تـجري في أوروبة اليوم شؤون خطيرة جداً فيما يختص بالـمسألة الألـمانية التي أخـذت في الـمدة الأخيـرة في الاستفحال وولوج باب جديد من شأنه أن يغيّر تاريخ العالم كما يتفق مع عدل الطبيعة، بعد أن كانت الـحرب الطاحنة الأخيرة قد غيّرته كما يتفق مع عدل دهاة السياسة الأوروبية.
لا بد لنا في هذا الـموقف من التصريح بأن جوّ السياسة الألـمانية ملبد بغيوم كثيفة تـحدث فيه من حيـن إلى آخر بروق ورعود، ولكنه حتى الساعة لم تنقض منه صاعقة واحدة وليس في إمكان أحد أن ينبىء بوقت انقضاض الصاعقة وكيفيتها. بيد أنه إذا لم تهب ريح سلام قوية تتمكن من تبديد تلك الغيوم في القريب العاجل، فمما لا شك فيه أنّ الصاعقة ستنقضّ بعد زمن غير بعيد، وهي ستكون في هذه الـمرة على هيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن سائر الصواعق التي سبقتها، ومن الـمحتمل جداً أن يعقبها صواعق عديدة في أمكنة مختلفة، بعضها في الشرق والبعض الآخر في الغرب.
من الأمور العجيبة الغريبة التي أحدثتها الـحرب الأخيرة، هو ظهور تغيّر هام جداً في تاريخ العالم لم يكن يحلم به سياسي أوروبي قط وقلّما خطر على بال مفكر غربي.
وهذا التغيّر رغم خطورته وأهميته في التأثير على التطور الإنساني لا تكاد ترى مفكراً غربياً قد انتبه إلى حقيقته، وما ذلك إلا لأن فعله لا يزال بطيئاً أو مستتراً عن أعيـن الغربييـن الـمنشغليـن بـمشاحناتهم والذين بقوا زماناً طويلاً لا يرون مثله. على أنّ ذلك لا يقلل من أهميته في شيء وسوف لا يـمضي وقت طويل حتى يصبح له شأن عظيم، وما هذا التغيّر الـمدهش إلا تنبّه الشرق إلى أمور كثيرة كان غافلاً عنها وفي عدادها إبطال الاستعمار والاستعباد. فإن من نتائج الـحرب العالـمية التي جبلت أكثر الأمـم الغربية وبعض الأمـم الشرقية في معجنها الكبير مازجة الدماء بالدماء وخالطة الـجثث بالـجثث، أنّ الشرق أصبح يتأثر بعوامل كثيرة مـما يتأثر بها الغرب.
لذلك قلت إنّ صاعقة تنفجر في أوروبة قد يعقبها صواعق لا في الغرب فقط بل في الشرق أيضاً.
إنّ الأزمة الآخذة الآن بخناق الدول الأوروبية، والتي لم تعهد لها أوروبة مثيلاً منذ فجر تـمدنها إلى اليوم، لهي نتيجة خطأين منطقييـن فاضحيـن ارتكبتهما سياسة الـحلفاء عموماً وسياسة فرنسة خصوصاً: أما الأول منهما فهو قطع العلاقات مع روسية، وأما الثاني فهو وضع معاهدة فرساي التي لا أظن أنّ هنالك مفكراً متعمقاً يصح أن يطلق عليه هذا اللقب إلا ويقول باستحالة تنفيذها، لأنها تـحتوي في الدرجة الأولى على شروط ليست إلا شروط القاهر على الـمقهور، أي أنها شروط تتفق مع حق القوة الذي جاهر الـحلفاء أثناء الـحرب أنهم خاضوا غمار الوغى لإبطاله أكثر مـما تتفق مع أي حق أو عدل آخر، وموادها في الدرجة الثانية قابلة التطويل والتقصير كقطعة الـمطاط، فضلاً عن الفقرات الكثيرة التي يـمكن تأويلها وتفسيرها على أوجه عديدة.
