لنفرض أنّ الـمحال مـمكن، ونقول مع القائليـن إنّ واجبات الـمرأة وبيتها ليست إلا قيوداً ثقيلة وسجناً مظلماً. ولكن مهما كان الـحجاب الذي ضربه الله على أعيننا كثيفاً غامضاً، ومهما تعامينا عن الـحقيقة الراهنة، فانه لا يـمكننا الإعراض عن تلك الـحقيقة التي نكاد أن نلمسها بأيدينا وهي أنّ عبودية الـمرأة، هذا إذا كان هنالك عبودية، ليست ناجمة عن استبداد الرجل ولا عن «تعوّده» استعبادها بل عن الطبيعة التي رتبت على الـمرأة وظيفتها وواجباتها التي يسميها بعض النظرييـن عبودية.
أنا لا أنكر أنه لا يزال في بلدان معيّنة في العالم عبودية حقيقية للمرأة، إذ فيها تباع الـمرأة بيع السلع وتشترى شراء النعاج. ولكن في تلك البلدان فقط حيث لا نور للحرية ولا ارتقاء في الأخلاق يوجد عبودية للمرأة - هناك فقط حيث لا حب ولا شعور ولا عاطفة يتزوج الرجل لأجل أنثوية الـمرأة ضارباً صفحاً عن جمالها ومحاسنها ونفسها وعواطفها وواجباتها وحقوقها - هناك يتزوج الرجل لأجل الأنثوية ورأس الـمال، لا لأجل الـحب والاحتفاظ بالزوجة الـمحبوبة.
والآن نأتي على وجه عبودية الرجل للمرأة. ولا تنسَ يا أخي أننا نظريون ضرب الله على بصيرتهم حجاباً كثيفاً حتى باتوا يعدّون الزواج عبودية. وقد شاءت مؤلفة الـمساواة أن تـحدد لنا وجهة عبودية الرجل في الزواج، فقالت إنه يكون أسير إحدى عبوديتيـن: عبودية الـمرأة الفقيرة وعبودية الـمرأة الغنية. وقالت إنّ هذه وعبودية الـمرأة تزولان بالـمال والكفاءة الشخصية.
ولـمّا كانت عبودية الرجل ناجمة عن انحطاط أخلاق الـمرأة الـمستعبدة كما بيّنته سابقاً، فإنني وأنا لا أزال واحداً من أولئك النظرييـن الذين يعتقدون أنّ في الزواج عبودية، أخالف «مي» في أنّ السبيل إلى التحرير من ربقة هذه العبودية هو الـمال والكفاءة الشخصية، لأن العبودية كما سبق لي القول تكون نتيجة انحطاط أخلاقي، والـمال لا يـمكن أن يسوي بيـن الراقي والـمنحط وبيـن النابغ والـخامل.
العبودية التي تتكلم عنها «مي» لا يحررها الـمال. وعندي أنّ الرجل يجب أن يختار لنفسه أهون العبوديتيـن وهي عبودية الـمرأة الفقيرة، لأن العبودية بلا محاسبة أفضل ألف مرة من العبودية بـمحاسبة.
لا أنكر أنّ واجبات الـمرأة تختلف عن واجبات الرجل. ولكن الاختلاف في واجبات الـمرأة والرجل اختلاف طبيعي لا وجه للعبودية فيه. فإذا كانت الـمرأة غير مساوية للرجل في شؤونه الـخارجية فلأن وظيفتها وواجباتها الطبيعية لا تخولانها ذلك، ليس لأنها مستعبدة كما يظن.
وكما أنّ الرجل لا يـمكن أن يساوي الـمرأة في واجباتها ووظيفتها، كذلك لا يـمكن للمرأة أن تساوي الرجل في واجباته ووظيفته.
وعلى كل فإنني أرى أنّ البحث في كيفية «تـحرير» الـمرأة والرجل من «عبوديتهما» الزوجية بطريقة جدية تـحقير لـمدارك العقل البشري، فضلاً عن أنه لا يأتي بنتيجة غير وجوب الإقلاع عن الزواج والرجوع إلى العصر الـحيواني الذي كان عليه الإنسان في بدء عهده، لذلك أقتصر على ما ذكرته آنفاً بهذا الصدد.
وإنني لا يسعني إلا أن أعجب كيف أنّ مثل هذه الـحقيقة تغيب عن نظر «مي»، فتعدّ الزواج في جملة خيوط العبودية الـمتعددة، وتقول إنّ الـمرأة عبدة للرجل، وإنّ الرجل اعتاد استعبادها ليس بالـجور والضغط فقط بل بالتحبب واللطف والتدليل.
إنّ العبودية الزوجية التي أتت على ذكرها «مي» عبودية وهمية لا أثر لها إلا في أدمغة قوم انصرفوا إلى الأوهام ولم يذوقوا حلاوة الارتباط الزواجي. والـمرأة التي كثيراً ما تتغلب عواطفها على عقلها، تندفع في تيار هذه الأوهام دون أن تـحاول الوقوف لـحظة واحدة للنظر فيما هي مندفعة نحوه. وإنّ من ذهب إلى الولايات الـمتحدة حيث كثر محررو الـمرأة وتفحّص ماهية السيدات القائمات بحركة التحرير، لرأى أنّ أكثرهن من العانسات اللواتي لم يسعدهن الـحظ بأن يصرن من ربات العائلات.
لذلك قلت إنّ البحث في وجوب تـحرير الـمرأة ضرب من التحقير لـمدارك العقل البشري، إذ إنّ العبودية الزوجية عبودية وهمية بحتة.
أنطون سعاده