بين مواقف بوانكاريه، قبل الرئاسة وبعدها، ولا موقف وزن بوانكاريه بـميزان الكلام فبوانكاريه يعرف كيف يلاعب بكلامه الـمنمق عقول مواطنيه ويخلب ألبابهم بألاعيبه. لذلك نضرب صفحاً عما أتاه من الدهاء في سبيل ارتقائه كرسي رئاسة الوزارة ونـجعل البحث مقتصراً على بوانكاريه وسياسته بعد توليه الرئاسة. فمن الناس من ينظر إليه وإلى سياسته الآن بعيـن الاعجاب ومنهم من اتخذ الهياج الذي حدث في ألـمانية بعد توقف الـمقاومة السلبية في الروهر وعودة ولي عهد ألـمانية إلى بلاده حجة للقول بأن بوانكاريه قد جرى على سياسة هي غاية في التساهل، جعلت فرنسة مهددة من الروح الـجندية الألـمانية حتى أصبح الناس يتوقعون نشوب حرب جديدة بيـن فرنسة وألـمانية بعد مدة لا تزيد على أربع أو خمس سنوات - قلت إنّ السياسة الرجعية لا تعدم أنصاراً، فأمثال بوانكاريه في أوروبة كثيرون وكثير من الناس لا يزالون بسطاء إلى درجة لا يتمكنون معها من التمييز بيـن السياسة الرجعية وغيرها.
بوانكاريـه، وأمثالـه، من الذيـن يريـدون التمشي على السياسـة الرجعيـة القائلـة بإعداد القوة واتخاذها وسيلة لتنفيذ الـمطامح والـمطامع، وهي سياسة قديـمة جرت عليها أوروبة قروناً طوالاً اختبرت في أثنائها عقم هذه السياسة، وجاءت أخيراً الـحرب العالـمية مسجلة ويلات هذه السياسة بأحرف من لهيب ودم تبقى ما بقي العالم فَكَرِه العالم، وخصوصاً الطبقة الـمتنورة منه، هذه السياسة وأصبح تائقاً إلى سياسة أخرى تقول بإلغاء الـمطامع وإبطال الاعتداءات ومنع استعمال القوة إلا لتأييد الـحق والـحرية والعدل. ولكننا إذا نظرنا إلى سياسات حكومات الأمـم الأوروبية نظر الفاحص الـمدقق وجدنا أنها كلها تقريباً ترفض العمل بكثير من الأمور التي تتوق إليها الشعوب لكي تعمل بأمور كثيرة يشير بها الـمتمولون الذين تـمثّلهم وحدهم هذه الـحكومات.
على أنّ الـحكومات في أوروبة من حيث مجاراة الروح العصرية أو التشبث بالروح القديـمة درجات متفاوتة، فحكومة إنكلترة مثلاً أقرب حكومات دول أوروبة إلى تطبيق نفسها على إرادة الشعب ومجاراة الروح العصرية التي تشرّبها شعبها كما تشربتها الشعوب الأخرى، أما حكومة فرنسة فأقرب إلى التمشي على الروح القديـمة مهما كانت النتائج التي تقدّرها أو لا تقدّرها جسيمة. ولـما كان موضوعنا هذا لا يتناول تعليل السياسة الإنكليزية مطلقاً ويقتصر على تعليل السياسة الفرنسية، التي هي على الـحقيقة سياسة بوانكاريه وأمثاله الرجعييـن، نوقف القلم عن الـخوض في ما خرج عن الدائرة التي نود البقاء ضمنها ونعود إلى بوانكاريه وسياسته.
جرى بوانكاريه منذ بدء توليه رئاسة الوزارة على سياسة التطاحن بالقوى، فلما احتلت الـجنود الفرنسية أراضي الروهر عدّ له بعضهم ذلك نصراً مبيناً وقالت الصحافة الـموالية له إنه قام بعمل عظيم هو لـخير فرنسة والعالم. والـحجة التي يتذرع بها هذا الفريق الرجعي لتصويب سياسة بوانكاريه، هي أنّ فرنسة لم تسترد الألزاس واللورين باعتبار أنهما قطعتا أرض فرنسية إلا بالقوة، وأنها ليس لها ضمانة على أنّ ألـمانية لا تهاجمها في الـمستقبل إلا القوة التي تستعملها الآن لتتقي هذا الـخطر قبل فوات الوقت.