يوجد في العالم فريق كبير من الذين قرأوا أبحاثاً سطحية في مسألة التعويضات واحتلال الروهر يقول بوجوب تنفيذ معاهدة فرساي كما يريد الـحلفاء أو بالـحريّ كما تريد فرنسة، ذاهباً إلى أنّ ذلك حق من حقوق الـحلفاء التي يؤيدها العدل، وحجتهم في ذلك أنه لو كان النصر في هذه الـحرب حليف ألـمانية لكانت ألـحقت بفرنسة خصوصاً وسائر أوروبة عموماً إجحافاً لم تسمع به أذن بشر. ولكني أرى أنّ هذه الـحجة فاسدة لأنه ليس من الـحكمة أن يتخذ تخميـن الناس إمكانية سوء حادث لم يقع ولم يعد هنالك خطر من وقوعه برهاناً لتبرير سوء فعل من جهة أخرى ليس له داع سوى داعي غرور الـمنتصرين وتشفّيهم، أو كما قال لويد جورج عندما رفض موافقة فرنسة على احتلال الروهر وهو «إنّ فرنسة تـحب أن تقفز على جسم ألـمانية الـمشلول الآن وتعركه كما يحب الأولاد الصغار أن يقفزوا على جسم جبار صريع ويدوسوه بأرجلهم.»
ومن الـمعروف الـمشهور أنّ الولايات الـمتحدة وروسية وسائر الدول الأخرى ما انحازت إلى فرنسة في الـحرب إلا بغية إنقاذها من خطر الدوس بالأرجل وليس لتعينها على دوس الغير. فإذا كان ذلك صحيحاً لا يكون احتلال فرنسة الروهر دون موافقة حليفتيها إنكلترة وإيطالية إلا نوعاً من الاستفادة من مساعدة الآخرين بـما لا يجوز الاستفادة به.
بعد أن انسحبت الولايات الـمتحدة من جمعية الأمـم التي كانت هي العامل الأكبر فيها ورفضت الاشتراك في حل الـمشاكل الأوروبية، لم تعد تلك الـجمعية إلا عصابة تـمثّل القاهرين القابضيـن على أزمة السياسة الأوروبية اليوم، ولم يبقَ في أوروبة غير الغالب والـمغلوب. لذلك كان كلما اعترضت ألـمانية على أمر أو رفضت تنفيذ فرض، فسواء كانت على حق في ما تفعل أم على شطط، عُدَّ عملها جريـمة تستحق عليها عقاباً شديداً. ولو لم تكن إنكلترة قد تنبهت إلى أنّ مركزها الدولي والأدبي وشرفها الأمـمي في العالم يدعوانها إلى التصرف بشيء من العدل والـحكمة والإنصاف فيما يختص بالـمسألة الألـمانية، فضلاً عن الـمصالح العديدة التي تضطرها إلى ذلك، لـما كانت أحجمت فرنسة عن اجتياح معظم ألـمانية وإرهاقها بالشروط وضرائب التعويضات وشلّ حركتها وتأثيرها في العالم بحجة أنّ تأمين حياتها وكيانها يقتضي مثل هذا الفعل، دون أن تخشى شراً أو خطراً أو تعتبر نفسها مسؤولة أمام أحد.
إنكلترة هي الأسد الذي يقضي بيـن السباع في أوروبة، ومـما لا شك فيه أنّ أحكامها في الشؤون الدولية أكثر عدلاً من سائر أحكام دول أوروبة، ومهما يكن من أمر ما أوَّلوا به ميلها إلى إنصاف ألـمانية في شؤون كثيرة وما نسبوه إليها من الـخداع والغش وما رموها به من التلكؤ عن مساعدة حليفتها فرنسة وعزوا هذا إلى إضمار الـمكر، فإن وقوفها في مواضع كثيرة في موقف القاضي والـمصلح فيما يختص بالـمسألة الألـمانية ووضعها نفسها في الـموضع الذي أخلته الولايات الـمتحدة لـمن الأمور التي يستحسنها ويقول بها كل مفكر مجرد عن التحيّز.