ترى من هذا أنّ بوانكاريه والـمطبليـن له ينسون حقيقة جوهرية واضحة قامت عليها أدلة محسوسة لا سبيل إلى إنكارها، وهي أنّ العالم بعد الـحرب غيره قبل الـحرب، فالعالم في أية بلاد كانت يريد ترك الفلسفة القديـمة العقيمة، ويرغب في التمشي على فلسفة جديدة أفضل وأفْيد وأضمن للسلام العام. أما الأدلة الـمحسوسة التي تؤيد هذه الـحقيقة فقد قامت من جانب الألـمان، الذين يسميهم بوانكاريه أعداء فرنسة والعالم والسلام، أكثر مـما قامت من جانب غيرهم. فإن العمال الألـمان كانوا عندما قدمت إليهم بعثة الـحلفاء لإحصاء السلاح يدلّون ضباط البعثة على الأماكن الـمخبوءة فيها الأسلحة قائليـن «أتلفوها من أجل الله! إنها كانت سبب خرابنا!»، وفي هذا وحده كفاية لتبيان فساد مزاعم الرجعييـن. وترى أيضاً أنّ بوانكاريه وأصحابه قد تعدّوا عدم الإيـمان بالإنسانية إلى درجة الكفر بها، فهم لا يثقون بالتحسن الذي أخذ في الانتشار والوضوح، وبدلاً من أن يساعدوا القوات الإصلاحية العاملة في العالم أخذوا في مضادتها ووضع العقبات في سبيلها.
أريد الآن، بعد أن بيّنت بالبرهان أنّ العالم بعد الـحرب غيره قبلها، أن أثبت بالأدلة القاطعة أنّ بوانكاريه يضع العقبات في سبيل القوى الإصلاحية العاملة في العالم.
فنأخذ من هذا القبيل سياسته تـجاه ألـمانية، وهي على ما نعلم من خطب هذا الرئيس والإجراءات التي اتخذها ترمي إلى سحق ألـمانية والـحؤول دون استعادة قوّتها ونشاطها، وسحق ألـمانية أو منعها من استعادة قوّتها ونشاطها يعني حذف أمة عظيمة كان لها تأثير شديد في تطور الـمدنية وارتقاء الـحرية، وفيها قوات إصلاحية كبيرة تعمل لتقدم الإنسانية نحو السعادة، ومنها خرجت مبادىء سامية جداً ومذاهب شريفة نبيلة كهربت العالم. ولا يـمكننا أن ننسى في هذا الـموقف حركة لوثر الإصلاحية، ونهضة ماركس الاشتراكية اللتيـن أفادتا العالم أضعاف أضعاف ما ينسبه أصحاب الروح العدائية إلى ألـمانية وأمبراطورها السابق غليوم من الأضرار التي لا تتعدى حد كونها أضراراً اعتيادية ليست ألـمانية مسؤولة عنها أكثر من بريطانية وفرنسة. ولـما اقترحت الولايات الـمتحدة تأليف لـجنة من الإخصائييـن لدرس حالة ألـمانية وتسوية الـخلاف على مسألة التعويضات وغيرها بينها وفرنسة، رفض بوانكاريه العمل بهذا الاقتراح إلا على شروط تصبح معها اللجنة مقيدة بالسياسة الفرنسية خاصة وهو ما لا ينهي الـمسألة على ما يتفق مع راحة العالم وميوله، الأمر الذي حمل الـمستر بالدوين رئيس وزارة بريطانية السابق على التصريح جهاراً في خطبة ألقاها في البرلـمان كانت شبه جواب على خطاب ألقاه الـمستر رامساي مكدونالد زعيم حزب العمال الإنكليزي ندد فيه بسياسة الوزارة الـخارجية التي فسحت الـمجال لفرنسة لتفعل كل ما يعنّ لها حتى أوصلت أوروبة إلى الـموقف الـحرج الذي تقاسي منه إنكلترة الأمرّين، إنّ العقبات القائمة الآن في طريق السلام والانتعاش العالـمي صادرة عن بعض دول الـحلفاء لا غيرهم عانياً بذلك فرنسة فكان من وراء هذا التصريح، والتصريح الشبيه به الذي ألقاه السنيور موسوليني رئيس وزارة إيطالية معلناً وجوب فسح الـمجال لألـمانية لتستعيد نشاطها لأنها أمة جبارة تقدر أن تؤدي للإنسانية خدمات جلّى، بيان حقيقة لا مفر منها وهي أنّ بوانكاريه يعاكس القوات الإصلاحية لا في الدول التي كانت معادية لفرنسة بل في الدول التي كانت محالفة لها وفي نفس فرنسة أيضاً - بوانكاريه يريد أن يخلق عداوات جديدة تـحلّ محل العداوات القديـمة.