لا أرى أين الـمكر والـخداع في مواقف إنكلترة الأخيرة العادلة. فقد طالعت في مجلات عديدة مقالات مختلفة في هذا الـمكر الـمزعوم فرأيت أنّ أكثرها مبني على أنه عندما رأت إنكلترة أنّ استيلاء فرنسة على معادن الفحم في الروهر وضمّه إلى ما عندها من الـحديد ليس من مصلحتها عمدت إلى الـمداهنة والـمواربة وقالت بوجوب إنصاف ألـمانية. وهنالك رأي آخر عمد إليه القائلون بـمكر إنكلترة لفرنسة لتثبيت هذا الـمكر وهو أنّ إنكلترة لم تُصَب أثناء الـحرب بـما أصيبت به فرنسة من خراب بعض الـمدن وتدمير بعض الـمعامل وهلاك بعض الزروع. ويتخذون هذا الرأي أيضاً حجة لتبرير جميع إجراءات فرنسة التي تؤول إلى سحق ألـمانية. ولكن أليس أدعى إلى مكر إنكلترة أن تضع يدها هي على معادن الروهر وتأخذ لنفسها النصيب الأوفر من الفحم ولا تترك لفرنسة إلا حصة صغيرة منه لا تستحق الذكر، وهي في وسعها أن تفعل ذلك دون أن تخاف شر فرنسة أو تهددها بالتخلي عنها فيما لو هاجمتها ألـمانية في الـمستقبل إذا بدا لها منها شر. أما الرأي الآخر القائل بأن إنكلترة لم تصب بالأضرار التي أصيبت بها فرنسة ولم تكن في ذات الـموقف الـحرج الذي كانت فيه فرنسة لتحقد على ألـمانية حقد فرنسة عليها وتطلب منها ما تطلبه فرنسة فلا نحتاج في ردّه إلى أكثر من التنبيه إلى أنّ إنكلترة قد أهرقت دماء الألوف الكثيرة من أبنائها في سبيل الذود عن الـمدن والـمعامل والـمزارع الفرنسية التي لم يـمكن مع كل ذلك تنجيتها كلها من الـخراب لوقوعها في ساحة القتال. وفضلاً عن ذلك فإن موقف إنكلترة أثناء الـحرب لم يكن يقلّ خطورة عن موقف حليفتها فرنسة. ومن الأمور الـمعلومة التي لا يختلف فيها اثنان عاقلان هو أنه لو خرجت ألـمانية من هذه الـحرب ظافرة لـما أبقت لإنكلترة مستعمرة واحدة، ولكانت فقدت إنكلترة سلطتها البحرية ومصالـحها الاقتصادية وشؤونها التجارية، ولأصبحت تـحت رحمة ألـمانية مزاحمتها القوية كما كانت أصبحت فرنسة كذلك.
لا أظن أني إذا قلت إنّ الفظاعة الألـمانية، إذا كان نشوب الـحرب العالـمية يعدّ فظاعة ألـمانية، لها سوابق تبررها، أكون قد جرّمت الـحلفاء في محاولتهم كبح جماح ألـمانية وردّها على أعقابها خاسرة - أقول إنّ الفظاعة الألـمانية لها سوابق تبررها في النظام السياسي، لا بل إنها تقلّ في شؤون كثيرة عن فظاعات بعض دول الـحلفاء السابقة، فهي ليست بأكبر من فظاعة إنكلترة نفسها التي استولت على البحار بطرق قرصانية قبيحة، ثم جاءت الآن تقول بالعدل والإنصاف بيـن الدول، ولا هي بأعظم من فظاعة فرنسة التي طالـما اعتدت على ألـمانية وغيرها من الدول دون مسوغ، ثم تقول الآن بسحق ألـمانية لأنها اعتدت عليها وعلى بلجيكة، هذا إذا حسبنا عمل ألـمانية اعتداء على فرنسة بدون داعٍ، ولا هي بأقبح من الفظاعة الإيطالية يوم حاربت إيطالية تركية لأجل الاستيلاء على طرابلس الغرب، ولا هي بأشد من الفظاعة اليابانية يوم شهرت اليابان الـحرب على روسية. وتقلّ فظاعة ألـمانية كثيراً عن فظاعة إنكلترة وفرنسة وغيرهما من دول الـحلفاء التي أرادت إجبار الصيـن على قتل نفسها بالأفيون بأن أصلت الصيـن حرباً تعرف بحرب الأفيون لأن الـحكومة الصينية أرادت منع تـجارة الأفيون في بلادها، وكانت النتيجة أنّ الـحكومة الصينية اضطرت إلى إلغاء أمر ذلك الـمنع. ومهما يكن من الأمر فإن نهوض الـحلفاء وتعاونهم على مقاومة ألـمانية ليس جريـمة، ولكن يجب الانتباه إلى أنّ الفظاعة الألـمانية ليست جريـمة لا مثيل لها في التاريخ تستحق عليها ألـمانية السحق.
إذا كان الأمر كذلك فلماذا تضطر ألـمانية إلى دفع غرامة تقول كل دول الـحلفاء بإربائها على ما في وسع ألـمانية وعدم مطابقتها للعدل الدولي، ما عدا فرنسة التي تقول إنّ ألـمانية تـحاول خدع الـحلفاء بإظهار عجزها ثم تأبى هي الاشتراك في بعثة تدرس مقدرة ألـمانية الـمالية؟ هذا سؤال أرى أنّ الـجواب عليه سياسي حربي أكثر مـما هو إقتصادي مالي، ففرنسة لا يهدأ لها بال إلا متى رأت ألـمانية في حالة عجز هائل لا تتمكن معها من استعادة قوّتها ونفوذها السابقيـن.
لست أرى تعليلاً لذلك سوى الأحقاد الهائلة القديـمة بيـن الأمتيـن الـجارتيـن الفرنسية والألـمانية التي تخبو حيناً ثم تعود إلى الظهور على شكل ألسنة من لهيب تندلع إلى سائر العالم. فهذه الأحقاد التي كانت ولا تزال تهدد السلام في أوروبة والعالم بأسره هي التي تدفع فرنسة إلى احتلال الروهر والإصرار على إبقاء الغرامة الـحربية كما هي ووجوب دفعها في أوقاتها الـمعيّنة متسلحة في ذلك بـمعاهدة فرساي. أما أعداء ألـمانية والـمتحيزون لفرنسة فيقولون إنّ روح الـجندية الألـمانية هي التي تهدد سلام العالم، وإنّ فرنسة قد ذهبت إلى الروهر لإماتة تلك الروح وإنقاذ العالم من شرٍّ مستطير في الـمستقبل. وهنا تبرز سؤالات عديدة، للمتحيزين إلى ألـمانية الـحق في طرحها على بساط البحث، ومنها هل روح الـجندية الفرنسية أقلّ خطراً على العالم من روح الـجندية الألـمانية؟ هل كانت فرنسة مرة متساهلة مع ألـمانية في شأن من الشؤون فكالت لها ألـمانية بدل التساهل حروباً وأهوالاً؟ وهذه الأسئلة وغيرها تقودنا إلى الـخوض في أبحاث تاريخية طويلة ومجادلات سياسية عويصة ليس هذا الـمحل محلها.