لا أعني أنّ بالدوين وموسوليني قوتان إصلاحيتان ولكني أعني أنّ وراء بالدوين حزب العمال ووراء موسوليني حزب الاشتراكييـن. وهنالك أحزاب أخرى في هاتيـن البلادين تضطر هذين السياسييـن إلى التمشي على سياسة تتفق ولو قليلاً مع الروح الـجديدة التي تشرّبها شعباهما، لذلك لم يوافقا بوانكاريه على خطة إرهاق ألـمانية أو سحقها، وإيجاد مشاكل عويصة جديدة من أجل الـمطامع الأشعبية، وخلق أسباب تدعو إلى تصادم حربي عدائي. فبالدوين لم يصرّح في البرلـمان تصريحه الـمشار إليه آنفاً إلا بعد أن اضطره إلى ذلك الـمستر رامساي مكدونالد زعيم العمال، وموسوليني لم يفه بـما فاه به إلا لأنه رأى أنّ متابعة إنكلترة في سياستها، وعدم الاشتراك مع سياسة بوانكاريه في توليد الأحقاد بيـن دول أوروبة قبل أن تندمل الـجراح التي أحدثتها الـحرب الأخيرة أسلم لـمنصبه وأفضل لسلام دولته، ولكن بوانكاريه الذي جعل العناد مرادفاً للحزم لم يكتفِ بأنه يعارض الإصلاح في إنكلترة وإيطالية فقط، بل في فرنسة أيضاً. ففي بدء احتلال فرنسة الروهر تنَبّه بعض نواب فرنسة الـجريئيـن إلى الـخطر الذي ينجم عن هذا العمل وقاموا ينددون بهذه السياسة التي ترمي إلى إرجاع الأحقاد بيـن فرنسة وألـمانية وغيرها من الأمـم، فكان جزاء هؤلاء النابهيـن أنه صدر أمر من مقر سام يقضي بالقبض عليهم وزجهم في غياهب السجون كما يزج الـمجرمون، وقد نفّذ هذا الأمر بتمامه!
هذا قليل من كثير الأدلة البينة على رجعية بوانكاريه الذي أطلق له الفرنسيون العنان في السير بهم إلى الوراء، ومع ذلك فقد وُجد في فرنسة زعماء إصلاحيون قاموا يعارضون هذه السياسة الـخرقاء. ولكني أقول بكل أسف إنّ الفرنسييـن قد تركوا هؤلاء الزعماء يُزجون في السجون وتخفت أصواتهم بالقوة حتى أصبح الاعتقاد بوجود احترام الـحرية الشخصية، واعتبار الـمبادىء السامية في فرنسة ضعيفاً جداً، وهو من الأمور الشائنة التي يحمر لها وجه الإنسانية خجلاً.
ومع ذلك فلا يزال هنالك اعتقاد بأن هذه الطريقة الوحيدة التي يـمكن بوانكاريه سلوكها لتأميـن فرنسة وأنه حسناً يفعل، ولكن قد كان من الـممكن أن تُعدّ سياسة بوانكاريه الرجعية ضرباً من الأفعال الـحسنة لو كان مراد العالم الذي قاسى في الـحرب العالـمية أهوالاً يضيق بها ذرع الواصف أن يعود إلى الوراء حيث يضطر إلى إعادة تـمثيل هذا الدور الدموي الفظيع على غير طائل. أمّا والعالم يريد ترك الـماضي القاتـم ليستقبل عصراً جديداً فلا يـمكن أن تكون سياسة بوانكاريه إلا نوعاً من العراقيل القبيحة في سبيل تقدم الإنسانية، وهي بالقياس إلى مجاري السياسة الأوروبية اليوم تعود على فرنسة بأوخم العواقب.
كان من وراء سياسة بوانكاريه الرجعية أنّ فرنسة اكتسبت من ألـمانية عداوة جديدة مـملوءة حقداً وربحت نفور إنكلترة وإعراض إيطالية وحنق الولايات الـمتحدة التي صرح رجالها الـمرة بعد الـمرة في الانتخابات الـماضية لرئاسة جمهوريتها قائليـن «أميركة للأميركييـن والنساء الأميركيات غير مستعدات لأن تلد رجالاً يذهبون ضحية الذود عن حياض فرنسة، يجب على فرنسة أن تطلب من نسائها هي أن يلدن رجالاً يذودون عنها» ولعمري لو فتش الفرنسيون في طول فرنسة وعرضها عن رجل يجعلهم بسياسته أمام خطر هائل وجهاً لوجه لـما تـمكنوا من إيجاد أفضل من بوانكاريه أو كليمنصو. ولكن قد أكون مخطئاً فإنهم في فرنسة ينتقدون بوانكاريه ويقولون إنه تساهل كثيراً، وإنه يجب إيجاد رجل آخر يُري العالم كيف تـجبر ألـمانية على القيام بدفع التعويضات كلها في مدة لا تتجاوز الأسبوعيـن.