لنفرض أنّ الـمتحيزين إلى فرنسة على حق فيما يدّعون، ولننظر في مسألة هامة وهي هل احتلال فرنسة الروهر والتشديد على ألـمانية يـميتان الروح الـجندية الألـمانية؟ نعلم أنه ما [إن] وطئت أقدام الـجنود الفرنسية والبلجيكية أرض الروهر حتى ابتدأت في تلك الـمقاطعة الألـمانية الغنية بـمعادنها ومعاملها مقاومة سلبية(1) شديدة ظلت أشهراً جرت في أثنائها معارك دموية فظيعة بيـن الأهالي الألـمانييـن وجنود الاحتلال الفرنسي-البلجيكي، فهل كانت يا ترى هذه النتيجة الطبيعية لإقدام فرنسة على احتلال الروهر دليل احتضار الروح الـجندية الألـمانية، أم هي دليل استيقاظ هذه الروح مـمزوجة بالكـره والـحقـد الشديـد على فـرنسة؟ لا أظن أنّ عاقلاً بهذا الـمعنى يشك في أنّ القول الثاني هو الـجواب الصحيح الصريح، فاحتلال فرنسة الروهر قد أيقظ الروح الـجندية الألـمانية التي كان قد أماتها سأم الـحرب وويلها بدلاً من أن يبيدها. ولا يـمكن أن ينسب توقف الـمقاومة السلبية إلى موت الروح الـجندية الوطنية الألـمانية، لأن الـحركات الوطنية التي انتشرت على أثر إعلان توقف الـمقاومة السلبية في طول ألـمانية وعرضها تدل دلالة واضحة على أنّ هذه الروح قد ابتدأت أن تتخذ لها شكلاً جديداً وتدخل في طور جديد خطير.
عند هذه الـحقيقة، لا يسعنا إلا الاعتراف بحسن موقف إنكلترة التي حاولت أن تـمنع فرنسة من ارتكاب جريـمة قد تـجرّ على أوروبة حرباً جديدة، وتخلق لها مشاكل ليست هي على استعداد لـمقابلتها وتـحمّلها فلم تفلح، ولكنها أفلحت في عدم مشاركة فرنسة وموافقتها على إجراءاتها بحيث أصبحت فرنسة الـمسؤولة الوحيدة عن الـمكاره التي قد تنتج عن تصرفها الـمجحف فيما يختص بألـمانية. ولكن فرنسة تبرر عملها بالاستناد إلى نصوص معاهدة فرساي التي لا تعتقد إنكلترة ولا إيطالية ولا غيرهما من الدول ذات الشأن بإمكانية تنفيذها إلا إذا حُوِّرت تـحويراً كبيراً. أما فرنسة فقد اتخذت تلك الـمعاهدة ستاراً تضرب من ورائه ألـمانية وتنفّذ فيها أغراضها.
تبرر فرنسة احتلالها الروهر وإجراءاتها الأخرى بقولها إنّ ألـمانية قد خرقت معاهدة فرساي، بيد أننا إذا تـمعّنا في هذه الـمسألة وجدنا أنّ فرنسة أيضاً قد خرقت معاهدة فرساي باحتلالها الروهر واتخاذها إجراءات صارمة ضد ألـمانية دون موافقة إنكلترة وإيطالية، وهو ما لا تنص عليه معاهدة فرساي، فكل عمل تقوم به إحدى دول الـحلفاء ضد ألـمانية بدون موافقة دول الـحلفاء كلها يُعدّ خرقاً لـمعاهدة فرساي.
لا تـميل فرنسة مطلقاً إلى التصرف بالطرق الـمقبولة الـمعقولة التي تريد إنكلترة وإيطالية الـجري عليها والتي تقول الولايات الـمتحدة بـموافقتها، وهي أن تُدرس حالة ألـمانية الـمالية وتقرَّر مقدرتها على الدفع، وأن تُخفَّض الغرامة إلى الدرجة التي تتمكن معها ألـمانية من الدفع، وأن تُعطى علاوة على ذلك مهلة لتنظيم أحوالها وترتيب أمورها الـمالية والاقتصادية، وأن تكون ألـمانية مطلقة التصرف في جميع شؤونها الداخلية.
ولكي نكون على بيّنة من أمر الـمسؤولية الكبرى الواقعة على فرنسة وحدها التي تفردت باتخاذ إجراءات صارمة بشأن الـمسألة الألـمانية، وعدم موافقتها على ميول حليفاتها، نلقي نظرة عامة على ما حدث ويحدث في ألـمانية من جراء احتلال فرنسة الروهر وتدخلها في شؤون ألـمانية الداخلية، فنرى أنه قد حدثت فيها الـمقاومة السلبية ثم توقفت وحلّت محلها الـحركة الوطنية والـحركة الوطنية الـملكية التي كان من ورائها تـجند الألوف في بافارية تـحت قيادة لودندُرف وهتلر الشهيرين.
ومع أنّ الـحكومة الـجمهورية في برليـن تـمكنت من إخماد هذه الفتنة في الظاهر، فإنها لا تزال متقدة في الداخل. ثم تَرَك ولي عهد ألـمانية هولندة وعاد إلى ألـمانية، ونظن أنّ وجوده هناك يزيد في نشاط الـحركة الـملكية. ولقد احتجت فرنسة احتجاجاً شديداً لدى الـحكومة الألـمانية على عودة ولي العهد إلى ألـمانية ولكن احتجاجها ذهب عبثاً، والـمقول أنّ الأمبراطور السابق غليوم نفسه يحاول العودة إلى ألـمانية ليقوم بنصيبه من العمل في سبيل إعادة الـملكية. وخلاصة الأمر أنّ في ألـمانية تياراً كهربائياً شديداً غرضه التخلص من «همجية فرنسة»، كما يقول رئيس الـحكومة الألـمانية. أما محاولة فرنسة تقسيم ألـمانية وإعلان جمهورية الرين فقد سارت في أثر محاولتها إماتة الروح الـجندية الألـمانية باحتلال الروهر وزادت في إثارة البغض الألـماني عليها.
كل هذه الأمور تـحمل على التشاؤم من الـمستقبل وتدعو إلى التخوف من نشوب حرب جديدة بيـن ألـمانية وفرنسة. فإنه إذا ظلت فرنسة مصرة على التدخل في شؤون ألـمانية الداخلية، وعدم قبول اقتراحات الولايات الـمتحدة ونصائح حليفتيها إنكلترة وإيطالية بأن تقلع عن عزمها على تنفيذ معاهدة فرساي كما هي، وأن ترجع عن محاولتها إرهاق ألـمانية وسحقها، فإن ألـمانية تنهض إذ ذاك نهضة جبار قد نفذ صبره على مناوشات عدوِّه، وتـمتشق الـحسام في وجه فرنسة مرددة قول الشاعر العربي:
أظــلـمــاً ورمـحــي نــاصــري وحـســامــي
وذلاً وعـــزّي قــائـــد بــزمــامـــي
ولــي بــأس مـفـتــول الــذراعـيـــن خــــادر
يــدافــع عــن أشـبـالــه ويـحـامــي
أعتقد أنه سواء أفلحت الـحركة الـملكية في ألـمانية أو انتهت بالانخذال، فلا يخلّص فرنسة من العداء الألـماني سوى العدول عن موقف الـمنتقم الـمتشفي الذي وقفت فيه منذ بدء الهدنة إلى الآن، واتخاذ موقف الـمتساهل الـمتسامح حباً بالسلام العام. وهي إذا عدلت عن مطامحها في ألـمانية وأظهرت رغبة حقيقية في التسامح من أجل توطيد السلام في العالم الذي هو الآن في حاجة إلى السلام أكثر من حاجته إليه في أي وقت آخر، لا يعود هنالك داعٍ لتخوفها من ألـمانية والروح الـجندية الألـمانية مهما قويت ألـمانية واشتدت روح جنديتها. لأن السلاح الأدبي الذي تكتسبه فرنسة بتساهلها يعينها على قهر ألـمانية في الـمستقبل كما كان عوناً لها على قهرها في الـماضي. أما إذا ظلت هي مصممة على الـجري على الـخطة الـخرقاء التي تشير إلى ضرب ألـمانية وهي ضعيفة الضربة القاضية فقد يحدث إذ ذاك أمر عجيب غريب، وهو أنّ الضربة القاضية التي توجهها فرنسة إلى صدر ألـمانية ترتد كما بسحر ساحر إلى قلبها هي، وبدلاً من أن تـجد هنالك قوة أدبية تؤيدها تـجد قوة أدبية تؤيد عدوتها وتعينها عليها، وليس هذا ببعيد الوقوع بعد أن بدت مطامحها للخاص والعام، واشتهر تفضيلها الانتقام على السلام.
(1) وردت «سليمة» فيما بعد.